بقلم: ميثم الفريجي
يحمل هذا التأريخ (20 تشرين الأول 2002 م) ذكريات سعيدة في عقول وقلوب الكثير من الأخوة المؤمنين المجاهدين الذين كانوا يقبعون تحت سياط وسجون المجرم المقبور صدام وزمرته البعثية.
نعم، هو اليوم الذي تمَّ فيه تبييض سجون الطاغية صدام (1)، حيث صادف ذكرى ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) في الخامس عشر من شعبان، لذا أطلق عليه بعض الأخوة بـ (عفو الإمام المهدي)
وكنت قبل قليل في اتصال عبر الموبايل مع أحد الاخوة الأعزاء على قلبي وممّن قضى معنا فترات التعذيب في سجون الطاغية ؛ الأخ المؤمن المجاهد (الشيخ محمد الجبوري ابو جعفر ) (2) وقد اخطر في ذهني ذكرى هذا اليوم، فأحببتُ أنْ اكتب ما يوفقني الله له، وأقول:
1 / كانت سجون الطاغية (سجن الخاصة في أبي غريب) ممتلأة بالمؤمنين من معارضي الطاغية صدام، والأعداد في تزايد حتى ادخلوا العشرات، بلْ المئات من المؤمنين بتهمة المشّاية لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وبتهمة خدمة الزوار وتوزيع الطعام لهم ونحو ذلك، فبنوا جملونا كبيرا، ليسع هذه الأعداد الكبيرة خارج سجن الخاصة الذي كنا والكثير من الأخوة فيه.
وما أقبح وأنتن ذلك النظام الذي يحكم بالسجن (سنة وسنتان واكثر ) لمجرد الذهاب مشياً لزيارة الحسين (عليه السلام)، أو لخدمة زواره والطبخ لهم.
مضافا الى مئات آخرين قضوا في سجون الطاغية سنوات عديدة ، ورحم الله السيد الطباطبائي الذي قضى أكثر من عشرين سنة وخرج معنا في هذا اليوم.
2 / على أثر الحركة الإسلامية الجماهيرية الواعية التي قادها مرجعنا القائد السيد الشهيد محمد الصدر ( قدس)، ارتفع مستوى الالتزام الديني والعقائدي والسلوكي، وازدادت الشجاعة وعنصر التحدي بين اوساط الشباب المؤمن وعوائلهم المباركة ضد الطاغية وزمرته حتى كان يوم استشهاده ( قدس سره) مفصلاً رئيساً في ذلك فانتقض المؤمنون للمواجهة المباشرة ، وكان النظام الصدامي الطاغوتي كعادته سفاكاً اشراً دموياً حتى قضى الكثير من أخوتنا وزفوا شهداء بعد قائدهم ، بينما ملأت السجون في المئات منهم حتى غدت (صدرية) بامتياز
ورحم الله السيد محمد الهاشمي(3)، تلك الشيبة المباركة التي رافقتني في أيام التعذيب، وسجن الطغاة وهو يقول لي – بفصاحة لسانه المعروفة – حينما كنّا نقف في الطابق العلوي في القسم الثاني من سجن الخاصة في أبي غريب، وهو ينظر ويرى جموع المؤمنين من الشباب في مساحة السجن الضيقة، فيقول: (يا أبا فاطم : كلّ هؤلاء صدريون ! … سبحان الله ملأت بهم السجون ! … اي حكمة هذه !)
وكنت أجيبه : (سيدنا المبارك أطمئن فإنَّ الله حكيم وهو حافظ المؤمنين ، وسيأتي اليوم الذي تفتَّح كلّ هذه الأبواب الحديدية المحكّمة ليخرج هؤلاء المؤمنون بأسرع ممّا دخلوا فيه)، وفعلا كنت اعيش هذا الأمل طيلة الفترة التي قضيتها في سجون الطاغية
وسبحان الله ! جاء هذا اليوم، وفتحت جميع الأبواب على مصراعيها ، وخرج المؤمنون ، وهم يهتفون : ( صلّوا على محمد … صلّوا على محمد ..) وبصوت واحد هزّ ارجاء السجون، والطيران يحلّق فوق رؤوسنا لأخافتنا، والمؤمنون كتف على كتف وبقوة الإيمان يردّدون الصلوات ويهتفون بالحمد والثناء لله تبارك وتعالى…
وكانت دموعي تسيل على خدّي فقال لي بعض المؤمنين : (هذا يوم فرح وليس حزن شيخنا!)
