الوقفة الثالثة: القيادة الرسالية عاقبة التقاعس وقوع فتنة في الأرض وفساد كبير
حذر سماحة المرجع اليعقوبي في الخطاب الفاطمي السابع عشر الذي ألقاه في ذكرى شهادة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، من وقوع فتنة في الأرض وفساد كبير نتيجة تقاعس المؤمنين عن أداء واجبهم في نصرة الله تبارك وتعالى.
وقد ذكر سماحته عدة مصاديق للميادين التي يمكن أن تتجلى فيها هذه النصرة. قال سماحته:
(… 8- الانضمام إلى الأنشطة الاجتماعية المثمرة كالأعمال الخيرية والخدمية والتنموية والتوعوية والعلمية والثقافية ورعاية المواهب والكفاءات وإيجاد فرص العمل وقضاء حوائج الناس وتزويج المتعففين. فهذه كلها من الدين وقد قال تعالى: (وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ). والدين له هذا المعنى الشامل من العمل المبارك (وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ). ويحذر الله تبارك وتعالى من التقاعس عن هذه النصرة (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِى ٱلْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)…[1].
قام المرجع اليعقوبي بترتيب بعض الآيات المباركة من سورة الأنفال وجمعها مع بعض في تنسيق وبيان جميل. فلنتوقف قليلاً لمطالعة تفسير قوله تعالى: (وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِى ٱلْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73] حتى تزداد الصورة وضوحا إلى وضوحها.
قال الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) في تفسيره لهذه الآية المباركة:
اخبر الله تعالى عن الكافرين أن بعضهم أولياء بعض بمعنى النصرة، لأنه ينصر بعضهم بعضاً. وقوله (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) الهاء عائدة إلى معنى ما أمروا به في الآية الأولى والثانية، ومخرجه مخرج الخبر والمراد به الامر ، وتقديره الا تفعلوا ما أمرتم به من التناصر والتعاون والبراءة من الكفار (تَكُن فِتْنَةٌ فِى ٱلْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) على المؤمنين الذين لم يهاجروا[2]. فالفتنة هاهنا المحنة بالميل إلى الضلال لأنه إذا لم يتوال المؤمن المؤمن على ظاهر حاله من الإيمان والفضل، ولم يدعه إلى التبري من الضلال أدى ذلك إلى الضلال. والفساد ضد الصلاح وهو الانقلاب إلى الضرر القبيح. والصلاح جريان الشئ على استقامة…[ 3 ]
وقال محمد جواد مغنية (رحمه الله) في تفسيره:
« إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسادٌ كَبِيرٌ » . إلا هنا مركبة من كلمتين إن الشرطية ، ولا النافية ، والهاء في تفعلوه تعود إلى النصر في قوله : «فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» والمعنى انكم أيها المسلمون إن لم تنصروا من استنجد بكم من المسلمين على الكافرين الذين حاولوا أن يفتنوه في دينه ، ويردوه إلى الشرك ، إن لم تنجدوه تكن فتنة وفساد بتسلط الشرك على الإيمان والباطل على الحق.[ 4 ]
وقال السيد الطباطبائي في تفسيره:
قوله تعالى: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسادٌ كَبِيرٌ) إشارة إلى مصلحة جعل الولاية على النحو الذي جعلت، فإن الولاية مما لا غنى عنها في مجتمع من المجتمعات البشرية سيما المجتمع الإسلامي الذي أسس على اتباع الحق وبسط العدل الإلهي. كما أن تولى الكفار وهم أعداء هذا المجتمع يوجب الاختلاط بينهم فيسرى فيه عقائدهم وأخلاقهم، وتفسد سيرة الإسلام المبنية على الحق بسيرهم المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان. وقد صدق جريان الحوادث في هذه الآونة ما أشارت إليه هذه الآية.[ 5 ]
وقال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان:
ثم ذكر سبحانه وتعالى حكم الكافرين فقال (وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ) أي: بعضهم أنصار بعض، عن ابن إسحاق ، وقتادة … ( إلا تفعلوه ) وتقديره ألا تفعلوا ما أمرتم به في الآية الأولى، والثانية، ومخرجه مخرج الخبر، والمراد به الأمر. وتقديره : إلا تفعلوا ما أمرتم به من التناصر والتعاون والتبرؤ من الكفار (تَكُن فِتْنَةٌ فِى ٱلْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) على المؤمنين الذين لم يهاجروا، ويريد بالفتنة هنا: المحنة بالميل إلى الضلال. وبالفساد الكبير: ضعف الإيمان. وقيل: إن الفتنة هي الكفر، لأن المسلمين إذا والوهم تجرؤوا على المسلمين، ودعوهم إلى الكفر، وهذا يوجب التبرء منهم، والفساد الكبير: سفك الدماء …[ 6 ]
ولتجنب وقوع مثل هذه الفتنة والفساد الكبير أو الخلاص منهما إذا ما وقعا يجب على المؤمنين ان ينصروا الله تعالى من خلال المصاديق التي ذكرها المرجع اليعقوبي. لأننا عرفنا أن الكافرين ينصر بعضهم بعضا فإذا قصرنا في نصرتنا. فمعنى ذلك أن يد الكافرين ستكون هي العليا فيحدث ما ذكرته الآية الشريفة (تَكُن فِتْنَةٌ فِى ٱلْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ).
وقد شخص المرجع اليعقوبي مشاريع أعداء الإسلام وأهدافهم في وقت مبكر وحذر الأمة منها. وفي معرض بيان أسباب تضاعف مسؤولياتنا في الوقت الحاضر قال سماحته في محاضرة ألقاه سنة 1422هـ / 2002م:
الهجمة الشرسة التي يتعرض لها المسلمون في العالم تحت عناوين مظللة ومموهة يستطيعون بها تمرير خططهم وتحشيد أكبر عدد من المؤيدين …
والذي يتابع تصريحات الساسة الغربيين يكتشف هذه الحقيقة كما جرت على لسان الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء إيطاليا ورئيسة وزراء بريطانيا السابقة، لأنّهم يشعرون بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كقطب عالمي مقابل لهم. أن العدو المقبل والوحيد هو الإسلام، فقد أكّد صموئيل هانتنج تون صاحب نظرية صدام الحضارات التي نشرها أول مرة في مجلة شؤون خارجية في عددها سنة 1993 يقول: (إن الصراع القادم سوف لن يكون آيديولوجياً مثلما كان إبان الحرب الباردة بقدر ما سيكون صراعاً بين الحضارات. لا سيّما الحضارة الإسلامية والغربية) وقال ما نصه: (أن التفاعل العسكري الذي يمتد عمره قروناً بين الغرب والإسلام ليس من المرجح أن ينحسر بل قد يصبح أكثر خطراً) …
وتقول تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا عام 1991م : لقد قضينا على الشيوعية وبقي علينا أن نقضي على الإسلام.
وحربهم هذه على الإسلام ليست جديدة وإن تركزت اليوم وتوسعت. فمن قبل قال رئيس الوزراء البريطاني تشرشل بعدما رفع المصحف لجنوده : (انزعوا هذا الكتاب من حياة المسلمين اضمن لكم السيطرة عليهم). وقال لويس التاسع ملك فرنسا عند هزيمته في الحملة الصليبية وإطلاق سراحه عام 1250 مخاطباً جنده : (إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح، ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم). وقال المبشر وليم جيفورد : (متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه) فهدفهم إخراج المسلمين من قيمهم ودينهم وتفتيت الوحدة الإسلامية وتمزيقها.
وماذا يريدون من حربهم الحالية ضد الإسلام والمسلمين يقول البروفسور ريتشارد كروسمان المسؤول السابق لقسم الحرب النفسية في بريطانيا: (هدف هذه الحرب تحطيم أخلاق العدو وإرباك نظرته السياسية ودفن جميع معتقداته ومثله التي يؤمن بها والبدء بإعطائه الدروس الجديدة التي نود إعطاءَها له ليصار بالتالي إلى أن يعتقد بما نعتقد به نحن). فانظر إلى الكلمات المرعبة التي اختارها (حرب ـــ تحطيم ـــ عدو ـــ إرباك ـــ دفن) فهل نحن في مرحلة الحرب أم الإرباك أم الدفن والعياذ بالله.[7]
وقال سماحته:
إننا نعيش حرباً شعواء على الإسلام بأشكال مختلفة، أحدها الحرب العسكرية التي يسمونها الحرب ضد الإرهاب، وقد اتحدوا جميعاً وتناسوا خلافاتهم وكل عداوات الأمس ليكونوا يداً واحدةً في هذه الحرب. وقد أعلنت الأخبار اليوم (28/ 5/ 2002) ـــ وأنا أكتب هذه السطور ـــ أنهم وضعوا المسمار الأخير في نعش الحرب الباردة بالاشتراك في اتخاذ القرار بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. وهذا الشكل من الحرب واضح وملتفت إليه، لكن الأخطر منه هو الحرب الخفية بتشويه صورة الإسلام وتمييع أحكامه وإفراغه من مضامينه والاكتفاء بالشكليات. فيسوّقوا لنا أنه لا مانع من أن تتحجب المرأة ولكن على الطريقة الأمريكية أو الفرنسية. ولا بأس بأن يلتزم الشاب بالصلاة والصوم مادام غربياً في أفكاره وولائه ومظهره…[8].
وبعد حرب إسقاط الطاغية صدام أخذ البعض الجهلة يسبحون بحمد الولايات المتحدة فبث سماحته الوعي في أذهان هؤلاء ليصحح لهم موقفهم وكان ذلك من خلال كلمات مسجلة وخطابات مكتوبة ومن بينها خطاب المرحلة رقم (7). والذي حمل عنوان (تكليفنا في هذه المرحلة) الذي صدر بتأريخ 16 ربيع الثاني 1424 المصادف 16/6/2003 ومما جاء فيه قول سماحته:
إن أمريكا وإن حاولت الإيحاء بأنها صاحبة فضل علينا حين قضت على النظام البائد تريد في ذلك أن تخدعنا بأنها جاءت لتحررنا من الظلم والبطش، وأجيبهم بمثال بسيط لو أن أحداً جاء بكلب مسعور ودربّه على أذى الجيران وسهّل له ذلك ومكّنه حتى قتل وجرح وأتلف، والناس تستغيث وتطالب صاحبه بالتخلص منه وهو لا يسمع، حتى استفحل أمر الكلب فصار يؤذي صاحبه فرأى هذا أن من المصلحة القضاء عليه فتخلص منه، لكن هل يكون صاحب هذا الكلب متفضلاً على الجيران؟ على العكس بل عليه أن يدفع كل الخسائر والأضرار التي حصلت بسببه.
هذا هو حالنا فإن أمريكا هي التي جاءت بعميلها ودربته ومكنته وسكتت عن جرائمه ودافعت عنه، ولكنه لما فشل في القضاء على الإسلام بالوسائل الوحشية وامتدت حركة الإسلام والعودة إلى الله تبارك وتعالى لتشمل أغلب هذه الأمة الكريمة، رأت أمريكا أن تتدخل بنفسها وبأساليب اشد مكراً وخبثاً، فإن ظاهرها الحرية والديمقراطية والتحضر ونحوها من العناوين البراقة، لكنها تستبطن السم الزعاف.[ 9 ]
وتأكيداً منه على دفع توهم البعض بأن لأمريكا الفضل في التغيير وأنها تستحق الشكر أصدر سماحته خطاب المرحلة (11) الذي حمل عنوان (هل لأمريكا الفضل في حصول التغيير ؟)[ 10 ] بتاريخ 2 جمادي الأولى 1424 المصادف 2/7/2003 وأوضح من خلاله السبب الحقيقي للتغيير.
