لقد عرف القاصي والداني ماذا كانت تعني مدرسة الإمام جعفر الصادق [ع] -والد الإمام الكاظم [ع]- بالنسبة للتاريخ والإنسانية، لقد مثلت قفزة في التاريخ، ونقلة من حيث الكم والنوع في رحاب طلب العلم والتوسع في آفاق الفكر بشكل عام.
قام الإمام الصادق ببناء صرح جامعته الكبرى في وقت انشغلت فيه المنطقة بصراعات سياسية بين الجناح الأموي والجناح العباسي، والتي آلت فيما بعد إلى انقضاء عهد الحكم الأموي ونشوء العهد العباسي، وحتى في بداية نشوء الحكم العباسي الفتي، كان الحاكم العباسي مشغولا بتصفية خصومه وترسيخ بناء الدولة الجديدة؛ وهو أمر استثمره الإمام الصادق [ع] في بناء صرح مدرسته الفكرية.
تخرج من مدرسة الإمام الصادق [ع] حوالي 4000 إنسان، كل يقول “حدثني جعفر بن محمد”، كما تنقل لنا كتاب التاريخ هذا بأمانة، ومن أقطاب من تخرج من هذه المدرسة الفكرية بعض من أئمة المذاهب الأربعة التي يعتمدها المسلمون إلى يومنا هذا في مشارق الأرض ومغاربها في أخذ أحكامهم الدينية، وقد كانت بحق وباعتراف المؤرخين الصرح الفكري الذي أحيا كتاب المسلمين الخالد القرآن الكريم وسنة رسول الله [ص].
إن اعتقاد الشيعة الإمامية في الإمام الصادق [ع] ليس اعتقادا تقليدياً، فهو ليس فقيهاً كسائر الفقهاء تعلم علومه بالطريقة التقليدية المألوفة، لكنه –برأيهم- امتداد الرسالة التي جاء بها الرسول الكريم محمد [ص] وهو إمام مفترض الطاعة منصوص عليه من قبل النبي [ص] بأمر الله. وهو معصوم يؤدي عن الرسول الأمانة التي أوكلت إليه بعد وفاته.
فـ نحن لا نستغرب من غزارة علمه وتوسعه في ميادين الفكر والمعرفة، كما يستغرب من لا يعتقد بإمامته التي هي منصب إلهي، لأننا نعتقد أنه مسدد من قبل الله لضرورة اكتمال الحجة على الناس.
فلم تكن هذه المدرسة تعطي دروسها في الفقه والتفسير والحديث فحسب، بل تجاوزتها الى علوم طبيعية نسميها اليوم الكيمياء والفيزياء والأحياء وغيرها. واصل الصادق [ع] قيادة مدرسته حتى نهاية حياته الشريفة، ثم آلت القيادة الى ولده الإمام موسى بن جعفر [ع]، فواصل إلقاء الدروس ونشر الفكر المحمدي على تلامذته، وقد عدّ الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه (حياة الإمام موسى بن جعفر [ع]) أكثر من ثلاثمائة طالب أخذ عنه العلم.
بقي الأمر على هذا الحال في الشطر الأول من إمامته [ع]، وخاصة أيام الخليفة المنصور الذي أظهر له جانب المهادنة كما أسلفنا في بداية البحث، بيد أنه في عهد التالين من الخلفاء وخاصة هارون الرشيد، انحسر نشاط الإمام [ع] من جراء المضايقات التي فرضتها السلطة الحاكمة والاعتقالات المتكررة للإمام.
أودع تراث الإمام موسى بن جعفر [ع] طلبته في كتبهم التي صنفوها وفي المباحث التي كتبوها، ثم نقلوها لغيرهم، وهي مودعة الآن في كتب الشيعة الكبرى، وهي المعين الذي يستقي منه طلبة العلوم الدينية والفكرية معارفهم.