الحمد لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله وحبيبه وصفيِّه وحافظ سرّه ومبلِّغ رسالاته، سيِّدنا ونبيِّنا ومولانا أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ﴾. إنّ سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المباركة هي أحد منابع المعرفة التي ينبغي على كلّ مسلم أن يستقي منها لاستكمال صلاحه وتصحيح نظره.
وقبل الدخول في الموضوع، لا بدَّ من إيراد مقدّمة قصيرة أذكّركم بها، وهي أنَّ واحدة من نعم الله علينا – نحن المسلمين-. ومفخرة من مفاخرنا على أتباع الأديان الأُخرى. هي أنَّ قدراً كبيراً من أقوال الرسول وأحاديثه المتواترة والموثوق بها ما زالت مصونة ومتداولة بيننا.
وهذا ما لا يستطيع أن يدّعيه أتباع الأديان الأُخرى؛ إذ ليس بإمكانهم أن يقولوا إنّ العبارة الفلانيّة-مثلًا-هي ما قاله موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام فعلًا. صحيح أنَّ بين أيدينا الكثير ممَّا ينسب إليهما، ولكن لا أحد يستطيع أن يقطع بذلك.
والأمر الآخر هو أنَّ حياة نبيّنا واضحة ومدعومة بالأسناد الموثّقة، حتّى أنَّها في دقائقها وجزئيّاتها ليست خافية علينا. ولا يعترينا الشكّ في صحتها. وهذا ما لا يَصدُقُ على أيّ نبيّ آخر.
إنّنا نعرف سنة ولادته، بل يوم ولادته، وفي أيّ يوم من أيّام الأسبوع كان ذلك، ونعرف فترة رضاعته والزمن الذي أمضاه في الصحراء، وفترة ما قبل بلوغه، وكذلك الأسفار التي قام بها إلى خارج الجزيرة. والأعمال التي قام بها قبل أن يُبعث نبيًّا، وفي أيّ سنّ تزوّج، وما رزق به من الأولاد، وأعمارهم وتواريخ وفَياتهم، وأمثال ذلك. حتّى يصل إلى مرحلة البعثة والنبوّة، وهي مرحلة أجلى وأوضح؛ لأنّها كانت حدثًا ضخمًا سُجّلت بكلّ دقائقها: مَن أوّل من آمن به. ومن كان الثاني، ومن كان الثالث، ومتى آمن فلان، وما هي الأحاديث التي جرت بينه وبين الآخرين، وما كانت أعماله، وكيف كانت سيرته؟… كلّ ذلك واضح في أدقّ تفاصيله.
أمّا النبيّ عيسى عليه السلام، وهو أقرب الأنبياء العظام وأصحاب الشرائع إلينا، فإنَّه لولا تأييد القرآن له، ولولا اعتقاد المسلمين بصدق ما جاء عنه في القرآن. وأنّه نبيّ إلهيّ حقيقي، لما كان بالإمكان معرفته وإثبات وجوده في العالم.
إنَّ المسيحيّين أنفسهم يعتقدون أنَّ تاريخ ميلاد المسيح تاريخ موضوع، وأنّ القول بأنّه قد مرَّت الآن 1975 سنة على ميلاده لا دليل عليه، وليس في التاريخ ما يثبته. بل قد يكون ميلاد المسيح حدث قبل ذلك بثلاث مئة سنة، أو بعد ذلك بمئتي سنة أو ثلاثمئة سنة. ولكنّنا إذا قلنا إنّه قد مضى على هجرة نبيّنا 1395 سنة قمريّة، أو 1954 سنة شمسيّة، فإنَّ ذلك لا يعتريه أدنى شكّ. هنالك بعض المسيحيّين.
وأعني بهم المسيحيّين الجغرافيّين– لا المسيحيّين المؤمنين– يُنكرون أصلًا إن كان أحد في العالم باسم المسيح، ويقولون: إنّ حكاية المسيح أسطورة مصطنعة، فهؤلاء يشكّون حتّى في وجود المسيح أصلًا.
بديهي أنَّ هذه المزاعم مردودة في نظرنا، لأنّ القرآن أكّد وجود عيسى عليه السلام، ولمّا كنَّا نؤمن بالقرآن، فلا يمكن أن نشكّ بأنَّ عيسى عليه السلام كان نبيًّا من أنبياء الله المرسلين.
إنَّ مسائل من قبيل: من هم حواريّو عيسى، ومتى ظهر الإنجيل بصورة كتاب، وكم إنجيلًا هناك؟ تعتبر مسائل غامضة عند المسيحيّين. أمّا نحن المسلمين، فإنَّ مصادر أقوال نبّينا ومصادر سيرته بيّنة لا يعتريها أيّ غموض أو إبهام، ويمكن الاعتماد عليها اعتمادًا قطعيًّا، لا ظنّيًّا.
إنَّ ما يلزمنا أن نستفيده من حياة نبّينا هو ما في أحاديثه وما في سيرته كليهما. أي إنَّ أقواله وأفعاله ينبغي أن تكون هادية لنا في مسيرتنا وسندًا لنا نعتمده ونتّكئ عليه.
في البدء، سوف أتكلّم عن الأقوال النبويّة الشريفة، ومن ثَمَّ أتناول أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم بالدرس والتعليق.
أهمّ ما يتعلّق بأقوال العظماء وأحاديثهم هو أنّها تتضمّن أُمورًا دقيقة مطلوب من الأفراد إدراكها، وعلى الأخصّ، أقوال نبيّنا الكريم التي قال عنها: “لقد أُعطيتُ جوامع الكلم”. أي إنَّ الله قد وهبني القدرة على أن أضع في مقولة قصيرة علمًا من العلوم. وقد أظهر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في أفعاله أيضًا.
كان الجميع يسمعون كلام الرسول الكريم، ولكن، هل كان الجميع قادرين على الوصول إلى أعماق كلامه كما ينبغي؟ لا، أبدًا. ولعلَّ خمسة وتسعين بالمئة من السامعين، أو حتّى أكثر من ذلك، لم يكونوا يبلغون مداها.
إنَّ النبي نفسه قد تنبّأ بذلك فقال في الحديث المعروف الذي ذكرته الكتب المعتبرة، مثل “الكافي” و”تحف العقول” ونقله الرواة الشيعة والسُّنَّة: “نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، وبلَّغها من لم يسمعها”.
ثمّ أضاف صلى الله عليه وآله وسلم: “فرُبَّ حامل فقهٍ غير فقيهٍ، وربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه”.
ففي “رُبَّ” هذه إشارة إلى المستقبل الذي يكون وسيلة إيصال الحديث إليه هو هذا الشخص الذي قد يحمل قولًا عميق المغزى، ولكنّه نفسه ليس بمستوى العمق الذي ينطوي عليه ذلك الكلام.
وقد تجد أُناسًا يحفظون تلك الأقوال الفقهيّة التي لا يستطيعون بأنفسهم بلوغ أغوارها، فينقلونها إلى أُناس آخرين أدقّ منهم فهمًا وأعمق إدراكًا، فيكون هؤلاء أقدر على أن يستخلصوا من تلك الأقوال معاني وأسرارًا لم يكن يفهمها الناقل. ولهذا نلاحظ أنَّ أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تكتشف فيها– كلّ حين– أعماقًا أُخرى، ولا أقول تزداد عمقًا.
لقد تحدّث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن موضوعات شتّى، كالأخلاق، والفقه، والزهد، والمعارف، والفلسفة.
إنَّ تاريخ العلوم الإسلاميّة يكشف بجلاء أنَّ التوصّل إلى المعاني العميقة في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إنَّ علماء القرن الأوّل والثاني لم يبلغوا مبلغ علماء القرن الثالث في الوصول إلى أعماق أحاديثه صلى الله عليه وآله وسلم. وعلماء القرن الثالث كانوا أقلّ وصولًا من علماء القرن الرابع، وهكذا.. وها هنا موطن إعجاز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
بديهي– كما تعلمون–أنَّ أوصياء النبيّ الكريم-الأئمّة الأطهار عليهم السلام-لا يختلف حالهم، وكلامهم عن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنَّما ينسحب قولنا على الأفراد العاديّين، لا على الأئمّة المعصومين.
