يعتبر الإمام السجاد عليه السلام المؤسّس الثاني لمدرسة أهل البيت، بعد المؤسّس الأوّل صلى الله عليه واله وسلم والمشيّد على ذلك الصرح الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام.
كان منزل الإمام السجّاد عليه السلام مدرسة، ومسجد الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم مركزاً لمدرسته، ومعهداً لتعليم طلّابه، ونقطة انطلاق لتدريب تلامذته، لبثّ العلوم الدينيّة إلى العالم، وإلى الأجيال الصاعدة، فكان يلقي محاضراته وبحوثه على العلماء والفقهاء، وكانت تلك البحوث تتناول العلوم الإسلاميّة المهمّة والحسّاسة، منها علم التفسير، وعلم الفقه، والحديث، والفلسفة، وعلم الكلام، وقواعد السلوك، والأخلاق.
كما كان يلقي في كلّ جمعة خطاباً عامّاً جامعاً على الناس، يعظهم فيه، ويزهّدهم في الدنيا، ويرغّبهم في الآخرة.
وكان الناس يحفظون كلامه ويكتبونه، وقد التفّ العلماء والفقهاء والقرّاء حول الإمام عليه السلام، لا يفارقونه حتّى في سفره إلى حجّ بيت الله الحرام، يستمعون إلى حديثه، ويسجّلون فتاواه، ويدوّنون ما يمليه عليهم من علوم ومعارف وحكم وآداب.
هذا وقد تخرّج من مدرسته مجموعة كبيرة من فطاحل العلماء والفقهاء، الذين اشتهروا بالرواية عنه عليه السلام. منهم على سبيل المثال: أبان بن تغلب، والمنهال بن عمرو الأسديّ، ومحمّد بن مسلم بن شهاب الزهريّ، وسعيد بن المسيّب، وأبو حمزة الثماليّ، وسعيد بن جبير، ويروى أنّ سفيان بن عيينة، ونافع بن جبير، وطاووس بن كيسان، ومحمّد بن إسحاق، قد أخذوا عن الإمام السجّاد عليه السلام بعض الأحاديث، وغيرهم…
وقد أحصى الشيخ الطوسيّ في رجاله، وغيره من أصحاب التراجم، أكثر من مائة وستّين من التابعين والموالي، كانوا ينهلون من معينه، ويروون عنه في مختلف المواضيع، وعدّوا منهم: سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، ومحمّد بن جبير بن مطعم، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، ويحيى بن أمّ الطويل، وأمثال هذه الطبقة من أعلام الصحابة والتابعين…
كما أنشأت في عصر الإمام عليه السلام مدرسة التابعين، وهي أوّل مدرسة إسلاميّة افتتحت في يثرب بعد مدرسة أئمّة أهل البيت.
وقد عنت هذه المدرسة بعلوم الشريعة الإسلاميّة، ولم تتجاوزها، أمّا مؤسّسوها وأساتذتها، فهم: سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد. ومن الجدير بالذكر أنّ بعض هؤلاء العلماء كانوا ممّن تتلمذ على يد الإمام زين العابدين عليه السلام، وأخذوا عنه الحديث والفقه.
وعلى أيّ حال، فلم تعرف الأمّة في ذلك العصر عائدةً أعظم، ولا أنفع من عائدة الإمام عليه السلام عليها، وذلك بما أسّس في ربوعها من مدرسته العلميّة، وبما فتح لها من آفاق الفكر والعلم والعرفان.
وخلّف عليه السلام تراثاً عظيماً أهمّه
أ- الأحاديث:
جاء في طبقات ابن سعد، أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام كان ثقة مأموناً، كثير الحديث، عالياً، رفيعاً، ورعاً..”
وقال الشيخ المفيد في الإرشاد: وقد روى عنه فقهاء العامّة من العلوم ما لا يحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعيّة، وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيّام ما هو مشهور بين العلماء، ولو قصدنا إلى شرح ذلك لطال به الخطاب، وتقضّى به الزمان .
ب- الصحيفة السجّاديّة:
المعبّر عنها “إنجيل أهل البيت”، و “زبور آل محمّد”، ويقال لها: “الصحيفة الكاملة” أيضاً، وقد اهتمّ العلماء بروايته، وعليها شروح كثيرة، وهي من المتواترات عند الأعلام، لاختصاصها بالإجازة والرواية في كلّ طبقة وعصر، ينتهي سند روايتها إلى الإمام أبى جعفر الباقر عليه السلام، وزيد الشهيد ابني عليّ بن الحسين، عن أبيهما عليّ بن الحسين.
وذكر فصاحة الصحيفة الكاملة عند بليغ في البصرة فقال: خذوا عنّي حتّى أملي عليكم، وأخذ القلم وأطرق رأسه، فما رفعه حتّى مات.
ج- رسالة الحقوق:
وهي تحتوي على توجيهات وتعليمات وقواعد في السلوك العامّ والخاصّ، من أدقّ ما يعرفه الفكر الإنسانيّ .
وقد جاء في آخرها، قول الإمام عليه السلام: “فهذه خمسون حقّاً محيطاً بك، لا تخرج منها في حال من الأحوال، يجب عليك رعايتها والعمل في تأديتها، والاستعانة بالله جلّ ثناؤه على ذلك، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، والحمد لله ربّ العالمين” .