استلام أسرة آل سعود للسلطة في الجزيرة العربية، رافقه الكثير من الكوارث الدينية والسياسية، ومن أهمها التطاول على مقدسات المسلمين، والتي منها هدم أضرحة أهل البيت عليهم السلام في البقيع.
لذا سنستعرض لكم في المقال، هذه الجريمة النكراء:
هدم قبور أئمة البقيع:
بعد سيطرة الوهابيّين وحكّام آل سعود على المدينة المنورة، استباحوا مقدساتها، وعثوا في آثارها تخريباً وهدماً، وقد تكررت هذه العملية مرتين، الأولى: سنة 1220 هـ والثانية: سنة 1344 هـ.
في عام 1220 هـ – 1805 دخل الوهابيّون المدينة المنورة بعد حصار طال سنة ونصف، وفي هذا السياق يروي صاحب لمع الشهاب، فيقول:
“فلما قرب الى المدينة أرسل سعود بن عبد العزيز الى أهلها بدخوله فأبوا وامتنعوا من ذلك فحمل عليهم مرارا حتى دخلها فقتل منها بعض اهلها حيث سمى أهلها بالناكثين. ويوم الحادي عشر جاء هو وبعض أولاده فطلب الخدم السودان الذين يخدمون حرم النبي، فقال أريد منكم الدلالة على خزائن النبي، فقالوا لا نوليك عليها ولا نسلطك، فأمر بضربهم وحبسهم حتىٰ أضطروا إلى الإجابة، فدلوه علىٰ بعض من ذلك فأخذ كل ما فيها، وكان فيها من النقود ما لا يحصىٰ، وفيها تاج كسرىٰ أنوشروان، الذي حصل عليه المسلمون لما فُتحت المدائن، وفيها سيف هارون، وعقد كان لزبيدة بنت مروان زوجته، وفيها تحف غريبة من جملة ما أرسله سلاطين الهند بحضرته تزينا لقبته صلى الله عليه وآله، وأخذ قناديل الذهب، وجواهر عديدة.
البقيع بعد الهدم الأول:
مرّ الرحالة “بورخارت” بالمدينة المنورة في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك بعد تهديم الوهابيين للبقيع، فوصفها وصفاً مؤثراً جاء فيه:“…ولعله (أي البقيع) أشد المقابر قذارة وحقارة بالقياس إلى مثله في أية مدينة شرقية في حجم “المدينة”، فليس به متر واحد حسن البناء، كلا؛ بل ليست به أحجار كبيرة عليها كتابة اتُخذت غطاء للقبور، إنّما هي أكوام من تراب أحيطت بأحجار غير ثابتة”، ويضيف “بورخارت” بالقول: “ويعزى تخريب المقبرة إلى الوهابيين فيشير إلى بقايا القبب والمباني الصغيرة التي عمدوا إلى تخريبها ….والموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر، وحفر عريضة و مزابل”.[٢]
إخراج آل سعود من المدينة المنورة:
بقيت الأمور في البقيع على حالها إلى أن سقطت دولة آل سعود على يد دولة العثمانيين، فقد عم الغضب الإسلامي سائر البلاد الإسلامية، وارتفعت وتيرة المطالبات الشعبية بتحرير الأماكن المقدسة من القيود السعودية، وإعادة الهيبة والاحترام إليها كما كانت فيه على الدوام.
وقد شجعت هذه الأجواء الدولةَ العثمانية على التفكير في استردادها، ولذلك فقد طلبت من واليها على مصر محمد علي باشا البدء في الاستعداد لاستعادة السيطرة على الحجاز في عام 1222هـ. 1807م.[٣]
وهكذا بدأ محمد علي باشا في إرسال قواته إلى الحجاز بعد تردد، وكانت أول دفعة أرسلها في 19 رجب 1226هـ. 8 أغسطس 1811م عن طريق البحر تلتها قوة أخرى في 5 شعبان 1226هـ. 26 أغسطس 1811م كما أرسل قوات برية بقيادة ابنه طوسون عن طريق العقبة إلى ينبع المكان الّذي اتفق ان يكون “مكان التّجمع والالتقاء للقوات البحرية والبرية»”، وقد بلغ عددها ثمانية آلاف جندي.[٤] ولم تجد القوات بقيادة طوسون صعوبة في النزول في ينبع وذلك لمساعدة الشريف غالب لها.
وقد تمكنت هذه القوات من إنزال أول هزيمة بالقوات السعودية في البداية، وبدأ طوسون في التخطيط للزحف نحو المدينة المنورة، لكن قواته هزمت في وادي الصفراء.
وقد أرسل طوسون في طلب المدد من أبيه محمد علي باشا حيث وصله فيما بعد فبادر إلى نقل مواقعه إلى بدر (1227هـ. 1812م) وقام بتنظيم قواته وترتيبها ثم زحف إلى وادي الصفراء واحتله [٥].
وقد «وصلت قوات طوسون تساندها قبائل حرب وجهينة إلى المدينة المنورة، وحاصر طوسون بقواته المدينة مدة طويلة، تمكن في أثنائها من فتح ثغرات في سورها، فأضطرت القوات السعودية الَّتي كانت متحصنة بها إلى الإستسلام، وكان دخول المدينة المنورة في التاسع من شهر ذي القعدة.[٦]
وبعد مدّة، أُخذ عبد الله بن سعود إلى مصر حيث أدخل على محمد علي باشا، واستلم منه محتويات ونفائس الحجرة النبوية التي كان قد سرقها أبوه أبان غزوه للمدينة المنورة. [٧]
وعندما استعادت الدولة العثمانية المدينة المنورة أعادت عليها عمارتها وقامت ببناء الآثار الإسلامية التي هدمها الوهابيون وقد أعادوا بناء الكثير من القباب على صورة من الفن تتفق مع ذوق العصر، وساعدهم في ذلك العلماء بالإضافة الى التبرعات السخية والأضرحة الجاهزة التي كانت تأتي من كافة أنحاء العالم الإسلامي.[٨]
الحملة الوهابية الثانية في هدم أضرحة أهل البيت (ع) في البقيع:
في المرة الثانية أراد الوهّابيون أن يظهروا مبرراً وعذراً لعملهم في هدم قباب أئمة المسلمين وقبورهم وإنكار فضلها وفضل أهلها عملا باعتقادهم أن تعظيمها عبادة لها، وأنها صارت كالأصنام تعبد من دون الله تعالى وأنه تعالى نهى عن البناء على القبور؛ فأرسلوا قاضي قضاتهم المسمى “الشيخ عبد الله بن بليهد” إلى المدينة المنورة في شهر رمضان سنة 1344 وبعد دخوله المدينة وجه إلى علمائها هذا السؤال: “ما قول علماء المدينة زادهم الله فهما وعلما في البناء على القبور واتخاذها مساجد هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهياً شديداً فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا؟ وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني عليها فهل هو غصب يجب رفعه لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم أم لا؟ وما يفعله الجهال عند هذه الضرائح من التمسح بها ودعائها مع الله والتقرب بالذبح والنذر لها، وإيقاد السرج عليها هل هو جائز أم لا؟ وما يفعل عند حجرة النبي (ص) من التوجه إليها عند الدعاء وغيره، والطواف بها وتقبيلها، والتمسح بها وكذلك ما يفعل في المسجد من التحريم والتذكير بين الأذان والإقامة وقبل الفجر ويوم الجمعة، هل هو مشروع أم لا؟ أفتونا مأجورين، وبينوا لنا الأدلة المستند إليها لا زلتم ملجأ للمستفيدين”.
قبور الأئمة عليهم السلام حالياً:
وهذا هو نص الجواب المنسوب لعلماء المدينة: “أما البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً لصحة الأحاديث الواردة في منعه ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه مستندين على ذلك بحديث علي أنه قال لأبي الهياج ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته؛ رواه مسلم. وأما اتخاذ القبور مساجد والصلاة فيها وإيقاد السرج عليها فممنوع لحديث ابن عباس: لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه أهل السنن. وأما ما يفعله الجهال عند الضرائح من التمسح بها والتقرب إليها بالذبائح والنذور ودعاء أهلها مع الله، فهو حرام ممنوع شرعا لا يجوز فعله أصلاً. وأما التوجه إلى حجرة النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] عند الدعاء فالأولى منعه كما هو معروف من معتبرات كتب المذهب ولأن أفضل الجهات جهة القبلة. وأما الطواف والتمسح بها وتقبيلها؛ فهو ممنوع مطلقاً. وأما ما يفعل من التذكير والترحيم والتسليم في الأوقات المذكورة، فهو محدث هذا ما وصل إليه علمنا”.
والأرجح عدم موافقة جميع علماء المدينة المنورة على هذا الجواب وما فيه من الحجج الواهية والتي ردّها السيد محسن الأمين في كتابه ” كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب”؛ وإنما هو من الوهابية وإليهم وألفاظه ألفاظهم متوافقة مع عبارات رسائلهم التي نقلنا جملة منها، فجلّ علماء المدينة ساكتون خائفون من نسبة الاشراك إليهم الذي به تستحل دماؤهم وأموالهم وأعراضهم. فمن وافق منهم علة هذا الجواب فخوفاً من السوط والبنادق.[٩]
وبعد هذا الإفتاء، وفي الخامس عشر من شهر جمادي الأولى 1344هـ -1925م، قام ابن سعود وبالتعاون مع بريطانيا بالقضاء على حكم الدولة العثمانية في الجزيرة العربية والسيطرة عليها، ثم دخل المدينة المنورة وقام بمجزرة دموية قتل فيها النساء والرجال والأطفال وعدد كبير من رجال الدين. وفي الثامن من شهر شوال عام (1344هـ) توجهوا مرةً أخرى الى قبور البقيع فهدموا قبابها والأضرحة والمساجد بصورة كاملة وبالوقت نفسه توجهوا الى قبر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله محاولين هدمه لولا ردود الأفعال التي حصلت من خلال المظاهرات والاستنكارات في الدول الإسلامية والعربية.[١٠]
الهوامش والمصادر:
راجع: الرّيكي، حسن بن جمال، لمع الشهاب في سيرة محمّد بن عبد الوهّاب، الرياض، دائرة الملك عبد العزيز، 1426، ص:187.
تحفة الحرمين وسعادة الدارين معصوم بن رحمتعلى – ص253 – 254.
انظر الدولة السعودية الأولى – ص306.
المرجع نفسه – ص311.
المدينة المنورة
تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها – صلاح الدين المختار – ص124.
راجع: الأمين، محسن، كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب، ص: 287- 288، مكتبة الحرمين – قم.