تعد حادثة وفاة السيدة الزهراء بنت رسول الله (صلوات الله عليهما) السريعة بعد أبيها من الحوادث المبهمة في تأريخ صدر الإسلام ومنشأ الإبهام يتمثل في اختلاف النقول التاريخية، حول ملابسات الأحداث التي تلت وفاة النبي (ص) وما جرى فيها من مواقف وتداعيات كان من نتائجها المباشرة رحيل السيدة فاطمة الزهراء (ع) في ريعان الشباب، وهو عمر أوج القوة والصحة البدنية والنفسية.
والحديث عن هذا الموضوع يتدرج ضمن عدة محاور:
الأول: الحالة الصحية للزهراء قبل رحيل النبي (ص).
الثاني: تدهور الحالة النفسية للزهراء بعد وفاة والدها (ص) وعلاقتها بالوفاة
الثالث: أحداث الدار والاصابات التي تعرضت لها الزهراء (ع)
الرابع: المضاعفات وأسباب الوفاة المحتملة
أولاً: الحالة الصحية للسيدة الزهراء عليها السلام قبل رحيل النبي (ص)
بالرغم من اختلاف المصادر في تحديد عمر الزهراء (ع) عند وفاتها حيث تراوحت التقديرات بين 18 سنة (1) (وهو أرجح الأقوال بحسب آراء علماء الشيعة) إلى 29 سنة (بحسب أراء عدد من محدثي العامة) (2).. إلا أن النتيجة واحدة وهي أنها توفيت في عمر الشباب وقمة الحيوية والنشاط البدني الإنساني، ولا تذكر المصادر التي تتطرق إلى روايات وجوانب من حياتها في كنف النبي (ص) عن تعرضها لأية حالة مرضية سابقة بل تفيد النقول الحديثية والتاريخية عكس ذلك مما يشير إلى تمتعها بصحة بدنية ونفسية وإنجابية ممتازة، فهي تقوم بأعمال المنزل الشاقة وتصوم الواجب والمستحب وتقوم الليل وأنجبت للإمام علي (ع) الحسنين وزينب وأم كلثوم مضافاً إلى حملها الخامس المذكور في بعض الروايات..
إن الكثير من الأمراض النفسية ترتبط بعوامل وراثية أو بحالات نفسية سابقة تدهورت وتعقدت لتصل إلى مرحلة المرض النفسي المستفحل، وبالنظر إلى تفسير بعض المحدثين ونقلة التواريخ من عامة المسلمين لوفاة الزهراء بحزنها الشديد على وفاة أبيها فهذا يستدعي أنها مرت بحالة مرضية نفسية أدت إلى الموت، ما يعني أنها مرت بأزمة نفسية خطيرة ومثل هذه الأزمات المهددة للحياة لابد أن يكون لها جذور في مراحل سابقة أو عوامل وراثية، وهذا ما لا نجد له أي دليل في التأريخ بل العكس ..
فهي (عليها السلام) لم تعان من أية حالة نفسية قد تؤثر على سلوكها أو تكون تمهيداً لمرض نفسي مزمن، بل كان تحملها للضغوط الناجمة من بساطة المعيشة وتقشفها وثقل المسؤولية مضرب المثل ومناط الاقتداء فقد عاشت أجواء الاضطهاد القرشي لأبيها في مكة وشهدت الحصار والجوع قي شعب أبي طالب ووفاة أمها خديجة وهي طفلة و بقيت إلى جانب والدها تحنو عليه وتؤنسه وتواسيه حتى سماها بأم أبيها وهي شهادة نبوية على شدة تحملها وسعة استيعابها للمصائب والمحن واتزانها النفسي فوق العادي ..
فإذا ضممنا ذلك إلى حقيقة كونها في عمر الشباب تنتفي لدينا جميع احتمالات السوابق المرضية الممهدة لتدهور الحالة الصحية البدنية والنفسية فضلا عن الموت خلال اشهر بعد وفاة النبي (ص).
ثانياً: تدهور الحالة النفسية للزهراء (ع) بعد وفاة النبي (ص) وعلاقتها بالوفاة
تذهب بعض الآراء التاريخية إلى أن الصدمة النفسية التي عاشتها السيدة فاطمة (ع) بعد وفاة أبيها (ص) كانت هي السبب المباشر لوفاتها، والحق أن الروايات تتفق على شدة حزنها على وفاة النبي (ص) ودخولها في حالة اكتئاب حاد.
ومن المعلوم أن تفاعل الأسى Grief reaction أو الفقدان Bereavement هما من الحالات النفسية الشائعة والطبيعية والتي تترافق مع فقدان الشخص لفرد عزيز على قلبه، وتتمثل أعراضه بالنحيب المستمر والحزن العميق وفقدان القدرة على النوم، وهو على درجات بعضها بسيط وبعضها أكثر شدة ولكن في معظم الحالات تزول الأعراض النفسية أو تقل خلال عام واحد (3) .
وبالرغم من عدم كون هذه الحالة (تفاعل الحزن أو الأسى) من مظاهر المرض العقلي أو النفسي بحسب التصنيفات النفسية الحديثة، إلا أنها قد تتطور عند بعض الأشخاص إلى درجة كبيرة تدعى الجزع المعقد أو المطول prolonged or complicated grief حيث تستمر الحالة لمدة طويلة فتسبب حالة اكتئاب شديد وشعور بالفراغ الداخلي وفقدان الرغبة في الحياة، وقد يؤدي إلى مشكلة قلبية وعائية كالجلطة القلبية أو اعتلال تاكوسوبو العضلي القلبيTakusobo cardiomyopathy (وتسمى ايضا متلازمة القلب المنكسر) Broken heart syndrome (4).
ولكن هذه المضاعفات البدنية (على ندرتها) لا تحدث إلا في الحالات المتقدمة من الجزع والكآبة وفقدان الرغبة في الحياة كما أسلفنا، وهذه المشاعر النفسية تختلف عن الحالة الطبيعية في تفاعل الأسى الذي يمثل الاستجابة النفسية الطبيعية لفقدان الشخص العزيز. ومن المرجح بل المؤكد أن الحالة النفسية للسيدة الزهراء عليها السلام كانت ضمن الطيف الطبيعي لتفاعل الأسى حتى ولو كان في أشد حالاته، ولم تتطور إلى الحالة المعقدة لأدلة وشواهد عديدة منها:
1. إن التربية النبوية للأمة والمؤسسة على العقيدة الإلهية تفرض الرضا والقبول بالقضاء الإلهي وتعد الانكسار والجزع المؤدي إلى الإضرار بالنفس من المحرمات، بل من الواضح أن السيدة الزهراء وهي أقرب الأمة إلى النبي (ص) بعيدة كل البعد عن الاستسلام للحزن إلى درجة ترفض فيها الاستمرار بالحياة وتنعزل عن مهامها ومسؤولياتها الرسالية تجاه البيت النبوي والأمة الإسلامية بداعي الحزن على أبيها.
2. إن المواقف التاريخية العديدة التي واجهتها الزهراء (سلام الله عليها) وحضورها الشجاع فيها يعكس حالة نفسية أبعد ما تكون عن الحالة النفسية للجازع المنفصل عن واقعه والفاقد للآمل والرغبة في الحياة، فهي ترفع الشكوى ضد الخليفة المعين مطالبة بإرثها من النبي (ص) وممتلكاتها من نحلتها في فدك وحقها من سهم ذوي القربى في خُمس خيبر والتي منعها عنها هذا الخليفة. بل وتخرج في جماعة من نسائها الى مجلسه لتلقي خطبة عصماء تدين فيها مخالفة الحاكم المعين لشرع الاسلام وشرع الاحسان وشرع المودة في القربى وهي خطبة مطولة القيت على ملأ كبير من المهاجرين والأنصار تتميز بالجزالة والبلاغة ودقة الوصف وقوة الحجة (5) مما يعكس استقرارا ذهنياً ونفسياً على درجة عالية برغم كل الأوجاع والآلام النفسية، بل ونراها في واقعة الهجوم على الدار تقف بين الزمرة المعتدية وبين زوجها وتحاج وتخاصم، ومثل هذه المواقف لا يمكن أن تصدر من مريض نفسي استبد به حزنه وقاده الى حتفه.
3. يمر المريض بالجزع المعقد بحالة نفسية من فقدان الإهتمام بكل ما حوله وفقدان التلذذ بالفعاليات اليومية التقليدية ومنها النوم والطعام والعبادة وهو ما لم يكن موجودا في حالة السيدة الزهراء ع حيث لم تنقطع عن الدعاء والعبادة مما يدل على عدم وجود هذه الحالة المعقدة التي تتقاطع واداء الفعاليات اليومية بشكل طبيعي.
وعليه ، فمن الواضح أن مقولة وفاة السيدة الزهراء عليها السلام حزنا على أبيها غير مقبولة ولا محتملة من الناحية الطبية لعدم وجود السوابق المرضية البدنية او النفسية ولعدم وجود أية أعراض نفسية غير طبيعية تتفق والحالة المعقدة من الجزع المترافقة مع اعراض نفسية وسلوكية شديدة والتي قد تؤدي الى الوفاة في حالات نادرة جدا.
(يتبع)
المصادر
——————-
(1). الكافي للكليني : ج1 ص 485 والرواية منقولة عن الامام ابي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ومثلها عن الباقر عليه السلام وعلى هذا الرأي عامة علماء الشيعة من المتقدمين والمتأخرين
(2). الاستيعاب في معرفة الاصحاب لابن عبد البر 4:380 ، وهناك اقوال اخرى نحو 25 و 27 وغيرها
(3). Mughal S, Azhar Y, Mahon MM, Siddiqui WJ. Grief Reaction. 2022 May 22. In: StatPearls [Internet]. Treasure Island (FL): StatPearls Publishing; 2022 Jan–. PMID: 29939609
(4). Prigerson HG, Horowitz MJ, Jacobs SC, Parkes CM, Aslan M, Goodkin K, Raphael B, Marwit SJ, Wortman C, Neimeyer RA, Bonanno GA, Block SD, Kissane D, Boelen P, Maercker A, Litz BT, Johnson JG, First MB, Maciejewski PK. Prolonged grief disorder: Psychometric validation of criteria proposed for DSM-V and ICD-11. PLoS Med. 2009 Aug;6(8):e1000121. doi: 10.1371/journal.pmed.1000121. Epub 2009 Aug 4. Erratum in: PLoS Med. 2013 Dec;10(12).
(5). بلاغات النساء لابن طيفور ص 19
بقلم سعد الخزاعي
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية