كان يهود خيبر من أقوى الطوائف اليهوديّة في بلاد الحجاز وأكثرهم عدداً وعُدَّة وأمنعهم حصوناً، فخيبر قرية من قُرى اليهود المجاورة للمدينة، تقع على قِمّة جبل، ويُحيطها حصنٌ حجريّ ظنّ أهله أنّه مانعهم من إرادة الحقّ ، وسيوف المجاهدين المؤيَّدين بنصر الله سبحانه. ويهود خيبر على عادة اليهود، قد استحكم بهم الغرور، وغرّهم المال والسلاح الذي بأيديهم.
وفي حصون خيبر عشرة آلاف مقاتل، كانوا يخرجون كلّ يوم صفوفاً يستعرضون قوّتهم، ويسخرون من قوّة المسلمين وهم يُردِّدون “محمّد يغزونا، هيهات! هيهات!”.
وهذا الاعتداد بالقوّة لم يكن ليخدع يهود خيبر وحدهم، بل كان يهود المدينة الذين يعيشون وسط المسلمين قد انخدعوا به أيضاً. فراحوا يُهدِّدون المسلمين بتلك القوّة، ويحاولون إظهار التفوُّق العسكريّّ لخيبر على المسلمين، وذلك لإشاعة الحرب النفسيّة، وإضعاف الروح المعنويّة للمسلمين.
وكانوا يُردِّدون على مسامع المسلمين: “ما أمنع والله خيبر منكم، لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها، لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم. حصونٌ شامخات في ذُرى الجبال، إنّ بخيبر لألف دارع، وما كانت “أسد” و”غطفان” يمتنعون من العرب قاطبة إلّا بهم، فأنتم تُطيقون خيبر؟!”.
أمّا الإعلام الإسلاميّّ في المدينة فكان يردّ منطلقاً من الثقة بالله، والإصرار على الجهاد والمقاومة: إنّ الله قد وعد نبيّه أن يُغنمه خيبر، ولا خُلف لوعد الله بالنصر. وفي ظلّ هذه الأجواء راح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يصبر ويُصبِّر على كلّ أذى خيبر بسبب ما كانت تُمارسه ضدّ الإسلام والمسلمين.
فمنها: انطلق زعماء اليهود لدعوة القبائل العربيّّة وتحزيبها ضدّ المسلمين في غزوة الخندق. وقد بذلوا الأموال في ذلك.
ومنها: خرج حييّ بن أخطب ودفع بني قريظة إلى نقض العهد في اللحظات العصيبة. وقد غدت خيبر بمرور الأيّام ملجأً يأوي إليه اليهود المُبعدون عن المدينة، ينتظرون الفرصة للانتقام من الإسلام؟ واسترداد مواقعهم ومصالحهم التي جرّدهم النبي ّّ(صلى الله عليه وآله وسلم) منها.
وقد اتضح هذا في الأيّام القليلة التي أعقبت هزيمة بني قُريظة، إذ بلغت خيبر أنباء هزيمة بني قُريظة فاتّصل بعض اليهود بزعيمهم “سلام بن مشكم” وسألوه الرأي. فأجابهم: نسير إلى محمّد بما معنا من يهود خيبر فلهم عدد، ونستجلب يهود تيماء وفدك ووادي القرى، ولا نستعين بأحد من العرب، قد رأيتم في غزوة الخندق ما صنعت بكم العرب.. ثمّ نسير إليه في عقر داره، فقالت اليهود: هذا الرأي. وها هم يُحرِّضون غطفان وغيرها ويعدونهم أن يمنحوهم ثمر خيبر لسنة إن هم تحالفوا معهم ضد الإسلام والمسلمين.
لهذه الأسباب وغيرها عقد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) العزم على غزوهم في حصونهم ومعاقلهم المنيعة في خيبر. وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة، فجمع (صلى الله عليه وآله وسلم) جيشه وتكتّم على مسيره، وخرج من المدينة في ألف وستمائة مقاتل من المسلمين. وأعطى رايته لعليّ (عليه السلام)، وسلك طُرقاً تحفظ سرِّيَّة تَحرُّكِه، فلم يشعر اليهود إلّا وجيش المسلمين قد نزل بساحتهم ليلاً. وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وعده الله بالنصر وأن يردّه إلى المدينة فاتحاً غانماً.
وحين فوجئوا بقوّات المسلمين، تشاوروا فيما بينهم واتفقوا على القتال فأدخلوا نساءهم وأولادهم وأموالهم في بعض الحصون، وأدخلوا ذخائرهم في حصون أُخرى. بينما دخل المقاتلون منهم في حصن عُرف بحصن النطاة أو حصن القموص، والتقى الجمعان حول هذا الحصن. ودار قتال شديد بينهما حتّى جُرح عدد كبير من المسلمين.
وكان الهجوم على الحصن قد بدأ بإرسال النبيّ ّ(صلى الله عليه وآله وسلم) سَرِيَّة من المسلمين بقيادة أبي بكر، غير أنّه لم يستطع أن يفتح ثغرة في تحصينات العدوّ، بل عاد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهزماً، ثمّ أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمر بن الخطّاب لمعاودة الكرّة. فرجع منهزماً يُجبِّن أصحابه ويُجبِّنونه، فلمّا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك قال: “لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يُحبُّ اللهَ ورسولَه ويُحبُّه اللهُ ورسولُه، يفتح الله على يديه، كرّاراً غير فرّار”. فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام عليّاً (عليه السلام)، وهو أرمد، فتفل في عينيه، ثمّ قال: “خذ هذه الراية، فامض بها حتّى يفتح الله عليك”.
فخرج الإمام عليّ (عليه السلام) ومعه المقاتلون المسلمون فدار قتال بينهم وبين اليهود على أبواب الحصن، وقتل الإمام عليّ (عليه السلام) “مرحباً” وهو من أبطال اليهود وصناديدهم بعدما كان قد قَتل أخاه الحارث. وأكثر من ستّة من فرسان اليهود على باب الحصن، فاستولى الخوف على اليهود والتجأوا إلى الحصن وأغلقوا بابه. وكان من أمنع الحصون وأشدّها وقد حفروا حوله خندقاً يتعذّر على المسلمين اجتيازه، فاقتلع الإمام عليّ (عليه السلام) باب الحصن، وجعله جسراً فعبر عليه المسلمون، واستبسلوا بقيادة الإمام عليّ (عليه السلام) فهاجموا بقيّة الحصون وتغلّبوا على من فيها. حتّى انتهوا إلى حصني الوطيح والسلالم، وكانا آخر حصونهم المنيعة وفيهما النساء والذراري والأموال.
ولمّا شعر اليهود بأنّه أُسقط ما في أيديهم، وأنّ المسلمين سيأسرونهم ويقتلونهم إن هم أصرّوا على موقفهم، استسلموا وطلبوا العفو من النبيّ ّ(صلى الله عليه وآله وسلم). فأجابهم النبيّّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذلك بعد أن استولى على أموالهم، وتمّ الاتفاق بينهم وبين النبيّّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن تبقى الأرض في أيديهم يعملون فيها بنصف الناتج والنصف الآخر للمسلمين.
وبعد فتح خيبر رجع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “والله ما أدري بأيِّهما أنا أشدُّ سروراً:بقدوم جعفر، أو بفتح خيبر؟” .
إنّ انتصار المسلمين الساحق في خيبر يعود إلى العوامل التالية:
1 ـ التخطيط العسكريّّ والتكتيك الحربيّ الدقيق.
2 ـ تحصيل المعلومات الدقيقة عن تمركز العدوّ داخل الحصون.
3 ـ تفاني الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وشجاعته وبطولته النادرة، والتسديد الإلهيّّ الذي مكّنَه من قتل أبطال اليهود وفرسانهم، وقلع باب خيبر وفتح الحصن على يديه.
يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية