قد يحصل عند ممارسة الطبيب عمله تلف جزئي أو كلي لبعض الأعضاء وربما يموت، فهل يضمن الطبيب هذا التلف؟ لا خلاف ولا إشكال في ضمان الطبيب إذا تصدّى لمعالجة مريض أو إجراء عملية جراحية له فتلف عنده عضو أو مات إذا كان غير متخصص في هذا المجال وغير ماهر وحاذق فيه، أو تعدّى عن حدود عمله المأذون فيها أو قصّر في عمله، كما لو لم يجرِ الفحوصات والتحليلات الكافية أو لم يستعن بالأجهزة والآلات الضرورية للتشخيص كالأشعة والسونار والتخطيط ونحو ذلك، أو قصّر في تهيئة ظروف العملية كعدم تعقيم القاعة والأدوات وعدم توفير الأجهزة المطلوبة لإجراء العملية أو عند الطوارئ لمثل هذه العمليات كالإنعاش الرئوي والقلبي.
كما لا خلاف في عدم ضمان الطبيب إذا لم يكن التلف بسببه كما لو أصيب المريض بسكتة قلبية خلال عملية جراحية لا علاقة لها بها، أو أن المريض أخفى علةً فيه تضرّ بالعملية فهنا السبب وهو المريض أقوى من المباشر وهو الطبيب المعالج.
المشهور عند الإمامية الضمان، قال المحقق الحلي (قدس سره): ((الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه إن كان قاصراً، أو عالج طفلاً أو مجنوناً لا بإذن الولي، أو بالغاً لم يأذن))، واعتبروه قتلاً شبيهاً بالعمد باعتبار أن الطبيب قصد الفعل ولم يقصد القتل فديته على الجاني نفسه وهو الطبيب([1]) خلافاً لمشهور فقهاء العامة، فقد ذهبوا إلى عدم ضمان الطبيب قال ابن قدامة: ((ولا ضمان على حجّام ولا ختان ولا متطبب إذا عرف منهم حذق الصنعة ولم تجن أيديهم، وجملته أن هؤلاء إذا فعلوا ما أُمروا به لم يضمنوا بشرطين: أحدهما: أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم ولهم بها بصارة ومعرفة.
والثاني: أن لا تجني أيديهم فيتجاوزا ما ينبغي أن يقطع))([2]) وفي جوامع الحديث عند العامة ما يدل على ذلك، فقد روى أبو داوود والنسائي والحاكم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (من تطبَّب ولم يعلم منه طبّ فهو ضامن) ويوجد غيره أيضاً.
واستدل على قول المشهور بالضمان بأنه أشبه بأصول المذهب وقواعده في ضمان المتلفات حتى لو وقع خطأ محضاً وعموم المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يبطل دم امرئ مسلم)([3]) وحكي عن المحقق (قدس سره) في نكت النهاية قوله: ((الأصحاب متفقون على أن الطبيب يضمن ما يتلفه بعلاجه))([4])، وأضاف صاحب الجواهر (قدس سره): ((وفي الغنية الإجماع على ذلك أيضاً.
وتردد جماعة في قبول قول المشهور وقال آخرون بعدم ضمان الطبيب؛ ((للأصل ولسقوطه بإذنه، ولأنه فعل سائغ شرعاً فلا يستعقب ضماناً))([5])، قال ابن إدريس (قدس سره) في السرائر (من تطبب، أو تبيطر فليأخذ البراءة من ولي من يطببه، أو صاحب الدابة، وإلا فهو ضامن إذا هلك بفعله شيء من ذلك. هذا إذا كان الذي جنى عليه الطبيب غير بالغ، أو مجنوناً، فأما إذا كان عاقلاً مكلفاً، فأمر الطبيب بفعل شيء، ففعله على ما أمره به، فلا يضمن الطبيب، سواء أخذ البراءة من الولي، أو لم يأخذ، والدليل على ما قلناه، إن الأصل براءة الذمة، والولي لا يكون إلا لغير المكلف. فأما إذا جنى على شيء لم يؤمر بقطعه، ولا بفعله، فهو ضامن، سواء أخذ البراءة من الولي أو لم يأخذها)([6]).
ويرى سماحة الشيخ اليعقوبي أن القول بالضمان لا وجه له؛ لأن الطب علم حسّي تجريبي ويعمل الطبيب بما أفادته التجارب ودقة النظر وقد تكون التجربة ناجحة مع شخص ولا تكون كذلك، أو يكون هذا العلاج المجرب ناجحاً مع شخص ومضرّاً لآخر مع أنهما يعانيان من نفس المرض لأن تركيب جسم الإنسان معقد وتوازنات عمل الأعضاء دقيقة للغاية ولا يمكن أن يضبطها جميعها أحد من الأطباء، واستدل سماحته على عدم الضمان بوجوه، منها:-
1- إن الدية إنما تجب مع صدق عنوان الجناية، والتلف الذي يحصل في عمل الطبيب من دون قصور أو تقصير منه وبإذن المريض لا يصدق عليه هذا العنوان فلا دية فيه.
2- إن الطبيب محسن في عمله خصوصاً إذا كان عمله بلا أجر مع التسليم باكتمال شروط التصدي للعمل وقد قال تعالى: [مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ] (التوبة: 91) فنتمسّك بإطلاق الآية لنفي كل عهدة على ذمة المحسن ومنها الدية ولا يختص بانتفاء الإثم والعقوبة والقصاص ونحو ذلك.
3- سيرة المتشرعة فإننا لم نعهد منهم مطالبة الطبيب بالدية عند حصول وفاة أو تلف في الأعضاء، بسبب المعالجة أو إجراء العملية إذا لم يكن ناتجاً عن قصور أو تقصير، ويمكن أن يكون هذا التصرف منهم لا بما هم متشرعة وإنما بما هم عقلاء وقد تبانوا على ذلك، ولا بأس بهذا ويبقى دليلاً على عدم الضمان لأن بناء العقلاء حجة إذا لم يردع عنه الشارع المقدس، بل يصلح لتقييد المطلقات وتخصيص عمومات ضمان المتلفات وعدم بطلان الدم.
4- إن أذن المريض بالعملية وعرض نفسه على الطبيب أذن بلوازمها وتعهد بكل تبعاتها وآثارها التي تحصل من دون تعدي وتفريط؛ لأن المريض يقدم على العلاج بعد أن يُعلمه الطبيب بنسبة نجاحها وما قد ينجم عنها من أضرار وأعراض جانبية.
5- إذن الشارع المقدس بالمعالجة حتى مع احتمال الوفاة بحسب الروايات، بل إنه يوجب المعالجة إذا كان فيها إنقاذ للنفس أو إذا كان في تركها ضرر بالغ على النفس، وهو أولى من الناس بأنفسهم، فإيجاب الدية حتى مع المهارة والكفاءة وعدم التقصير والتفريط ينافي كل هذا الحث على المعالجة وفيه نقض للغرض، وتحريض على عدم المعالجة، وقد ورد النهي عن تركها في الروايات كما في رواية أبان بن تغلب([7]).
6- إن الطبيب أمين ولم يتصرف في بدن المريض إلا بعد إذنه وإذن الشارع المقدس، والأمين لا يضمن إلا مع التعدي والتفريط مثل سائر موارد الأمانة، الشرعية أو المالكية، كأهل الصنائع وذوي المهن الأخرى الذين يدهم يد أمانة، قال المحقق السبزواري (قدس سره) في أهل الصنائع: ((والصانع أو غيره إذا تلف شيء في يده فالأشهر أنه لا يضمن إلا بالتعدي والتفريط، وليس يده يد ضمان وغصب بحيث يضمن مطلقاً، بل يد أمانة مالكية للأصل، ولأنه أمين متصرف بإذن المالك))([8]).
7- إن تحميل الطبيب دية التلف مع كونه حاذقاً وبصيراً ولم يقصّر في عمله ظلم له والظلم قبيح لا يأذن به المولى، إلا أن يشترط الضمان على الطبيب بنصٍّ شرعي أو قانوني.
8- أظن أن موضوع الضمان غير واضح في ذهن القائلين به لأن فرض المسألة بأن الطبيب حاذق بصير ولم يقصّر في عمله ولم يتعدَّ حدوده، وهذا يجعل سبب التلف ليس راجعاً إليه وإنما إلى نفس العملية فإن فيها نسبة من النجاح والفشل فهذا التلف اقتضاه تحقق الفشل المحتمل كعملية القلب المفتوح التي يمكن أن يتوقف فيها القلب أو عملية الفقرات والظهر التي يمكن أن تضر بالحبل الشوكي، وباختصار فإن التلف وإن باشره الطبيب إلا أن السبب وهو اقتضاء العملية لنسبة من الفشل كان أقوى وإليه ينسب التلف.
9- النقض عليهم بما لو جيء بمريض بحالة حرجة ويحتاج إلى تداخل جراحي أو إجراء علاجي خطير فوري لتعرضه إلى حادث سيارة أو قصف أو زلزال فبادر الأطباء إلى معالجته وحصل تلف، فإن قالوا بعدم الضمان فهو نقض عليهم لأن الاضطرار لا يسقط الضمان وإن قالوا به فهو كما ترى.
انظر موسوعة فقه الخلاف لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ج/12، ص312 والصادر عن دار الصادقين 1441-2020
library.yaqoobi.net/books/موسوعة-فقه-الخلاف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) غاية المراد في شرح الإرشاد للشهيد الأول (قدس سره): 4/446، رياض المسائل: 16/374.
([2]) المغني: 6/120، كتاب الإجارة.
([3]) وسائل الشيعة: 27/350، كتاب الشهادات، باب 24، ح1، و29/106، أبواب القصاص في النفس، باب 46، ح2.
([4]) نكت النهاية: 3/421.
([5]) غاية المراد في شرح الإرشاد للشهيد (قدس سره): 4/447.
([6]) السرائر: 3/373.
([7]) خبر أبان بن تغلب الذي رواه الشيخ الكليني في الروضة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كان المسيح عليه السلام يقول: إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك لجارحه لا محالة، وذلك أن الجارح أراد فساد المجروح والتارك لإشفائه لم يشأ صلاحه، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطرارا، فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا، ولا تمنعوها أهلها فتأثموا، وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوى إن رأى موضعاً لدوائه وإلا أمسك) (وسائل الشيعة: 16/128، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 2، ح5).
([8]) كفاية الفقه: 1/664.
يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية