لقد تحلّى الإمام الهادي (عليه السلام) بمكارم الأخلاق التي بعث جدّه الرسول الأعظم لتتميمها، واجتمعت في شخصيته كل عناصر الفضل والكمال التي لا يسعنا الإحاطة بها ولا تصويرها، ولكن هذا لا يمنع أن نشير إلى جملة من مكارم أخلاقه التي تجلّت في صور من سلوكه. وإليك بعض هذه المكارم التي نصّت عليها كتب السيرة والتاريخ.
1- الكرم
كان (عليه السلام) من أبسط الناس كفاً، وأنداهم يداً، وكان على غرار آبائه الذين أطعموا الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وكانوا يطعمون الطعام حتى لا يبقى لأهلهم طعام، ويكسونهم حتى لا يبقى لهم كسوة.
وقد روى المؤرّخون بوادر كثيرة من برّ الإمام الهادي عليه السلام وإحسانه إلى الفقراء وإكرامه البائسين، نقتصر منها على ما يلي:
1- وفد جماعة من أعلام الشيعة على الإمام الهادي عليه السلام وهم أبو عمرو عثمان بن سعيد، وأحمد بن إسحاق الأشعري، وعلي بن جعفر الحمداني، فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه، فالتفت عليه السلام إلى وكيله عمرو، وقال له: ادفع له ثلاثين ألف دينار، وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار، كما أعطى وكيله مثل هذا المبلغ.
وعلّق ابن شهرآشوب على هذه المكرمة العلوية بقوله: “فهذه معجزة لا يقدر عليها إلاّ الملوك، وما سمعنا بمثل هذا العطاء”.
2- اشترى إسحاق الجلاب لأبي الحسن الهادي عليه السلام غنماً كثيرة يوم التروية، فقسمها في أقاربه.
3- وكان قد خرج من سامراء إلى قرية له، فقصده رجل من الأعراب، فلم يجده في منزله فأخبره أهله بأنه ذهب إلى ضيعة له، فقصده، ولما مثل عنده سأله الإمام عن حاجته، فقال بنبرات خافتة: يا ابن رسول الله، أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسّكين بولاية جدّك علي بن أبي طالب، وقد ركبني فادح – أي دين – أثقلني حمله، ولم أرَ من أقصده سواك.
فرقّ الإمام لحاله، وأكبر ما توسل به، وكان عليه السلام في ضائقة لا يجد ما يسعفه به، فكتب عليه السلام ورقة بخطّه جاء فيها: أن للأعرابي ديناً عليَّ، وعيّن مقداره، وقال له: خذ هذه الورقة، فإذا وصلت إلى سر من رأى، وحضر عندي جماعة فطالبني بالدين الذي في الورقة، وأغلظ عليّ في ترك إيفائك، ولا تخالفني فيما أقول لك. فأخذ الأعرابي الورقة، ولما قفل الإمام إلى سرّ من رأى حضر عنده جماعة كان فيها من عيون السلطة ومباحث الأمن، فجاء الأعرابي فأبرز الورقة، وطالب الإمام بتسديد دينه الذي في الورقة فجعل الإمام عليه السلام يعتذر إليه، والأعرابي يغلظ له في القول، ولما تفرّق المجلس بادر رجال الأمن إلى المتوكل فأخبروه بالأمر فأمر بحمل ثلاثين ألف درهم إلى الإمام فحملت له، ولما جاء الأعرابي قال له الإمام عليه السلام:
“خذ هذا المال واقضِ منه دينك، وانفق الباقي على عيالك وأهلك واعذرنا… “.
وأكبر الأعرابي ذلك، وقال للإمام: ان ديني يقصر على ثلث هذا المبلغ. فأبى الإمام عليه السلام أن يستردّ منه من الثلاثين شيئاً، فولّى الأعرابي وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
2- الزهد
لقد عزف الإمام الهادي عليه السلام عن جميع مباهج الحياة ومتعها وعاش عيشة زاهدة إلى أقصى حدّ، لقد واظب على العبادة والورع والزهد، فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر الحياة، وآثر طاعة الله على كل شيء، وقد كان منزله في يثرب وسرّ من رأى خالياً من كل أثاث، فقد داهمت منزله شرطة المتوكل ففتّشوه تفتيشاً دقيقاً فلم يجدوا فيه شيئاً من رغائب الحياة، وكذلك لما فتّشت الشرطة داره في سرّ من رأى، فقد وجدوا الإمام في بيت مغلق، وعليه مدرعة من شعر وهو جالس على الرمل والحصى، ليس بينه وبين الأرض فراش.
3- العمل في المزرعة
وتجرّد الإمام العظيم من الأنانية، حتى ذكروا إنّه كان يعمل بيده في أرض له لإعاشة عياله، فقد روى عليّ بن حمزة حيث قال: “رأيت أبا الحسن الثالث يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه من العرق فقلت له: جعلت فداك أين الرجال؟
فقال الإمام: يا علي قد عمل بالمسحاة من هو خير منّي ومن أبي في أرضه.
قلت: من هو؟
قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين وآبائي كلّهم عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء الصالحين”.
4- إرشاد الضالين
واهتمّ الإمام الهادي عليه السلام اهتماماً بالغاً بإرشاد الضالين والمنحرفين عن الحق وهدايتهم إلى سواء السبيل، وكان من بين من أرشدهم الإمام وهداهم أبو الحسن البصري المعروف بالملاح، فقد كان واقفياً يقتصر على إمامة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ولا يعترف بإمامة أبنائه الطاهرين، فالتقى به الإمام الهادي فقال له: ” إلى متى هذه النومة؟ أما آن لك أن تنتبه منها؟!”.
وأثّرت هذه الكلمة في نفسه فآب إلى الحقّ، والرشاد.
5- التحذير عن مجالسة الصوفيين
وحذّر الإمام الهادي عليه السلام أصحابه وسائر المسلمين من الاتصال بالصوفيين والاختلاط بهم لأنهم مصدر غواية وضلال للناس، فهم يظهرون التقشّف والزهد لإغراء البسطاء والسذّج وغوايتهم.
فلقد شدّد الإمام الهادي عليه السلام في التحذير من الاختلاط بهم حتى روى الحسين بن أبي الخطاب قال: كنت مع أبي الحسن الهادي عليه السلام في مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري، وكان بليغاً وله منزلة مرموقة عند الإمام عليه السلام وبينما نحن وقوف إذ دخل جماعة من الصوفية المسجد فجلسوا في جانب منه، وأخذوا بالتهليل، فالتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم:
“لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخدّاعين فإنّهم حلفاء الشياطين، ومخرّبو قواعد الدين، يتزهّدون لإراحة الأجسام، ويتهجّدون لصيد الأنعام، يتجرّعون عمراً حتى يديخوا- يذلوها ويقهروها- للإيكاف حمراً، لا يهللون إلاّ لغرور الناس، ولا يقلّلون الغذاء إلاّ لملء العساس واختلاس قلب الدفناس- الغبيّ والأحمق -، يكلّمون الناس باملائهم في الحبّ، ويطرحونهم بإذلالهم في الجب، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنّم والتغنية، فلا يتبعهم إلاّ السفهاء، ولا يعتقد بهم إلاّ الحمقاء، فمن ذهب إلى زيارة أحدهم حياً أو ميتاً، فكأنّما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومن أعان واحداً منهم فك-أنّما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان”.
فقال أحد أصحابه: وإن كان معترفاً بحقوقكم؟.
فزجره الإمام وصاح به قائلاً: “دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنّهم أخسّ طوائف الصوفية، والصوفية كلهم مخالفونا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلاّ نصارى أو مجوس هذه الأمة، أُولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون”.
6- تكريمه للعلماء
وكان الإمام الهادي عليه السلام يكرم رجال الفكر والعلم ويحتفي بهم ويقدّمهم على بقية الناس لأنّهم مصدر النور في الأرض، وكان من بين من كرّمهم أحد علماء الشيعة وفقهائهم، وكان قد بلغه عنه انه حاجج ناصبياً فأفحمه وتغلّب عليه فسرّ الإمام عليه السلام بذلك، ووفد العالم على الإمام فقابله بحفاوة وتكريم، وكان مجلسه مكتظّ-اً بالعلويين والعباسيين، فأجلسه الإمام على دست، وأقبل عليه يحدّثه، ويسأل عن حاله سؤالاً حفياً، وشقّ ذلك على حضار مجلسه من الهاشميين فالتفتوا إلى الإمام، وقالوا له: كيف تقدّمه على سادات بني هاشم؟
فقال لهم الإمام: “إيّاكم أن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ آل عمران/23 أترضون بكتاب الله عزّ وجلّ حكماً؟”
فقالوا جميعاً: بلى يا ابن رسول الله.
وأخذ الإمام يقيم الدليل على ما ذهب إليه قائلاً: أليس الله قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ المجادلة/11 فلم يرض للعالم المؤمن إلاّ أن يرفع على المؤمن غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلاّ أن يرفع على من ليس بمؤمن، أخبروني عنه قال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات أو قال: يرفع الله الذين أُوتوا شرف النسب درجات؟! أو ليس قال الله: …هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟…
فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله، إنّ كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علمه إياها لأشرف من كل شرف في النسب.
وسكت الحاضرون، فقد ردّ عليهم الإمام ببالغ حجّته، إلاّ ان بعض العبّاسيين انبرى قائلاً:
يا ابن رسول الله لقد شرّفت هذا علينا، وقصرتنا عمن ليس له نسب كنسبنا، وما زال منذ أول الإسلام يقدم الأفضل في الشرف على من دونه.
وهذا منطق رخيص فإن الإسلام لا يخضع بموازينه إلاّ للقيم الصحيحة التي لم يعِها هذا العباسي، وقد ردّ عليه الإمام عليه السلام قائلاً:
سبحان الله! أليس العبّاس بايع أبا بكر وهو تيمي، والعباس هاشمي، أو ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب، وهو هاشمي أبو الخلفاء، وعمر عدوي، وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى، ولم يدخل العباس؟! فإن كان رفعاً لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكراً، فأنكروا على العباس بيعته لأبي بكر وعلى عبد الله بن عباس بخدمته لعمر، فإن كان ذلك جائزاً فهذا جائز”.
7- العبادة
إنّ الإقبال على الله والإنابة إليه وإحياء الليالي بالعبادة ومناجاة الله وتلاوة كتابه هي السّمة البارزة عند أهل البيت عليهم السلام.
أما الإمام الهادي عليه السلام فلم يرَ الناس في عصره مثله في عبادته وتقواه وشدّة تحرّجه في الدين، فلم يترك نافلة من النوافل إلاّ أتى بها، وكان يقرأ في الركعة الثالثة من نافلة المغرب سورة الحمد وأول سورة الحديد إلى قوله تعالى: “انّه عليم بذات الصدور” وفي الركعة الرابعة سورة الحمد وآخر سورة الحجرات.
8- استجابة دعائه
وقد ذكرت بوادر كثيرة من استجابة دعاء الإمام عليه السلام عند الله كان منها:
1- ما رواه المنصوري عن عمّ أبيه، قال: قصدت الإمام عليّاً الهادي، فقلت له: يا سيّدي ان هذا الرجل – يعني المتوكّل – قد اطرحني، وقطع رزقي، وملّني وما اُتّهم به في ذلك هو علمه بملازمتي بك، وطلب من الإمام التوسّط في شأنه عند المتوكّل، فقال عليه السلام: تُكفى إن شاء الله، ولما صار الليل طرقته رسل المتوكل فخفّ معهم مسرعاً إليه، فلما انتهى إلى باب القصر رأى الفتح واقفاً على الباب فاستقبله وجعل يوبّخه على تأخيره ثم أدخله على المتوكّل فقابله ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً: يا أبا موسى تنشغل عنّا، وتنسانا؟! أي شيء لك عندي؟
وعرض الرجل حوائجه وصِلاته التي قطعها عنه، فأمر المتوكّل بها وبضعفها له، وخرج الرجل مسروراً.
وانصرف الرجل فتبعه الفتح فأسرع إليه قائلاً:
لست أشكّ أنك التمست منه – أي من الإمام – الدعاء، فالتمس لي منه الدعاء.
ومضى ميمّماً وجهه نحو الإمام عليه السلام فلمّا تشرّف بالمثول بين يديه قال عليه السلام له: يا أبا موسى هذا وجه الرضا.
فقال الرجل بخضوع: ببركتك يا سيّدي، ولكن قالوا لي: إنّك ما مضيت إليه ولا سألته.
فأجابه الإمام ببسمات قائلاً: ان الله تعالى علم منّا أنّا لا نلجأ في المهمات إلاّ إليه، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه، وعوّدنا إذا سألناه الإجابة، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا.
وفطن الرجل إلى ان الإمام قد دعا له بظهر الغيب، وتذكّر ما سأله الفتح فقال: يا سيّدي ان الفتح يلتمس منك الدعاء.
فلم يستجب الإمام له وقال: ان الفتح يوالينا بظاهره، ويجانبنا بباطنه، الدعاء إنما يدعى له إذا أخلص في طاعة الله، واعترف برسول الله صلى الله عليه وآله وبحقّنا أهل البيت.
2- روي أن عليّ بن جعفر كان من وكلاء الإمام عليه السلام فسعي به إلى المتوكّل فحبسه، وبقي في ظلمات السجون مدّة من الزمن، وقد ضاق به الأمر فتكلّم مع بعض عملاء السلطة في إطلاق سراحه، وقد ضمن أن يعطيه عوض ذلك ثلاثة آلاف دينار، فأسرع إلى عبيد الله وهو من المقرّبين عند المتوكّل، وطلب منه التوسّط في شأن عليّ بن جعفر، فاستجاب له، وعرض الأمر على المتوكل، فأنكر عليه ذلك وقال له:
لو شككت فيك لقلت: إنّك رافضي، هذا وكيل أبي الحسن الهادي وأنا على قتله عازم.
وندم عبيد الله على التوسّط في شأنه، وأخبر صاحبه بالأمر، فبادر إلى عليّ بن جعفر وعرّفه أن المتوكّل عازم على قتله ولا سبيل إلى إطلاق سراحه، فضاق الأمر بعليّ بن جعفر، فكتب رسالة إلى الإمام جاء فيها:
“يا سيّدي الله الله فيَّ، فقد خفت أن أرتاب، فوقّع الإمام على رسالته: “أمّا إذا بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد الله فيك”، وأصبح المتوكّل محموماً دنفاً، وازدادت به الحمّى فأمر بإطلاق جميع المساجين، وأمر بإطلاق سراح علي بن جعفر بالخصوص، وقال لعبيد الله: لِمَ لَمْ تعرض عليَّ اسمه؟ فقال:
لا أعود إلى ذكره أبداً، فأمره بأن يخلّي عنه، وأن يلتمس منه أن يجعله في حلّ مما ارتكبه منه، وأطلق سراحه، ثم نزح إلى مكّة فأقام بها بأمر من الإمام”.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية