تمر علينا ذكرى وفاة الإمام زين العابدين “ع” الذي عاش عمرًا فيه الكثير من الصعوبات، ومرت به أقسى حادثة، وأعظم مصيبة يمكن أن تمر بإنسان، وهي واقعة كربلاء، عاصرها وعايشها، ونحن بعد أربعة عشر قرنًا يعتصر الألم قلوبنا حينما نسمعها، لكن الإمام عاش تلك الواقعة ورافق أحداثها.
حياته بعد واقعة كربلاء تعتبر مثالًا للصبر والصمود، وتحمّل المسؤولية، في الظروف القاسية؛ لأن واقعة كربلاء صدمة للأمة والجماهير المسلمة، أكثر النفوس دخلها الرعب والخوف من تلك السلطة التي لم يسلم منها الحسين، ولم تعمل حسابًا له ولأهل بيت رسول الله ﷺ، صدمة أصابت الناس فأفرزت ثلاثة خطوط:
خط اتجه نحو الرهبنة والعبادة والابتعاد عن قضايا الأمة، ما دام الحكم بيد الأمويين، بما فيه من ظلم وفساد وانحراف، فنشأت حالات الرهبنة والتصوف والعزلة، ابتعد هذا الخط عن السياسة وأهل السياسة؛ لأن الحياة ملوثة فاسدة، والوضع منحرف، فقرر أن يتجه للعبادة.
الخط الآخر هو خط المواجهة والعنف. حيث نشأت بعض المجاميع والتوجهات، التي رأت أن هذا الاستبداد والظلم الأموي لا يجدي معه إلا السيف والمقاومة، فتفجرت ثورات عدة، كانت بدايتها ثورة التوابين، وثورة المدينة، ثم حركة المختار الثقفي، وبعدها عدد من الثورات المتلاحقة، منها ثورة زيد بن علي، وثورات الخوارج الذين كان توجّههم بهذا الاتجاه. هذا خط يؤمن أن المواجهة ينبغي أن تكون بالعنف والسيف.
خط أئمة أهل البيت وفي مقدمتهم الإمام زين العابدين، حيث كان متوقعًا أن يأخذ أحد هذين المنحيين، إما الاعتزال؛ لأنه عاش الفاجعة، ورأى بأم عينيه أحداثها، فكان يفترض أن تؤثر في نفسه فتدفعه إلى الانسحاب والانعزال، ولعلّ البعض من الناس يتصور أن الإمام قد سلك هذا الطريق، ويستدلّون على ذلك بعدم وجود مواقف سياسية بارزة للإمام، وبصدور الأدعية الروحية الكثيرة عن الإمام، وهي قراءة سطحية لحياة الإمام بأنه ترك السياسة وانعزل، واتجه نحو الدعاء والعبادة.
والمنحى الآخر الذي كان متوقعًا من الإمام هو أن يتجه للانتقام من بني أمية، الذين قتلوا أباه، وقتلوا إخوته، وسبوا نسوته، وعاملوه بطريقة قاسية بشعة، فلماذا لا ينتصر لنفسه ولعرضه ولأهله؟ لماذا لا يطلب بثأره؟ هل كانت تنقصه الشجاعة؟
كان المتوقع من الإمام زين العابدين أن ينتقم ويواجه، ويأخذ بحقه من بني أمية، لكن الإمام لم يسلك هذا الطريق، فلا هو انعزل وانسحب من الحياة، ولا هو حاول أن يأخذ بالثأر وينتقم لدماء أهل بيته، إنما سلك طريقًا آخر، هذا الطريق هو خط أئمة أهل البيت، وهم أصحاب رسالة، ولم يكونوا حزبًا يتحركون من أجل السلطة، إنما كانوا حملة رسالة، لذلك كانت أمام الإمام ثلاث مهام:
المهمة الأولى: التي يشعر بها ويقوم بها أئمة أهل البيت هو تبليغ هذه الرسالة التي يحملونها، وتبليغ قيم الدين.
المهمة ثانيًا: فضح الاستبداد والانحراف، ونزع غطاء الشرعية عنه.
المهمة الثالث: تربية الكفاءات والقيادات الرسالية الواعية، والمجاميع الإيمانية، حيث كان الأئمة يربّون مجاميع من الناس على هدي الإسلام، وبسيرتهم الزاكية النقية، والإمام زين العابدين سلك هذا الطريق، ونرى أن أدعيته في الصحيفة السجادية لم تكن تأخذ الإنسان عن ساحة الحياة، وتقذف به في كهوف الرهبنة والعزلة، إنما تدفع الإنسان للتفاعل مع الحياة، وتشرح له الطرق الصحيحة للقيام بواجباته، وكذلك سائر كلمات الإمام زين العابدين.
فالإمام لم يعتزل، بل اتخذ الدعاء وسيلة لتعميق القيم، ولإيصال المفاهيم إلى الناس عبر منهج الدعاء، ولتربية الناس على تعاليم الإسلام وقيمه، وسيرته كانت بهذا الاتجاه، الأئمة كانوا يفرزون بين الثائرين، فالثائر المخلص الواعي يمتحدونه ويشيدون به، بينما الحركات والثورات الانتهازية المصلحية ما كانوا يعارضونها، ولا يؤيدونها، إنما يبينون الثغرات الموجودة فيها.
الشيخ حسن الصفار
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية