المعروف أن بداية السنة الهجرية هو الأول من المحرم، وعند بعض المؤرخين أنه الأول من ربيع الأول باعتباره مبدأ هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعند البعض الأول من شهر رمضان بحسب ما يستفاد من بعض الأدعية ، هذا ولكن السنة المعنوية عند طالبي الكمال والمشتاقين إلى رضا الله تبارك وتعالى تبدأ في الأول من رجب، البداية التي تعني الانطلاقة الجديدة، وتعبئة الهمة، وزيادة النشاط، ومراجعة صحائف الأعمال الماضية و الأمل بفتح صحائف جديدة بيضاء.
ولعل من الشواهد على ذلك أن أصحاب كتب السنن والمستحبات كمفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي ومصابيح الجنان للسيد عباس الكاشاني (رحمه الله تعالى) يبدأون أعمال أيام وشهور السنة بأعمال شهر رجب ، ويذكرون صلاة لشهر جمادى الآخرة باعتباره آخر شهر في السنة.
إن عظمة شهر رجب تأتي من جهتين (أولهما) شرفه الذاتي، والقيمة الكبرى التي أعطيت لمن أدى عملاً فيه بما لا ترقى إليه نفس الأعمال في شهور السنة الأخرى بحسب ما ورد في الروايات الشريفة حتى سُمّي (رجب الأصب) لأن الرحمة تُصبّ فيه صبّا، و(الثانية) أن الاستعداد لضيافة الرحمن في شهر رمضان تبدأ منه، حيث يتنعم أولياء الله تعالى بعيدهم في الشهر الكريم، فمن أراد أن يحظى بتلك الضيافة، ويفرح بعطاء الله تعالى في ذلك العيد، فلابد أن يبدأ بالعمل وتقديم الطلبات – كما يقال – من شهر رجب، لينظر فيها في شهر شعبان، ويمضي القرار الإلهي بها في شهر رمضان، وهذا هو المدخل الطبيعي لنيل الألطاف الإلهية الخاصة، وإن كانت رحمة الله تعالى أوسع من ذلك.
وهذا وجه آخر غير ما ذكرناه في بعض المناسبات السابقة لمعنى ما ورد أن شهر رجب شهر أمير المؤمنين (عليه السلام) وشهر شعبان شهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهر رمضان شهر الله تبارك وتعالى، فيكون معناه أن السعي لنيل رضا الله تبارك وتعالى وألطافه الخاصة تبدأ من شهر رجب عن طريق أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه باب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وولايته ميزان قبول الأعمال، ثم ينظر فيها في شهر شعبان بواسطة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باب الرحمة الإلهية والوسيلة إلى رضوان الله تبارك وتعالى، ويشهد له ما ورد في تفسير قوله تعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) –الدخان4- انها ليلة النصف من شعبان، ثم يجري القضاء الإلهي بالفوز والفلاح وحسن الخاتمة في شهر رمضان بعد أن تكون مقدماته قد تحققت.
هذا هو شهر رجب في شرفه وفضله، وقد منّ الله تبارك وتعالى علينا بإدراكه، ولا شك أن الكثير من المؤمنين ملتفتون إلى ما فيه من أعمال مستحبة كالصوم في بعض أيامه المخصوصة وكلما زاد كان أفضل، وكالصلاة والذكر والدعاء والتسبيح وزيارة المعصومين (عليهم السلام) كزيارتي الإمام الحسين (عليه السلام) في الأول والنصف منه وزيارة المبعث النبوي الشريف، كما تستحب فيه زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) والعمرة، واحياء ذكريات المعصومين (عليهم السلام).
ولكن ما لا يُلتفت إليه الا نادراً أعمال الجوانح لا الجوارح أي ما يهذّب النفس ويطهّر القلب، مع أنها المقياس الحقيقي للكمال والقرب من الله تبارك وتعالى، وانتم تعلمون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما انتهى من خطبته في استقبال شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان، سأله أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أفضل الأعمال في هذا الشهر العظيم، فأجاب (صلى الله عليه وآله وسلم) انه الورع عن محارم الله , والورع ملكة جوانحية ليست من أعمال الجوارح وإن كانت تظهر آثارها عليها فتمتنع عّما حرّم الله تبارك وتعالى .
ولنذكر شاهداً على هذه التربية المعنوية التي قام بها المعصومون (عليهم السلام)، ففي الخصال للشيخ الصدوق (رضى الله عنه) بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم يعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول، والشرُّ منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقل كثير الخير من نفسه ولا يسأم من طلب العلم طول عمره، ولا يتبرّم بطلّاب الحوائج قبله، الذلّ أحبّ إليه من العز، والفقرُ أحبّ إليهِ من الغنى، نصيبهُ من الدنيا القوت، والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلاّ قال هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان فرجل هو خيرٌ منه وأتقى وآخر هو شرٌّ منه وأدنى فإذا رأى من هو خيرٌ منه وأتقى تواضع لهُ ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شرٌّ منهُ وأدنى قال عسى خير هذا باطن وشرُّه ظاهر، وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده، وسادَ أهل زمانهموأ)[2] .
هذه هي الصفات التي يكمل بها عقل المؤمن وتكون أفضل وسيلة لنيل رضا الله تعالى: أن يكون الخير منه متوقعاً في قوله وفعله وسائر حركاته ومعاملاته مع الآخرين، والشر منه مأمون فلا يسيء إلى أحد ولا يعتدي على أحد ولا يجرح مشاعر الآخرين ولا يظلمهم ولا يبخسهم حقوقهم ولا يبغي عليهم، ولا يشهّر ولا يسقّط ولا يفتري، حتى لو أسيء إليه فلا يتوقع منه رداً عدوانياً.
يصنع المعروف إلى الناس من دون أن يصحبه مَنٌّ أو أذى بل لا يجد في نفسه أنه قدّم شيئاً يُذكر وان كان عملاً عظيماً كإنقاذ إنسان من موت أو تفريج كربة نكّدت حياته، لكنه إذا صُنِع إليه المعروف فإنه يجد نفسه مديناً لمن فعله ولا ينساه طول حياته حتى لو كان شيئاً بسيطاً لا يستحق أن يذكر كتقديم شربة ماء له.
وهكذا يستمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذكر هذه الخصال الكريمة حتى يصل إلى العاشرة وما أدراك ما العاشرة، إنها التواضع للناس والذل الباطني والشعور بأنه أحقر هذا الخلق وأتفههم وأن كل الناس أفضل منه وأكرم عند الله تعالى، ويذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك وجهين:
1- أن الآخر حتى لو كان سيئاً في جملة من أفعاله فلعل له خصلة كريمة عرفها الله تبارك وتعالى منه ولا نعلمها كالبرِّ الشديد بالوالدين أو حب الناس وإنصافهم أو الغضب لله تعالى. قد نالت رضا الله تبارك وتعالى فعفا وصفح عن ذنوبه بينما أن المتظاهر بالصلاح، لعل له خصلة سيئة أوجبت المقت الإلهي فحبطت بها الأعمال والعياذ بالله.
2- إن الأمور بخواتيمها فهذا الإنسان الذي تعتقد أنه سيئ الآن ولكنك لا تعلم كيف يُختم عمله، وكذا الإنسان الذي يظهر منه الصلاح، ولكن قد تنقلب الأمور إلى العكس، والعاقبة للمتقين والأمثلة كثيرة كالخاتمة الحسنة للحر الرياحي ، والخاتمة السيئة لمن انقلبوا على الأعقاب من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما وصفتهم الآية الشريفة.
إنّ من يتأمل في هذا الحديث الشريف وفي الدعاء الوارد في شهر رجب (يا من أرجوه لكل خير، وآمن سخطه عند كل شر يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ولم يعرفه تحنناً منه ورحمة) يجد مطابقة وانسجاماً بين جملة من فقراتهما، لأننا أمرنا بالتخلق بأخلاق الله وهذه المذكورة في الدعاء من أخلاقه تبارك وتعالى وهي نفسها التي يكمل بها عقل المؤمن، وكأنه إيحاء بأن شهر رجب باعتباره بداية إنطلاقة جديدة للعمل ومراجعة للماضي لإصلاح ما فسد، وتكميل ما صلح، كأنّ هذا الشهر هو فرصة التأمل في هذه الخصال العشر والسعي الحثيث لتحقيقها بفضل الله تبارك وتعالى.
(1) كلمة افتتح بها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) درسه الخارج في الفقه يوم الأحد 2/رجب/1432 المصادف 5/6/2011 .
[2] الخصال للشيخ الصدوق (رضي الله عنه): 433.