مسلم بن عقيل، هو بن عمّ الإمام الحسين(ع)، وقد أرسله إلى أهل الكوفة لأخذ البيعة منهم، وهو أوّل من استشهد من أصحاب الحسين(ع) في الكوفة، وشهد مع عمه الإمام علي(ع) حرب صفين، وكان أحد قادة جيشه، ويحظى مسلم بمكانة مرموقة ومتميّزة، حيث نقيم له مآتم العزاء في شهر محرّم من كلّ عام، حيث خصصت الليلة الخامسة من المحرم بليلة مسلم بن عقيل.
كان لنهضة “مسلم بن عقيل” موعد مضروب بينه وبين الناس، ولم يزل هو ومن بايعه يتأهبون لذلك الأجل من تعبئة الرجال وتهيئة العتاد، ورسم خطط الحرب الآخذ بالتدابير اللازمة، غير أن الأمر باغته بالقبض على “هاني” وهو آخذ بعضده، وموئل رأيه وفي داره قاعدة ولايته، ومركز سلطته، فاضطرّت الحالة “مسلما”، أن يتعجّل الخروج قبل الأجل، مخافة أن يؤخذ غيلة، ولعله ينقذ صاحبه من مخلب الظالم وقد أسلمته عشيرته.
وكان رسوله إلى قصر عبدالله بن حازم الكبريّ، من الأزد من بني كبير1، ليأتيه بخبر هاني، فعندها أمره أن ينادي في أصحابه: “يا منصور أمت”2، وقد ملأبهم الدور حوله، وتنادى أهل الكوفة بذلك الشعار، فاجتمع إليه أربعة آلاف، فعقد راية لعبيدالله بن عمرو بن عزيز الكندي، على ربع كندة وربيعة، وأمّره على الخيل، وراية لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج، وأسد وأمّره على الرّجالة، وراية لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وراية للعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة.
ثم أقبل مسلم(ع) بهؤلاء الجمع إلى القصر، وكان ابن زياد في الجامع الأعظم يخطب الناس، فدخلت النظارة المسجد من باب التمارين، يهتفون بمجيئ ابن عقيل، فراع ذلك ابن زياد، وأسرع إلى القصر وأغلق أبوابه.
واجتمع الناس حتى امتلئ المسجد والسوق منهم ،وأحاطوا بالقصر، وضاق بابن زياد ذرعه إذ لم يكن معه إلا ثلاثون رجلاً من الشرطة، وعشرون رجلاً من أشراف الناس، وأهل بيته ومواليه.3
فكان أسهل شيء على أولئك الدارعين، إلا جهاز على ابن مرجانة ومن معه لأول وهلة في طليعة الزحف، وفي القوم مساعير للحرب، ولعل منهم من لا يروعه التقحّم على أولئك النفر المعدودين بالأنامل، ولم يكن لابن زياد في ذلك الوقت غير قعقعة الإرهاب، وما أدري كيف انطلت هذه البهرجة على ذوي البصائر، بشؤون المصر الواقفين على ما في أرجائه من قلاقل وفي أجوائه من محن؟
ولكن لا عجب من أذناب الكوفيين إذا مالوا مع عصبة الشيطان، بمجرد أن سمعوا ابن لأشعث وحجار بن أبجر وشمر بن ذى الجوشن، يمنّونهم العطاء مع الطاعة ويهدّدونهم بجند الشام الموهوم، وأشرف عليهم كثير بن شهاب حين كادت الشمس أن تغرب، وقال: “أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر، ولاتعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد قد أقبلت وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربكم ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيّتكم العطاء، ويفوّق مقاتلتكم في مغازي الشام على غير طمع، وأن يأخذ البري بالسقيم والغائب بالشاهد حتى لا يبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلا ذاق وبال ما جرّت يده”.4
فتفرق أولئك الجمع عن مسلم(ع)، حتى لم يبق معه إلا 300 رجل، وصلى العشاء بالمسجد ومعه ثلاثون رجلاً، وانصرف نجو كندة 5 ومعه ثلاثة ولم يمض إلا قليلاً، وإذا لم يشاخد أحداً يدلّه على الطريق فنزل عن فرسه ومشى متلدّداً في أزقة الكوفة، لا يدري إلى أين يتوجّه. 6
إن من العجيب الغريب أمير مصر يتفرق عنه جنده، ووالي قارّة أسلمته أنصاره، لماذا كان ذلك؟ للأوهام والتهافهات، أو للمطامع الشهوات؟ أين النخوة والحفاط؟ أين الآباء والحمية؟ أيظنون أنهم لو انضووا إلى راية الهدى يحرمهم صاحبه الاعطاء؟ أو يضن عليهم بالوظائف؟ أو يقيم الحق بغيرهم؟ لا ها الله ما كان يدّخر الأعطيات إلا لهم، ولا ينضد الكراسي بمن عداهم، ولا قيادة الجيوش إلا بهم، ولو عدلوا لما استلم الحكم سواهم.
لكن خسّة الطباع ولؤم العنصر، حالا دون أن يحضوا بالشرف وضاح والسعادة في الدنيا والآخرة، فاستمروا أجاج الأمويين تحت راية ابن مرجانة، وتركوا التاريخ يذكرهم منافيات المروءة والحفاظ ولوازم قول الزور وخفر الذمم “ولعذاب الله أكبر لو كانوا يعلمون”.7
المصادر والمراجع:
1- تاريخ الطبري ج6 ص208.
2- منصور رئيس الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي يوم بدر وكان شعار المسلمين يا منصور أمت.
3- ابن الاثير ج4 ص12.
4- الطبري ج6 ص208.
5- الأخبار الطوال ص240.
6- اللّهوف لابن طاووس.
7- الشهيد ُسلم بنُ عقيل عليه السلام /عَلامَةُ المَرحُوم عَبْدُ الرَّزاق المُوسَوي المقُرَّم ص 130_133.