الأصلان اللذان يُعتمد عليهما الفقيه والمفسر والعالم هما القرآن الكريم والروايات الشريفة، وعليهما يدور الاستدلال الفقهي، فيعترض هذا العالم على هذا العالم، وهذا الفقيه على هذا الفقيه أيهما أقرب إلى النص الديني (الآية والرواية)، ولا يجوز الاعتراض على فتوى فقيه طالما أنه يؤصلها إلى النص الديني حتى لو خالف الفقهاء الآخرين، ولذا لا يخلو فقيه من فقهائنا اليوم من مخالفة المشهور.
وإجماع الفقهاء لا يكون حجة إلا إذا كان كاشفاً عن وجود نصّ ديني (وهو ما يسمى بالإجماع التعبدي).
أما الإجماع في الفتوى (الإجماع المدركي) فليس بحجة حتى لو أجمع جميع الفقهاء على رأي، فلا يؤاخذ على فقيه متأخر عنهم أن يخالفهم جميعاً طالما أنه يستند في رأيه على الكتاب والسنة.
وسيرة المتشرعة ليست بحجة إلا إذا كانت كاشفة عن قول المعصوم وفعله، ولا بد لذلك أن تكون متصلة زماناً بزمانه، وكانت في ساحة إقراره أو إنكاره، فإذا نشأت سيرة للمتشرعة في الأزمان المتأخرة عن زمان أهل البيت (عليهم السلام) فلا حجة فيها.
والآداب والمراسيم والاستحسانات والأعراف التي قد تنتشر في الأوساط الدينية ليست بحجة، ولا يحتج بها فقيه على فقيه، إلا العاجزون من أهل المغالطة والخصومات الذين لم يصلوا إلى ذوق الفقاهة، ولا تقوى العلماء الذين يحاولون تحريض العامة على مخالفيهم، بما يألفه العامة من سيرة العلماء الذين عرفوهم.
وعلوم الاستدلال الفقهي في الحوزة الدينية تدور مدار التنقيح في الغالب، أي تنقيح ما يمكن أن يكون نتيجة للنص الديني (الآية أو الرواية) وما يمكن أن يتداخله الظن فيرفض، لئلا يقول الفقيه في دين الله اعتماداً على الظن.
والأمر في العقائد أكثر تشدداً، وكذلك في التفسير، وحالياً نجد اعتراضات وجيهة على النصائح الأخلاقية لبعض العلماء، والمطالبة بدليل من النص والنقض عليهم بنصوص مخالفة، سعياً لتأصيل علم الأخلاق تماماً إلى الثقلين.
ولا يمكن الاحتجاج بأقوال العلماء وآرائهم على بعض، فقول العالم ليس بحجة وإنما يُنظر في استدلاله وفق موازين الاستدلال القطعية، فلا يقال للعالم المعاصر: أن المفيد أو الطوسي أو الصدوق كانوا يرون كذا وكذا وأنت تخالفهم!
فكل هؤلاء العلماء لم يبق فقيه من فقهائنا لم يخالفهم في الفقه، ولا حجة في ما يرون بل الحجة فيما يروون كرجال ثقات، فما كان منهم عن رواية فهم ثقات في سندها وننظر في بقية السند بينهم وبين المعصوم أو بينهم وبين الرواة الآخرين بعدهم، وما كان من هؤلاء العلماء عن رأي واستدلال فليس بحجة، لأن مصادر الاستدلال لا زالت موجودة يمكن لكل عالم أن ينظر فيها ويستنتج كما استنتجوا، وهذا هو الاجتهاد في المذهب الشيعي وهذا معنى أن تكون من شيعة علي (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام) فلو كنت تأخذ أقوال الصدوق والمفيد والطوسي لأنها أقوالهم فأنت على مذهب غير التشيع، وليس هذا المعنى أن يكون للمجتهد المعاصر أن يقول بما يرى من دون دليل بل لا بد أن يؤصل أقواله كما تقدم إلى آية أو رواية.
والتأصيل إلى الآيات والروايات مهارة مكتسبة لا يجيدها الكثير من الناس فيعتمدون على أقوال العلماء وخياراتهم في مجال العمل، لكي لا يقعوا في احتمال مخالفة الشريعة، ولكن في مجال النظر والمعرفة الدينية فمن الأفضل أن يتعرفها المؤمن مباشرة من النص، لينتفع من بركات النص ويتعلم ويتصل مباشرة بالنص من أجل تطوير نفسه، وليس من أجل أن ينصب نفسه معلماً للآخرين ومفسراً وفقيهاً، بمعزل عن الوسط العلمي.
الدكتور عماد علي الهلالي