فقلت له: نعم، هو كذلك، ولكن كنت أتمنى أنْ يرى السيد محمد الهاشمي (رحمه الله) هذا اليوم العظيم الذي واعدته به. رحمك الله يا ابا أحمد، يا شيبة الخير والبركة وحشرك مع اجدادك الطاهرين محمد وآله الطاهرين.
وإنْ كنت أنسى فلا أنسى ذلك اليوم الذي عزلني فيه رجال الأمن الصدامي في محجر منفرد (سجن صغير انفرادي )، وكنت افتح قفل بابه واخرج آخر الليل بطريقة ما، لتفقد الأخوة المؤمنين ومساعدتهم فيما يحتاجون ويريدون، فأجده مستيقظا يصلي صلاة الليل، فيسارع فور انتهاء ركعاته نحو قضبان السجن ويصيح: ( أبا فاطم، اشتقنا اليك، ويصر على أنْ يقبلني في جبيني وبين عيني، ودموعه تسيل على خدّيه). انا لله وانا اليه راجعون
3 / كان هذا اليوم يومَ فرح وسرور على جميع الأخوة ، فسارعوا للخروج من سجون الطاغية، والأبواب تفتّح أمامهم ، واصوات الصلوات ترتفع من فوقهم، وكان معي مجموعة من المؤمنين يحملون اشياء بسيطة من مقتنياتهم، فحملت سجادة صلاتي المميّزة(4)، وملابسي في حقيبة صغيرة وخرجت معهم.
وعند وصولنا الى باب الخروج الأخير تفاجئنا بكثرة الناس والعوائل المستقبلة لنا، وهم يحملون رايات الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل (عليهما السلام) ويرفْرفون بها، والأُمهات الكبيرات تهلْْهل فرحاً لخروج أولادها وأحفادها، والشباب يحتضنون السجناء واحداً بعد واحد ويعتبرون كلَّ واحد منهم هو الأخ والابن وابن العم والصديق الذي هم متواجدون لأجل استقباله واخذه معهم.
خرجنا أنا وأخي المؤمن حسن ابو نؤاس (ابو علي)(5) ، وآخرون تطول القائمة إنْ ذكرتهم ، وانفتحت طرق بغداد أمامنا ، فكان القرار أنْ نتوجه الى زيارة باب الحوائج الإمام موسى بن جعفر والإمام محمد الجواد (عليهما السلام) كأول محطة لنا بعد خروجنا من سجن الطغاة، لتقديم آيات الشكر والحمد والثناء لله تعالى، وزيارة أئمتنا في بغداد، وفعلا وفقنا لذلك وبعد اتمام صلاة العشاءين وزيارة الإمامين الهمامين، توادعنا مع بقية الأخوة المؤمنين، ليذهب كلٌّ الى حيث أهله ومحافظته ، وبقي معي الأخ حسن ( ابو علي) لنتوجه لزيارة اقاربنا وارحامنا في مدينة الصدر (من طرفي بيت جدّي الحاج المرحوم خلف (ابو زيدان) ومن طرفه بيت اخته)، ممّن لهم فضل علينا أيام مطاردة المجرم صدام وجلاوزته لنا، حيث فتحوا لنا بيوتهم واسكنونا معهم وقضينا عندهم فترة من الزمن على الرغم من شدّة سطوة النظام وجلاوزته والقتل والترهيب والسجون، فجزاهم الله عنا ألف خير وخير، وحين وصولي اليهم غمروني بكلّ مشاعر الحب والحنان ومنهم تواصلت مع اهلي في البصرة للحديث معهم بالهاتف وتأكيد خبر تحرّري من سجن الطاغية، وعندما صار الصباح انطلقنا الى البصرة لنكون في أحضان أهلنا ومحبينا
وقد لا يستطيع قلمي الوفاء بحق تلك الساعات، كيف كانت؟ وكيف مرت؟ وانا بين يدي الوالد الحنون (رحمه الله)، والوالدة الكريمة اطال الله بعمرها، وبقية اخوتي واخواتي، وزوجتي وطفلتي (فاطمة) وبقية ارحامي واصدقائي
4 / مرّ هذا اليوم والذي بعده، ولم انتظر طويلا حتى توجهت الى النجف الأشرف، حيث ضريح إمام المتقين وسيد الوصيين ويعسوب الدين وأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وبعد أداء مراسيم الزيارة والصلاة والشكر والحمد والثناء لله تعالى على فضله ومنّه، سرت الى مدرستي الدينية (جامعة الصدر الدينية) وكلّي شوق لها، وما فيها ومن فيها!
طرقت الباب، ففتحه بعض الطلبة فيهم الأخ الشيخ عبد الله الصيمري (6) وآخرون، بعد السلام قلت لهم أ تسمحون لي بالدخول؟ وهم كأنَّ على رؤوسهم الطير من شدة الفرح والسرور، فتلقفوني وحملوني الى الداخل وهم يحتضنوني واحتضنهم، فجلسنا الساعات والساعات احدثهم عن تلك الأيام التي كنا فيها بين يدي المجرم صدام وزمرته، ويحدثوني كيف هي اجواء الحوزة العلمية والدرس والصعوبات والمشاكل وغير ذلك كثير، حتى صار وقت العصر، فطلب مني الأخ المرحوم الشيخ صادق ( ابو باقر )(7) أنْ نذهب بمعيته لزيارة سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) عميد الجامعة في بيته في حي الزهراء (عليها السلام)، لندخل السرور عليه بخروجك سالماً من سجون الطغاة …
وفعلاً نزلت عند رغبته، وذهبنا ، فاستقبلنا سماحته فرحاً شاكراً لله تعالى على منّه ولطفه بنا، وقد سألني سماحته عن بعض الأخوة المؤمنين الذين كانوا معنا في سجون الطاغية، ومنهم الشيخ الأستاذ حسين المالكي (8) (رحمه الله تعالى)، فتحيّرتُ ماذا أقول! ، وقد رفْرفت روحه الطاهرة في علّيين حيث أرتقى شهيداً بين يدي الطغاة هو والأخ الشيخ المجاهد علي الكعبي (9) (رحمه الله تعالى) وآخرون، فأطرق سماحته برأسه، وقال: (إنّا لله وإنا إليه راجعون).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : لم يبيّض السجون لحسن نية، وانّما رضوخا لضغط المجتمع الدولي حيث عرف صدام المجرم بوحشيته وجبروته ودمويته وسجونه الظالمة، وقد أعقب ذلك تصفية الكثير ممّن كان يخشى منهم على سلطانه، ومنهم الشهداء الاوفياء من اخوتنا المؤمنين الصادقين، حتى ظننا انه سيصفي جميع من كان معنا في سجونه عندما جرّبوا معنا القاء دفعه من غاز الخردل السام حيث تسمَّم الكثير وسبب لهم صعوبة في التنفس في سجن الخاصة (أبي غريب)
(2): الاخ الشيخ محمد الجبوري (ابو جعفر) من طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف، ومن طلبة السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس) عاصرته في مديرية أمن صدام، وسجن الخاصة في أبي غريب وخرجنا سوية في اليوم المذكور، كان شجاعا وواعيا وصبورا ومتدينا ومتفقها، وقد عاضدني كثيرا في التخطيط للعمل داخل سجون الطغاة ( مديرية أمن صدام) وكان محلَّ سرّي وأُنسي هناك والكلام عن تلك الاجواء يحتاج الى صفحات وصفحات نسأل الله أنْ نوفق لذلك يوما ما
(3): السيد محمد الهاشمي ( رحمه الله ) رجل متديّن عامل من نسل رسول الله (صلى الله عليه واله)، كان معتمدا عند السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس)، وكان يذهب للتبليغ في المناطق النائية التي تقل بها الثقافة الدينية، ويبلّغ دين الله وشريعته هناك، عاصرته في مديرة أمن المجرم صدام، و مديرة أمن البصرة ، وفي سجن الخاصة في أبي غريب حيث كانت آخر ايام حياته هناك عندما اقتحم مجرمو الأمن السجن ووجدوا حلقات درس التلاوة والتجويد ودروس القرآن قائمة بالمؤمنين والسيد المرحوم بينهم، فضربوه ضربات بهراواتهم
،ولم يمر اليوم حتى سمعنا خبر استشهاده ليلا، فإنَّا لله وانّا اليه راجعون
(4): فعلا انَّها سجادة صلاة مميّزة، أهداها لي بعض احبتي عندما وصلنا الى سجن الخاصة في ابي غريب كانت بسيطة وفيها مكان مخصّص لحفظ التربة والمسبحة، وقد رافقتني طيلة صلوات الجماعة من اول يوم دخولي حيث قدّمني الأخوة لإمامة الجماعة هناك والى آخر يوم حيث صلينا الظهرين وخرجنا ، واسعدني كثيرا يوم وصولي الى اهلي حيث حدثتهم عن هذه السجادة فأخذها اخي الأكبر؛ قرة عيني؛ الحاج علي طالب ولازال محتفظا بها فله التحية والشكر.
(5): الأخ الطيب حسن ابو علي، ابن منطقتي، والجار الوفي، صديق الصبا – ولا زال – ، من مقلدي واتباع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس) ، من عائلة متدينة ومؤمنة قضى فترة زمنية في سجون الطاغية وكان صابرا محتسبا ومن قبله اعتقل رجال أمن الطاغية عائلته، فقضت هي وولدها (علي) سنة ونصف مع عوائل المؤمنين المجاهدين التي ناهزت الف فرد، حتى خرجت جميع العوائل بفضل الله تعالى
(6): الشيخ عبد الله الصيمري من سكنة البصرة، ومن طلبة جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف، طيب القلب، ومحب للخير صادق ووفي، له خدمات جليلة ومباركة لمشاريع المرجعية في وقته، ولازال مبارك العطاء بإذن الله تعالى
(7): المرحوم الشيخ صادق باقر كاظم ( ابو باقر)، من خيرة طلبة وأساتذة جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف، ورع، خلوق، متميز بسلوكه واخلاقه وتدينه، كان محل اعتماد جميع طلبة الجامعة وعمادتها، وممّن يعوّل عليه في مستقبلها العلمي، لم يمهله الموت واختاره الله الى لقائه بسرعة ومن دون ميعاد، رحمك الله ابا باقر وحشرك مع اوليائك الصالحين محمد وآله الطاهرين
(8): الشهيد الأستاذ الشيخ حسين هاشم زايد المالكي (رحمه الله تعالى)، من خيرة أساتذة جامعة الصدر الدينية، ارتبط بمرجعيّة السيّد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) منذ بداية انطلاقها في النجف الاشرف، وحاز على ثقة السيد، وتصدّى الى إمامة وخطابة صلاة الجمعة في أكثر من مكان، كان واعيا واجتماعيا ورساليا في حياته، كثير الموعظة حتى في دروسه، وكان محل اعتماد وثقة شيخنا الأستاذ الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في وقته، وقد بنى عليه آمالا في مشروعه الإصلاحي في الحوزة العلمية والمجتمع، كان رجال الأمن كثيرا ما يستدعونه إلى مديريّة (أمن صدّام) في بغداد، لتهديده والضغط عليه، لكنهم لم يستطيعوا الحدّ من حركته، أو ثنيه عن توجّهه، حتى بعد استدعائه من قبل (المجرم طاهر جليل حبّوش) مدير الأمن العام آنذاك، الى أنْ تمَّ الاعتقال الأخير بعد استشهاد السيد (قدس سره) حيث أرتقى شهيدا ملتحقا بسيده ومرجعه الصدر.
(9): الشيخ الشجاع الشهيد علي حسن سلمان الكعبي (رحمه الله تعالى)، ارتبط بمرجعيّة السيّد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) منذ بداية انطلاقها في النجف الاشرف، وحاز على ثقة السيد، وتصدّى الى إمامة وخطابة أهم وأكبر صلاة الجمع في العراق، بل كان من المتميّزين جدا فيها، حتى أقلق النظام البائد وزمرته بمقدار ما يبديه من شجاعة ووعي يبثه للشباب في كلّ جمعة، الى أنْ تمَّ الاعتقال الأخير بعد استشهاد السيد (قدس سره) حيث أرتقى شهيدا ملتحقا بسيده ومرجعه الصدر، وله في سجون الطغاة مواقف بطولية وعقائدية كثيرة