فإذا أخذنا فقهنا كمثال، نرى أنَّ الشيخ مرتضى الأنصاري– الذي جاء متأخّرًا بعد الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والشيخ الصدوق بتسع مئة سنة– أقدر منهم على شرح أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتفسيرها.
ولا يسعنا هنا إلّا إبداء الأسف؛ لكوننا– ونحن أُمَّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم –لا يستطيع أحدنا أن يذكر أربعة أحاديث أو خمسة من الأحاديث الشريفة. حتّى بنصّها دون شرحها وتفسيرها، ولا نحن قادرون أيضًا على ذكر بضع حوادث من سيرة رسول الله.
إنَّ أحد كتَّاب إيران المعروفين، والذي لم يكن في أوائل أمره يدين بأيّ دين، ولكنَّه– على أثر قراءته لبعض كتبي التي نشرتها– اتّصل بي وأظهر بعض الميل نحو أفكاري. وقد قال لي يومًا: إنّه يقوم بترجمة كتاب في حكمة الأديان، أي الحكمة الموجودة في كلّ دين من الأديان. ولكنّه عندما يصل إلى النبيّ الكريم لا يذكر سوى بضع كلمات قصار…
ولمّا كانت ترجمته ترجمة حرّة فقد ارتأى أن يزيد من تلك الكلمات، وقال إنّه قرّر أن يزيد مئة آية من القرآن، ومئة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومئة كلمة من كلمات الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، مستعينًا بترجمة القرآن وكتاب نهج البلاغة. ولكنَّه فيما يتعلّق بالأحاديث الشريفة لم يعثر على ترجمة فارسيّة، فطلب منِّي أنْ أختار مئة حديث شريف وأترجمها له، لكي يصوغها هو بحسب أسلوبه ويدرجها في الكتاب.
فأدرجها في ترجمته لكتاب “حكمة الأديان”. التقيت به بعد ذلك بزمن فسألني: أحقًّا كانت تلك الأقوال ممَّا قاله نبيّنا؟ والله ما كنت أدري ذلك! مع العلم أنَّ هذا الرجل من كبار أدبائنا، وممَّن له وزنه في المحافل الأدبيّة الخارجيّة، وعندما يدور الكلام حول أدباء من الدرجة الأولى فلا بدَّ أن يكون هو من بينهم.
كان حسب قوله، من السادة الذين ينتمون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسبًا، وقد قضى حياته بين الكتب، ولكنَّه مع ذلك، لم يصل إلى علمه أنَّ لنبيّنا أقوالًا مثل تلك. وأردف قائلًا: إنَّني الآن أرى أنَّ أقوال نبيّ الإسلام تفضل على أقوال الأنبياء الآخرين، وهي أعمق كثيرًا وأغنى بالمعاني.
فلماذا نكون– نحن المسلمين– مقصِّرين إلى هذا الحدّ، بحيث أنَّ أحد أدبائنا–وهو مقصِّر أيضًا بالطبع–لا يدري أنَّ لنبيّنا أقوالًا حكيمة!
خطر لي قبل سنوات أن أضعَ كتابًا عن سيرة نبيّنا الكريم بهذا الأسلوب الذي سأصفه، فجمعت الكثير من الملاحظات والمذكّرات، لكنَّني كنت كلَّما توغّلت أكثر وجدتني أخوض بحرًا أعمق وأعمق، إلَّا أنَّني لم أترك الأمر على الرغم من إدراكي بأنَّي لا أستطيع أن أزعم أنَّني قادر على كتابة السيرة النبويّة.
ولكنَّني تمسّكت بالقول المأثور: “ما لا يُدرك جلُّه لا يُترك كلُّه”، وقلت: سأكتب في ذلك، وليأتِ بعدي الآخرون ليكتبوا أفضل وأكمل. فكلَّما تعمّق الإنسان في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يجدها ما تزال أعمق، كما هي الحال مع أقواله.
إنَّ أفعاله من الدقّة بحيث يمكن وضع القوانين على هدي تفاصيلها. إنَّ عملًا بسيطًا من أعماله إنَّما هو مصباح أو شعلة من نور كاشف ينير الطريق أمام المرء لمسافات بعيدة.
يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية