تعزية في القطب المنجمد الشمالي
د. صلاح سيد جواد شبر
كنت أعمل في كندا مستشاراً لوزارة الصحة في أونتاريو, أقدم لهم رأي علمي في دواء معين أو في أسعار أو ما شابه، جاءني طلب عام 1990 في أن أتوجه إلى (Yukon) مقاطعة تقع في المنجمد الشمالي ملاصقة إلى الأسكا تماماً (مساحتها أكبر من مساحة العراق قليلاً)، عاصمتها تسمى (Whitehorse) الفرس الأبيض، وهي أكبر مدينة في القطب الشمالي (كان يمكنني أن أرفض الطلب ولكني صممت على السفر لا لسبب محدد).
بعد أن غادرت مدينتي (تورنتو) في طائرة وصلت إلى فانكوفر بعد خمس ساعات، نمت في (فانكوفر) كان عليَّ أن أطير من مدينة (فانكوفر) لكي أصل إلى (وايت هورس) حيث مهمتي الجديدة، وفي الصباح ركبت طائرة (بمروحتين) لا تتسع لأكثر من خمسين شخص (تطير لمرة في الأسبوع) معظم حمولتها غذاء ودواء مما تحتاجها تلك المدينة لمعيشتها، بمجرد أن دخلنا أجواء القطب الشمالي وإذا بالطائرة تتحول إلى ريشة في مهب الريح، ليس لنا إلا رحمة الله، إذ هبت عاصفة ثلجيّة هوجاء أحالت هذه الطائرة إلى موت بيد القدر، بقيت الطائرة لأكثر من ستة ساعات تصارع العاصفة الكبرى، ونحن ركاب الطائرة بين الموت والحياة، وكان الموت قد جلس عند رأسي ينتظر صيحة القدر (كل انشغل بطريقة موته إن حدث) اعتقدت أن روحي قد وصلت إلى مرحلة النزع خلال هذه الساعات الستة لأكثر من مرة, بل كما يقال شاهدت الموت بأم عيني… نزلت الطائرة أخيراً في مدينة (وايت هورس) وكان الوقت شتاءً ودرجة الحرارة ناقص خمسين درجة مئوية أو تزيد على ذلك، شيء أكبر من التصور, وخصوصاً على جسمي النحيل فكان بين الموت وبيني أن أبقى في الشارع لعشر دقائق فقط… الليل في الشتاء طويل ربما أكثر من عشرين ساعة, والشمس عندما تشرق ترى خيالها فقط لا غير, الناس هناك تعودوا على وضع الجو وعلى التعايش مع تلك البرودة الهائلة..
نزلت من الطائرة في الساعة الثامنة ملم أفكر في أن أحجز غرفة في فندق قبل سفري إذ أخبروني بأن الفرع الصحي سيوفر لي سكناً خلال إقامتي، وصلت فلم أجد شخصاً يستقبلني أو مكاناً للسكن، ولا أعرف المدينة، وجدت برودة تُجمّد ما لا يتجمّد، استخرجت معطفي السميك الذي أشكر الله أن كنت حملته معي وقلت لسائق تاكسي وجدته خذني إلى أقرب فندق، انحدر بي السائق إلى المدينة، وكان هنالك خمسة فنادق فقط وكلها مشغولة، قلت للسائق أرجعني إلى المطار أنام هناك حتى الصباح، ولكن أي صباح ليس هنا صباح بل كل اليوم ظلمة والناس يذهبون إلى أعمالهم ودوائرهم في الظلمة.
أرجعني السائق إلى المطار نزلت من السيارة وفي تلك المسافة وكانت تلك الليلة هي ليلة العاشر من شهر محرم بين سيارة التاكسي إلى باب المطار ربما دقيقتين لا أكثر، شعرت أن البرد قد جمّد عظامي على باب المطار تلقاني شاب أسمر، سألني هل أنت عربي، صعقت من سؤاله في الوقت الذي لم يكن هناك إلا ربما عشرة أشخاص في كل المطار حملقت في وجهه باستغراب وأجبته نعم أنا عربي, ومن أنت سألته.. قال أنا مصري أشتغل (حمّال) في المطار, هل لي أن أنقل حقيبتك إلى الداخل، كان يظن أنني أريد مغادرة المدينة, قلت له ضعها هناك, قال لي هل لي أن أساعدك..؟ قلت كيف، قال آخذك إلى شقتي, يبدو عليك التعب والبرد، نزلت الكلمة وكأن الله منحني حياة ثانية، قلت مباشرة لنذهب, ناديت على نفس التاكسي وانحدرنا إلى المدينة وصعدت إلى شقة صغيرة في طرف من أطراف بناية مهجورة، حيث جلست وغسلت وصلّيت وشاهدني أصلّي ويدي سابلتان، بادرني المصري (بيّومي): هل أنت شيعي…؟ سكتّ ولم أجبه… كانت ليلة العاشر من المحرم كان قلبي يبكي حزناً لفاجعة الطف، تركني لنصف ساعة وعاد وهو يسألني لماذا أنت قلق، قلت له هذه ليلة مقتل الإمام الحسين (ع) وهي ليلة مُرجفة لي، دعني أبكي الحسين (ع) قليلاً..وما كدت أنهي كلماتي حتى امتلأت عيناه بالدموع، وهو يقول لي بأخويّة رقيقة: يا عمي أنت لست الوحيد الذي تبكيه، إنه أبن فاطمة وهو سيدنا…. كلنا نبكيه…. لم أكلمه بل رجوته أن يتركني لوحدي ما هي إلا ساعة حتى حضر ثلاث أشخاص هندي أحمر وماليزي وهندي شرقي أو باكستاني وبيومي وطلب مني أن أسمعه قصة الحسين (ع)..
ليس لي أن استشعر ماذا قلت وأنا أخطب (مع ركاكتي) في مجلس حسيني في القطب الشمالي لأربعة أفراد ولكن كل ما يمكنني قوله هو أنني شعرت بأنه أروع ما يمكن أن استشعره في حياتي، فقد حضرت ذكرى الواقعة في كربلاء لأكثر من عشرات السنين، ولقد شعرت هناك بأن الحسين (ع) دخل في كياني وأنا ابن النجف وابن كربلاء وتحسست عقلاً بأن الحسين ليس جسداً مسجى في كربلاء، بل هو عنفوان روح الوجدان الإنساني.
في المجلس الحسيني عشت لحظات لا تنسى مع الحسين (ع) وثورة الحسين (؏ السلام) لحظات لا أنساها مدى العمر، لقد انتهى المجلس الحسيني ولكن لم تذهب ذكراه.
وفي الصباح التالي ذهبت لأداء المهمة الرسمية التي جئت ظاهراً لأجلها ولكنها فشلت لسبب فنّي ولم أستطع تأديتها حينها فقط أدركت سبب مجيئي إلى القطب المنجمد الشمالي … حينها فقط أدركت بأن كل مصاعب السفرة ومتاعبها وأهوالها هو لإحياء هذا المجلس الحسيني وهذه التعزية لا غير، فلقد فشلت المهمة الرسمية التي جئت من أجلها ولكن وفقني الله تعالى لاحياء ذكر الحسين (ع السلام) في هذه الأصقاع النائية المنجمدة ومخطئٌ كل من يعتقد أن الحسين جسد فانٍ بل إنّه كيان وفكرة متحركة تسير مع عملقة الروح وتحل في كل عقل يطمح إلى التحرر من ربقة قيود الحياة….
فسلام عليك يا سيدي يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية