مفهوم الأعلمية
مقارنة بين رأيي الهاشمي و اليعقوبي
تُعدُّ “الأعلمية” من المفاهيم المحورية في باب التقليد لما لها من أثرٍ حاسم في تشخيص المرجع الجامع للشرائط القادر على استنباط الأحكام الشرعية وفق مقتضيات الاجتهاد التام وقد تعددت المدارس الفقهية في تفسير هذا المفهوم بحسب اختلاف المباني في تحديد مناطاته وما يدخل في كماله أو تماميته.
وفي هذا السياق تبرز رؤيتان معاصرتان لكلٍّ من الفقيه الأصولي السيد محمود الهاشمي (رضوان الله عليه) والمرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) تتّحدان في الداعي إلى تجاوز القوالب التقليدية الضيّقة وتتباينان في رسم معالم هذا التجاوز وأدواته وهذا المنشور يسعى إلى عرض رؤوس الاختلاف والاتفاق بين الرأيين ضمن معالجة مقارِنة تسلط الضوء على منهج كلٍّ منهما في تحديد مديات الأعلمية ومقتضياتها الواقعية.
أولاً: رؤية السيد محمود الهاشمي (قدس سره)
كان السيد الهاشمي من أبرز دعاة التجديد في مناهج الفقه والأصول، وقد قدّم تصوراً للأعلمية يتجاوز الإطار الكمي المعرفي إلى الأفق الكيفي الفهمي، حيث ربط بين الأعلمية وبين عناصر البصيرة الفقهية والوعي المقاصدي والانفتاح على الواقع الاجتماعي والسياسي المعاش.
وقد شدد (قدس سره) على ضرورة أن يكون الفقيه الأعلم هو الأقدر على إدراك مقاصد الشريعة من خلال الاستنطاق العميق للنصوص، لا سيما القرآن الكريم وسيرة المعصومين (عليهم السلام) وقراءتها في سياقاتها التاريخية والمعرفية ومن هذا المنطلق لم يكتفِ بالأدوات التقليدية للاستنباط بل دعا إلى إغناء ملكة الاجتهاد بالعلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة باعتبارها ضرورية لفهم تعقيدات الواقع وتشخيص الموضوعات.
ومن الواضح أن السيد الهاشمي كان ينظر إلى الأعلمية باعتبارها حالة مركبة يتداخل فيها العمق الفقهي والنضج الفكري وحسن التدبير الاجتماعي مع الحضور الروحي في فهم الدين.
ثانياً: موقف الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)
أما الشيخ محمد اليعقوبي فقد قدّم قراءة متقدمة لمفهوم الأعلمية تنطلق من أن الفقيه الأعلم ليس بالضرورة هو الأوسع حفظاً للمسائل بل هو الأقدر على الربط بين النص والواقع وعلى توليد الأحكام من خلال ملكة اجتهادية راشدة تستوعب التغيرات الحضارية والثقافية.
وقد شدّد (دام ظله) على أن الأعلمية لا تكون تامة إلا مع الإحاطة بالقرآن والسنة وفهم السيرة المعصومية، إلى جانب الانفتاح على العلوم الطبيعية والرياضية التي تُسهم في تحليل الموضوعات بدقة علمية مما يعزز من صدقية الحكم الشرعي في وجدان المتدين المعاصر.
ومن ملامح منهجه أيضاً، تركيزه على الأثر التربوي للأعلمية أي أن يكون الفقيه مربياً، وفاعلاً في المجتمع لا مجرد متمكن علمياً. وهذا الفهم للأعلمية ينمّ عن رؤية حركية وعملية تضع الفقيه في قلب التحديات المعاصرة لا على هامشها.
ثالثاً: مواضع الاتفاق والافتراق
كلا الرأيين يتفقان في أنّ مفهوم الأعلمية لا يمكن اختزاله في البراعة الفقهية المجردة بل لا بد أن يتعدى ذلك إلى استيعاب أوسع لحقائق الدين والواقع وتمثلٌ أعمق لمسؤولية الفقيه في زمانه. لكنهما يختلفان في تأكيد بعض العناصر:
السيد الهاشمي يركّز على المقاصدية والفهم التاريخي والاجتماعي للشريعة ويمنح الجانب الروحي والمعنوي في الأعلمية حضوراً بارزاً.
بينما الشيخ اليعقوبي يركّز على الأدوات المعرفية الحديثة وضرورة تسليح الفقيه بها إلى جانب البعد السلوكي والتربوي للفقيه الأعلم.
ومع هذا التمايز فإن الطرحين يتكاملان ضمن مشروع عام لتوسعة مفهوم الأعلمية بما يجعله أكثر قدرة على التجاوب مع العصر وأقرب إلى روح الاجتهاد الذي دعت إليه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
نحو أعلمية راشدة ومعاصرة
يتضح مما سبق أن مفهوم الأعلمية وفقاً لقراءتي السيد الهاشمي والشيخ اليعقوبي لم يعد مقصوراً على القدرة الاستنباطية الكلاسيكية بل هو مفهوم يتسع ليشمل وعياً حضارياً واستيعاباً معرفياً عابراً للتخصص وإدراكاً عميقاً لمقاصد الدين ومصالح الأمة.
وهذا الفهم يُعيد الاعتبار للاجتهاد بوصفه عملية حية متواصلة مع الواقع لا منقطعة عنه ويؤسّس لتقليدٍ راشدٍ يقوم على الكفاءة الفعلية لا على الشهرة أو التقليد الموروث.
الشيخ علي الزيدي
١٦ شوال ١٤٤٦ هـ