تأريخ الولادة
ولد ـ سلام الله عليه ـ في دار أبيه الحسن العسكري (عليه السلام) في مدينة سامراء أواخر ليلة الجمعة الخامس عشر من شعبان، وهي من الليالي المباركة التي يُستحب إحياؤها بالعبادة وصوم نهارها طبقاً لروايات شريفة مروية في الصحاح مثل سنن ابن ماجة وسنن الترمذي وغيرهما من كتب أهل السنة، إضافة إلى ما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
وكانت سنة ولادته (255 هـ) على أشهر الروايات، وثمة روايات أُخرى تذكر أن سنة الولادة هي (256 هـ) أو (254 هـ) مع الاتفاق على يومها وروي غير ذلك، إلا أن الأرجح هو التأريخ الأول لعدة شواهد، منها وروده في أقدم المصادر التي سجلت خبر الولادة وهو كتاب الغيبة للشيخ الثقة الفضل بن شاذان، الذي عاصر ولادة المهدي (عليه السلام) وتوفي قبل وفاة أبيه الحسن العسكري (عليهما السلام) بفترة وجيزة، ومنها أن معظم الروايات الأخرى تذكر أن يوم الولادة كان يوم جمعة منتصف شهر شعبان وإن اختلفت في تحديد سنة الولادة، ومن خلال مراجعتنا للتقويم التطبيقي وجدنا أن النصف من شعبان صادف يوم جمعة في سنة (255 هـ) وحدها دون السنين الأخرى المذكورة في تلك الروايات.
ومثل هذا الاختلاف أمر طبيعي جار مع تواريخ ولادات ووفيات آبائه، وحتى مع جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، دون أن يؤثر ذلك على ثبوت ولادتهم (عليهم السلام)، كما أنه طبيعي للغاية بملاحظة سرّيّة الولادة عند وقوعها حفظاً للوليد المبارك كما سنلاحظ ذلك لاحقاً.
تواتر خبر ولادته عليه السلام
روى قصة الولادة أو خبرها الكثير من العلماء بأسانيد صحيحة أمثال أبي جعفر الطبري والفضل بن شاذان والحسين بن حمدان وعلي بن الحسين المسعودي والشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والشيخ المفيد وغيرهم، ونقلها بصورة كاملة أو مختصرة أو نقل خبرها عدد من علماء أهل السنة من مختلف المذاهب الإسلامية أمثال نور الدين عبد الرحمن الجامي الحنفي في شواهد النبوة والعلاّمة محمد مبين المولوي الهندي في وسيلة النجاة، والعلامة محمد خواجه بارسا البخاري في فصل الخطاب والحافظ سليمان القندوزي الحنفي في ينابيع المودة، كما نقل خبر الولادة ما يناهز المائة وثلاثين من علماء مختلف الفرق الإسلامية بينهم عشرات المؤرخين ستة منهم عاصروا فترة الغيبة الصغرى أو ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، والبقية من مختلف القرون إلى يومنا هذا في سلسلة متصلة وهذا الإحصاء يشمل جانباً من المصادر الإسلامية وليس كلها.
وبين هؤلاء عدد كبير من العلماء والمؤرخين المشهورين أمثال ابن خلكان وابن الأثير وأبي الفداء والذهبي وابن طولون الدمشقي وسبط ابن الجوزي ومحي الدين بن عربي والخوارزمي والبيهقي والصفدي واليافعي والقرماني وابن حجر الهيثمي وغيرهم كثير. ومثل هذا الإثبات مما لم يتوفر لولادات الكثير من أعلام التأريخ الإسلامي.
كيفية ظروف الولادة
يُستفاد من الروايات الواردة بشأن كيفية ولادته (عليه السلام)، أن والده الإمام الحسن العسكري ـ سلام الله عليه ـ أحاط الولادة بالكثير من السرية والخفاء، فهي تذكر أن الإمام الحسن العسكري قد طلب من عمته السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد أن تبقى في داره ليلة الخامس عشر من شهر شعبان، وأخبرها بأنه سيُولد فيها ابنه وحجة الله في أرضه، فسألته عن أمه فأخبرها أنها نرجس فذهبت إليها وفحصتها فلم تجد فيها أثراً للحمل، فعادت للإمام وأخبرته بذلك، فابتسم (عليه السلام) وبيّن لها أن مثلها مثل أم موسى (عليه السلام) التي لم يظهر حملها ولم يعلم به أحد إلى وقت ولادتها لأن فرعون كان يتعقب أولاد بني إسرائيل خشية من ظهور موسى المبشر به فيذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، وهذا الأمر جرى مع الإمام المهدي (عليه السلام) أيضاً لأن السلطات العباسية كانت ترصد ولادته إذ قد تنبأت بذلك طائفة من الأحاديث الشريفة كما سنشير لاحقاً.
ويُستفاد من نصوص الروايات أن وقت الولادة كان قبيل الفجر وواضح أنّ لهذا التوقيت أهمية خاصة في إخفاء الولادة; لأن عيون السلطة عادةً تغط في نوم عميق. كما يُستفاد من الروايات أنه لم يحضر الولادة سوى حكيمة التي لم تكن تعرف بتوقيتها بشكل دقيق أيضاً.
وتوجد رواية واحدة يرويها الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة تصرح باستقدام عجوز قابلة من جيران الإمام لمساعدة حكيمة في التوليد مع تشديد الوصية عليها بكتمان الأمر وتحذيرها من إفشائه.
الإخبار المسبق عن خفاء الولادة:
أخبرت الكثير من الأحاديث الشريفة بأن ولادة المهدي من الحسن العسكري ستُحاط بالخفاء والسرية، ونسبت الإخفاء إلى الله تبارك وتعالى، وشبهت بعضها إخفاء ولادته بإخفاء ولادة موسى وبعضها بولادة إبراهيم (عليهما السلام)، وبيّنت علّة ذلك الإخفاء بحفظه (عليه السلام) حتى يؤدي رسالته، نستعرض هنا نماذج قليلة منها.
فمثلاً روى الشيخ الصدوق في إكمال الدين والخزاز في كفاية الأثر مسنداً عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام ضمن حديث قال فيه:
(أما علمتم أنه ما منّا إلا وتقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه، إلا القائم الذي يصلّي عيسى بن مريم خلفه ؟ ! وإن الله عز وجل يُخفي ولادته ويغيّب شخصه لئلاّ يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة النساء يطيل الله عمره في غيبته ثم يظهره بقدرته…).
وفي حديث رواه الصدوق بطريقين عن الإمام علي عليه السلام قال: (… إن القائم منا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة، فلذلك تخفى ولادته ويغيب شخصه).
وروى عن الإمام السجاد عليه السلام أنه قال: (في القائم منا سنن من الأنبياء… وأما من إبراهيم فخفاء الولادة واعتزال الناس….).
وروي عن الإمام الحسين عليه السلام أنه قال: (في التاسع من ولدي سنّة من يوسف وسنّة من موسى بن عمران وهو قائمنا أهل البيت يصلح الله أمره في ليلة واحدة).
وروى الكليني في الكافي بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال ـ في حديث: (انظروا من خفي (عمي) على الناس ولادته فذاك صاحبكم، إنه ليس منا أحد يُشار إليه بالأصابع ويمضغ بالألسن إلا مات غيضاً أو رغم أنفه).
والأحاديث بهذا المعنى كثيرة والكثير منها مروي بأسانيد صحيحة تخبر صراحة ـ وقبل وقوع ولادة الإمام المهدي عليه السلام ـ بخفائها، وفي ذلك دلالة وجدانية صريحة على صحتها حتى لو كان في أسانيد بعضها ضعف أو مجهولية لأنها أخبرت عن شيء قبل وقوعه ثم جاء الواقع مصدقاً لما أخبرت عنه، وهذا ما لا يمكن صدوره إلا من جهة علام الغيوب تبارك وتعالى الأمر الذي يثبت صدورها عن ينابيع الوحي وبإخبار من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.
خفاء الولادة علامة المهدي الموعود (عليه السلام)
ويُلاحظ أن هذه الأحاديث الشريفة تصرح بأنّ خفاء الولادة من العلائم البارزة المشخصة لهوية المهدي الموعود والقائم من ولد فاطمة الذي بشرت به الأحاديث النبوية، وهذا أحد الأهداف المهمة للتصريح بذلك وهو تعريف المسلمين بإحدى العلائم التي يكشفون بها زيف مزاعم مدّعي المهدوية كما شهد التأريخ الإسلامي الكثير منهم ولم تنطبق على أي منهم هذه العلامة، فلم تُحَطْ ولادة أي منهم بالخفاء كما هو ثابت تأريخياً.
وتشير الأحاديث الشريفة المتقدمة إلى علة إخفاء ولادته عليه السلام وهي العلة نفسها التي أوجبت إخفاء ولادة نبي الله موسى عليه السلام، أي حفظ الوليد من سطوة الجبارين ومساعيهم لقتله إتماماً لحجة الله تبارك وتعالى على عبادة ورعاية له لكي يقوم بدوره الإلهي المرتقب في إنقاذ بني إسرائيل والصدع بالديانة التوحيدية ومواجهة الجبروت الفرعوني بالنسبة لموسى الكليم ـ سلام الله عليه ـ، وهكذا إنقاذ البشرية جمعاء وإنهاء الظلم والجور وإقامة القسط والعدل وإظهار الإسلام على الدين كله بيد المهدي المنتظر ـ عجل الله فرجه. وهذا ما كان يعرفه أئمة الجور من خلال النصوص الواردة بهذا الشأن، ففرعون مصر كان على علم بالبشارات الواردة بظهور منقذ بني إسرائيل، وهو موسى عليه السلام من أنفسهم، ولذلك سعى في تقتيل أبنائهم بهدف منع ظهوره، وكذلك حال بني العباس إذ كانوا على علم بأن المهدي الموعود هو من ولد فاطمة ـ سلام الله عليها ـ، وأنه الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام وقد انتشرت الأحاديث النبوية المصرحة بذلك بين المسلمين ودوّنها علماء الحديث قبل ولادة المهدي بعقود عديدة، كما كانوا يعلمون بأن الإمام الحسن العسكري هو الإمام الحادي عشر من أئمة العترة النبوية عليهم السلام، لذا فمن الطبيعي أن يسعوا لقطع هواجس ظهور المهدي الموعود بالاجتهاد من أجل قطع نسل والده العسكري عليهما السلام.
ومن الواضح أنّ مجرد احتمال صحة هذه الأحاديث كان كافياً لدفعهم نحو إبادته، فكيف الحال وهم على علم راجح بذلك خاصةً، وأن ليس بين المسلمين سلسلة تنطبق عليهم مواصفات تلك الأحاديث الشريفة مثلما تنطبق على هؤلاء الائمة الإثني عشر عليهم السلام كما لاحظنا مفصلاً في البحوث السابقة؟!
وعلى ضوء هذه الحقيقة يمكن أن نفهم سر ظاهرة قصر الأعمار التي ميزت تأريخ الائمة الثلاثة الذين سبقوا الإمام المهدي عليهم السلام من آبائه، فقد اُستشهد ابوه العسكري وهو ابن ثمان وعشرين، واستشهد جده الإمام الهادي وهو ابن أربعين سنة، واستشهد الإمام الجواد وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهذه ظاهرة جديرة بالدراسة، وتكفي وحدها للكشف عن المساعي العباسية الحثيثة لإبادة هذا النسل للحيلولة دون ظهور المهدي الموعود حتى لو لم يسجل التأريخ محاولات العباسيين لاغتيال وقتل هؤلاء الأئمة، فكيف الحال وقد سجل عدداً من هذه المحاولات تجاههم عليهم السلام، حتى ذكر المؤرخون مثلاً أنهم قد سجنوا الإمام العسكري وسعوا لاغتياله عدة مرات، كما فعلوا مع آبائه عليهم السلام ؟!.
يقول الإمام الحسن العسكري معللاً هذه الحرب المحمومة ضدهم (عليهم السلام) فيما رواه عنه معاصره الشيخ الثقة الفضل بن شاذان:
قال: حدثنا عبدالله بن الحسين بن سعد الكاتب قال: قال أبو محمّد (الإمام العسكري عليه السلام: (قد وضع بنو اُمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلتين: احداهما انهم كانوا يعلمون انه ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادعائنا إيّاها وتستقر في مركزها، وثانيتهما انهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على ان زوال ملك الجبابرة والظلمة على يد القائم منا، وكانوا لا يشكون انهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول الى منع تولد القائم عليه السلام أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم (إلاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون)).
مراحل حياة الإمام المهدي عليه السلام:
تنقسم حياة كل إمام معصوم بشكل عام الى قسمين رئيسين:
القسم الأوّل: حياته قبل تسلّمه مهام الإمامة والزعامة.
القسم الثاني: حياته بعد تسلّمه لمهام الإمامة والزعامة.
وبالإمكان تقسيم كل منهما الى مراحل.
وبناءً على هذا تنقسم حياة الإمام المهدي عليه السلام الى أربع مراحل متمايزة، وهي:
المرحلة الأولى: حياته في ظل أبيه أي من الولادة سنة (255 هـ) حتى يوم استشهاد أبيه الإمام الحسن العسكري عليه السلام سنة (260 هـ). وهي خمس سنوات تقريباً.
المرحلة الثانية: حياته منذ وفاة ابيه عليه السلام (سنة 260 هـ) حتى انتهاء الغيبة الصغرى سنة (329 هـ). وهي تناهز السبعين عاماً.
المرحلة الثالثة: حياته في الغيبة الكبرى والتي بدأت بعد وفاة سفيره الرابع عام (329 هـ) وهي مستمرة حتى يوم ظهوره على مسرح الأحداث السياسية والاجتماعية من جديد.
المرحلة الرابعة: حياته في مرحلة الظهور التي تبدأ بعد انتهاء الغيبة الكبرى، وهو عهد الدولة المهدوية العالمية المرتقبة والتي أخبرت عنها نصوص الكتاب والسنة.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية