قال تعالى: {فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَ نِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (ال عمران 61)
تسمى هذه الآية المباركة اية (المباهلة)، وقد اختصت باهل البيت (عليهم السلام) فهي احدى المناقب التي حسدهم عليها الناس. قال اهل اللغة في معنى المباهلة:
قال الجوهري: (والمباهلة : الملاعنة . والابتهال. التضرع . ويقال في قوله تعالى : { ثم نبتهل } أي نخلص في الدعاء ). الصحاح الجوهري ج 4 ص 1643
وقال ابن منظور: (وابتهل في الدعاء إذا اجتهد . ومبتهلا أي مجتهدا في الدعاء . والابتهال : التضرع . والابتهال : الاجتهاد في الدعاء وإخلاصه لله عز وجل . وفي التنزيل العزيز : ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، أي يخلص ويجتهد كل منا في الدعاء واللعن على الكاذب منا ). لسان العرب ج 11 ص 72
ولا تقتصر دلالة الآية المباركة على اظهار فضل اهل البيت (عليهم السلام) وحسب بل ثمة مدلولات أخرى يمكن فهمها من الآية الكريمة:
المدلول الأول: ان الآية الكريمة حددت أسلوبا من أساليب مواجهة الأعداء، وأعني به مواجهة القيادة الاسلامية المباشرة للعدو، ففي بعض الأحيان يتوجب على القيادة العليا التصدي للهجمات التي تشن على الإسلام ـــ بمعنى ان بعضها يمكن للحلقة الوسيطة او المؤسسات المتخصصة ان تنوب عن القيادة العليا في المواجهة ـــ ففي حالة هجوم النصارى على الإسلام لم يك أحد قادر على المواجهة غير الرسول واهل بيته (عليهم السلام)، وفي حال عدم تصدي الرسول واهل بيته لما تمكن المسلمون من صد هجومهم. وهذا يعني ان القيادة الإسلامية لا بد ان تتصدى إذا ما وجدت هجمة او تخطيط يريد مسخ هوية المسلمين. لذا فان الروايات اشارت الى تراجع وفد النصارى عن هدفهم ما ان رأوا الخارجين للمباهلة.
ورد في ارشاد المفيد: (فاجتمع الأسقف مع عبد المسيح والعاقب على المشورة ، فاتفق رأيهم على استنظاره إلى صبيحة غد من يومهم ذلك . فلما رجعوا إلى رحالهم قال لهم الأسقف . انظروا محمدا في غد ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنه على غير شئ . فلما كان من الغد جاء النبي عليه وآله السلام آخذا بيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين بين يديه يمشيان وفاطمة – صلوات الله عليهم – تمشي خلفه ، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم.
فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله قد أقبل بمن معه ، سأل عنهم ، فقيل له : هذا ابن عمه علي بن أبي طالب وهو صهره وأبو ولده وأحب الخلق إليه ، وهذان الطفلان ابنا بنته من علي وهما من أحب الخلق إليه ، وهذه الجارية بنته فاطمة أعز الناس عليه وأقربهم إلى قلبه . فنظر الأسقف إلى العاقب والسيد وعبد المسيح وقال لهم : انظروا إليه قد جاء بخاصته من ولده وأهله ليباهل بهم واثقا بحقه ، والله ما جاء بهم وهو يتخوف الحجة عليه ، فاحذروا مباهلته ، والله لولا مكان قيصر لأسلمت له ، ولكن صالحوه على ما يتفق بينكم وبينه ، وارجعوا إلى بلادكم وارتؤوا لأنفسكم ، فقالوا له : رأينا لرأيك تبع ، فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنا ننهض به). الارشاد الشيخ المفيد ج 1 ص 168
ان الشريعة الإسلامية تتعرض اليوم لهجمة شرسة من قبل اعداؤها لمحقها وتشويهها، بمحاولة فرض قانون (العنف الاسري) المزمع اقراره في العراق. ومن المؤكد ان بنودا منه تعارض الشريعة الإسلامية بشكل صارخ يندى له جبين أي مسلم. ومما يؤسف له ان القيادة الدينية (العليا) لحد هذه اللحظة لم تحرك ساكن! وكأن التلاعب بالشريعة وفتح باب الفساد على مصراعيه لم يعنها وليس مسؤوليتها، في حين ان الروايات حددت مهمة القيادة الدينية بشكل واضح وصريح، فأطلقت عليها (حصون الامة) و (أمناء الرسل). وعلى فرض قولهم ان القضية موكولة الى البرلمان العراقي ليقر ما يراه مناسبا ولا علاقة للمرجعية (العليا) لأنه ليس من اختصاصها او بدواعي الدولة المدنية. قلنا: ان هذه المحاولات للانسلاخ عن المسؤولية الشرعية لا تجدي نفعا بعد الان؛ لان الجميع يعلم بان قانون العنف الاسري لا يتماهى مع روح الإسلام بل حقيقته استنساخ لقوانين غربية، وها هي امامنا نتائج القوانين الغربية التي انتجت مجتمعا متفسخا تفتك به الامراض المادية والمعنوية.
اليس من واجب القيادة الدينية ان تحول دون كل ما من شانه قتل المجتمع المسلم؟ فكيف جاز البحث عن عذر لعدم قيام القيادة بواجبها الشرعي والأخلاقي؟ ولمن يدعو لدولة مدنية فان القوانين المعمول بها في العراق كفيلة في الحفاظ على حقوق المرأة والطفل، ولا تعارض في رفض قانون العنف الاسري والدولة المدنية. وعلى فرض ان المرجعية (العليا) تريد ان تنأى بنفسها عن الدخول في هذه القضايا لأنها مرجعية دينية، قلنا: إذا لم لا توجه مؤسساتها واتباعها للوقوف ضد هذا القانون وتخلق رأيا عاما ليحول دون اقراره؟ وبذلك يتحقق عدم دخولها بالتفصيلات.
وفي حال تخلت القيادة الدينية (العليا) عن مسؤوليتها فلا يمكن للمجتمع المسلم السكوت عن هذا الانتهاك؛ لان الترددات السلبية ستكون حصة الفرد والمجتمع العراقي. في حال اقر هذا القانون فان بابا واسعة ستفتح لتفسخ المجتمع، وسيسهل اتهام أي شخص، فالذي لديه عداوة مع اخر يمكن استخدام بعض بنود هذا القانون لينال منه، مثال ذلك:
(بين الفصل الرابع تحريك الدعوى الجزائية عن جرائم العنف الاسري حيث اشارت المادة(٨) من له حق تحريك الدعوى وكذلك ألزمت كل مكلف بخدمة عامة بتحريكها، ويمكن تحريك الدعوى الجزائية في جرائم العنف الاسري بإخبار ولو كانت من الجرائم التي لا تحرك الدعوى فيها الا بشكوى من المجني عليه او ممثله القانوني وتحرك الدعوى بحسب الاختصاص المكاني، والمخبر في جرائم العنف الاسري ان يطلب عدم الكشف عن هويته).
على هذه المادة فان الجميع مهدد وان لم يقم بارتكاب أي جريمة، فلا أحد في يامن على نفسه من طائلة هذا القانون. فضلا عن القضايا الأخرى التي لا تتلاءم مع المسلمين في العراق.
ومما يثير العجب ان الحكومة العراقية تسعى لإقرار هذا القانون الذي يتطلب صرف مليارات الدولارات ومن جهة أخرى هي مدينة بأموال طائلة للآخرين وتبحث عن مقرضين! وأوقفت العمل في عشرات المشاريع تحت ذريعة عدم وجود المال الكافي لإتمامها.
وبما ان لا مباهلة اليوم بالمعنى الذي جاء في الآية المباركة، لعدم وجود مقوماتها، فلا العدو يعلن هويته ويبينها لتلزم القيادة بمباهلته بالمعنى المعروف، ولو فرضنا انه أعلن هويته فان القيادة العليا لن تدعي هذا النمط من المواجهة لأسباب كثيرة. إذا لا بد من التصدي لكل المحاولات الرامية لطمس الشريعة الإسلامية؛ لان المباهلة تتضمن حماية الشريعة من الأعداء، وتحصين الامة من الانحراف. والسؤال الذي يفرض نفسه، اثمة مانع يمنع القيادة الدينية العليا من التأسي برسول الله (صلى الله عليه واله) واهل بيته (عليهم السلام) في دفاعهم عن الدين؟
المدلول الثاني: على الرغم من ان موقع الحادثة كان في المدينة أي بعاصمة الدولة الإسلامية الا ان وفد النصارى كان يشعر بالأمان التام، وهذا يدل على الأسلوب الإنساني الذي كان يتعامل به الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله) مع الصديق والعدو، فحق الاعتراض مكفول إسلاميا ولم يسمح رسول الله بإرهاب واكراه أي أحد على معتقد او اعتناق دين معين، ما دام يحافظ على الأطر العامة للمجتمع.
وهذا خلاف ما نشهده ونعيشه اليوم من اكراه فكري وارهاب سياسي، فثقافة احترام الراي الاخر والحوار البناء قد غابت عن المشهد الثقافي والسياسي، بل وصل في أحيان كثيرة الى التصفية الجسدية لا لجريمة اقترفت الا انه يختلف في الرأي.
المدلول الثالث: ان وفد النصارى الذي جاء يحاج الرسول (صلى الله عليه واله) كان يتحلى بالعقلانية، فما ان رأى الرسول خرج باهل بيته الكرام حتى علموا بصدق دعوته، ولم تسوقهم رعونتهم الى نهايتهم الحتمية فانسحبوا بشكل مؤدب وأقروا له بالصدق.
اما أعداء اليوم فالرعونة هي التي تسوقهم لمواقفهم العدائية وغابت عنهم العقلانية والتروي وان كانوا يتعاملون مع ما يعدونهم أعداء، فالولايات المتحدة التي سعت جاهدة منذ سنين خلت لفرض قانون العنف الاسري مع علمها ان الشعب العراقي رافض له الا انها لا زالت مصرة على اقراره. وبهذا تبين للعالم اجمع انها ليست مع الديمقراطية التي تزعم ارساؤها في العالم بل انها تمارس الدكتاتورية فلا تختلف عمن وصفتهم بذلك.