وفي خطاب المرحلة (7) آنف الذكر أوضح المرجع اليعقوبي بكل صراحة ووضوح أن الولايات المتحدة جاءت من أجل تدمير أسلحة الدمار الشامل وأنها تقصد بذلك الشباب المؤمن الرسالي حيث قال سماحته:
إنهم حينما يتحدثون عن أسلحة الدمار الشامل إنما يقصدونكم أنتم جنود الإمام المهدي (عجل الله فرجه) الذين سيفتح بكم الإمام (عجل الله فرجه) العالم كله منطلقاً من هذه الأرض الحبيبة المعطاء، وحينما تقول أخبار الظهور أنه في زمانه يكشف الفرات عن كنوز ما هي والله من الذهب والفضة، فالكنوز هم انتم الذين أنجبكم الفرات والعراق كله بدجلة والفرات هو ابن الفرات لأنه الاسم الأوضح في الأذهان يومئذٍ كما نقول الحسنين تغليباً للحسن والشمسين تغليباً للشمس فنقول للعراق الفرات تغليباً له، فإذا أردتم الفوز والفلاح فحافظوا على دينكم واقطعوا أسباب الفساد والانحراف عن أنفسكم أولاً وعن أسركم ثانياً وعن مجتمعكم ثالثاً لتكونوا من تلك الكنوز.[ 11 ]
وفي بداية الخطاب قال سماحته:
يشهد بلدنا الحبيب اليوم حلقة جديدة من سلسلة هذا الصراع الطويل فها هي أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني جاءوا لينتزعوا منكم هذه الجوهرة الثمينة وهو الإسلام وولاية أهل البيت (عليهم السلام) التي لا يعدلها شيء، يأتي شخص إلى الإمام (عليه السلام) يشكوا له ضعف حاله وأنه ليس عنده شيء فقال (عليه السلام): بل إن عندك أكثر من الدنيا وما فيها، فتعجب وقال: كيف يا ابن رسول الله؟ قال (عليه السلام): إن عندك ولايتنا أهل البيت فهل تتخلى عنها مقابل الدنيا كلها، قال لا، قال إذن عندك ما هو أثمن من الدنيا وما فيها في الوجود.
حتى الحياة التي هي أثمن شيء عند الإنسان لا قيمة لها بدون الصلة بالله تعالى وولاية أهل البيت (عليهم السلام) قال تعالى (والفتنة اشد من القتل)؛ لأن الفتنة عن الدين قتل للروح وتخريب للحياة الأبدية الخالدة، فهي أخطر من قتل هذا الجسد المادي وإنهاء هذه الحياة القصيرة وهم جاءوا ليفتنوكم عن دينكم وليقتلوكم معنوياً، وإن وعدوا بالرخاء المادي، لكن ما قيمته مهما عظم إذا كان ديننا في خطر وولاية أهل البيت (عليهم السلام) في خطر، فكونوا يقظين وحذرين ومتأهبين وواعين فإن الدين أمانة في أعناقنا جميعاً فأدّوا الأمانة إلى أهلها كما أداها السلف الصالح وأوصلوها إلينا ناصعة نظيفة رغم مرور 1400 عام.[ 12 ]
وإن كان كلام المرجع اليعقوبي لا يحتاج إلى ذكر شواهد خاصة وأنه سبق وأن استعد وتهيأ لهذه المواجهة وهذه الحرب قبل عدة سنوات كما بيّنا وهيأ وعبأ الشباب المؤمن الرسالي حتى يكونوا على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقهم في هذه المفصل التاريخي المهم إلا أنه مع ذلك ذكر شاهدا على سبب مجيء قوى الاستكبار بعد أن فشل عميلها المتمرد في تحقيق أهدافها حيث قال سماحته:
وأنقل لكم أحد الشواهد على ذلك فقبل أيام جاءت مجموعة من الأمريكان ومترجم معهم إلى إحدى مدارس الطالبات للنظر في احتياجات المدرسة وسألوهن عن مطالبهن، فقالت إحداهن نريد تعلية الجدار الخارجي لحماية الطالبات من نظر الأجانب، فقال المترجم: لا نستطيع ذلك لأنهم يريدون منكن خلع الحجاب وأنت تريدين تعلية الجدار؟ فقالت هذه المؤمنة العفيفة المنتمية لمدرسة الزهراء (عليها السلام) وزينب الكبرى: إذن نرميهم في (الزبالة) -أي سلّة النفايات والمهملات- رغم أنها كانت قبل قليل تشكو للمترجم ضعف حالتها المادية.[ 13 ]
وحينما ذكر سماحته هذه الحادثة في خطابه الذي ألقاه على جموع من أهالي الناصرية الذين وفدوا لمبايعته وإعلان الولاء له في خوض هذه المواجهة الحضارية بكى وأبكى الحاضرين.[ 14 ]
وقد وضع سماحته في وقت مبكر المشاريع الاصلاحية التي تثبت عقيدة وايمان وأخلاق المجتمع العراقي وهويته التي تريد قوى الاستكبار سلبها منه بمختلف الوسائل والطرق قال سماحته: (ولكل معسكر من معسكري الخير والشر أدوات وآليات في هذه المواجهة وهي متنوعة ومتفاوتة من حيث قوة التأثير واستعداد الإنسان للتأثر بها لذا علينا أن ننوع في آليات الإصلاح والدعوة إلى الخير بحسب تنوع آليات الدعوة إلى الشر والفساد وقوة تأثيرها وهذا واضح لدى المصلحين والعاملين الرساليين.
وقد يستدل المؤمن الصالح على علو همته وحصانته وتمسكه بالنهج الإلهي القويم من خلال قوة ما يستعمله عدوه من اجل إبعاده عن هذا النهج ، كما أن الجيوش المتحاربة تستعمل آلة حربية مناسبة لعدة وعدد الخصم.
فنحن في العراق حينما نرى أن شياطين الإنس جاؤوا بأنفسهم إلى هذه الأرض بعد أن كانوا مكتفين بعملائهم لتنفيذ مخططاتهم فان هذا يعني أن الحركة الإسلامية المباركة في ارض الأئمة الأطهار قد بلغت من القوة والتجذر بحيث احتاجت أن (يبرز الشرك كله إلى الإيمان كله ) لأنهم ماذا بقي عندهم أزيد من هذه التعبئة كما حصل يوم معركة الخندق حينما عبأ المشركون وأحلافهم كل قوتهم لمواجهة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) حينئذ كلمته المشهورة عندما خرج علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمبارزة فارس الأحزاب عمرو بن عبد ود العامري (اليوم برز الإيمان كله إلى الشرك كله ) وبانتصاره (عليه السلام) كسرت شوكة المشركين ولم تقم لهم قائمة بل توالت انتصارات المسلمين حتى فتح مكة.
ونحن نرى اليوم أن قوى الشر استجمعت كل قدراتها العسكرية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والإعلامية لتجعل من ارض العراق المباركة ساحة لمواجهة المد المتنامي لمدرسة الحق )[ 15 ].
ومن هذه الوسائل والطرق التي جاءت بها قوى الاستكبار المنظمات والجمعيات الخيرية والانسانية … المدعومة من قبلها والتي تحمل عناوين براقة ولكن هدفها الحقيقي هو سلب دين المسلم وأخلاقه وقيمه …
وقد تصدى سماحته لهذه المخططات منذ أن وطأت أقدام الاحتلال أرض العراق الحبيب ففي خطاب ألقاه سماحته على جموع من أهالي الناصرية الذين وفدوا لمبايعته وإعلان الولاء له بتاريخ 16 ربيع الثاني 1424هـ الموافق 16 حزيران 2003م حث فيه المؤمنين على تنظيم امورهم عليكم ( تنظيم أموركم في اتحادات ونقابات وجمعيات بحسب ما يقتضيه الحال، كاتحاد إسلامي للطلبة ورابطة للمرأة المسلمة ونقابات إسلامية وللأطباء والصيادلة والمعلمين والمهندسين وغيرهم، وجمعيات ومراكز ثقافية واجتماعية وإنسانية ودينية، فإن هذه التنظيمات قوة لكم وإعزاز لأمركم، كما أنها تجعل العطاء أكثر وأفضل…)[ 16 ]
وفي كلمة ألقاها سامحته في وفد طويريج بتاريخ شباط 2004 وكانت بعنوان (العمل الجماعي والمنتظم وتحديات المرحلة) حذر سماحته من خطورة هذه المنظمات المدعومة من دول الاستكبار وحث المؤمنين على إنشاء المنظمات والمشاريع الخيرية والثقافية … لمواجهة الأهداف الخبيثة التي يراد تحقيقها من خلال هذه المشاريع التي تحمل عناوين انسانية.
وفي نفس الكلمة قال سماحته حول بقاء الاحتلال الأمريكي: إنهم لا يبقون كثيرا في العراق لأن هذا الأمر يكلفهم وهم لا يبقون عسكريا ولكن سيبقون أكيد ثقافيا ويبقون فكريا ويبقون سياسيا ويبقون اقتصاديا حينئذ علينا أن نفكر بهذه الاتجاهات التي هي المواجهة الحقيقية.[ 17 ]
وفي كلمته التي ألقاها في وفود طلبة جامعات ومعاهد بغداد التي جاءت تبايعه وذلك بتاريخ 28/ربيع الاول/1426هـ الموافق 7 آيار 2005م كشف سماحته للحاضرين: أن الاحتلال الأمريكي كان قد قرر انه حينما يضع اقدامه على الارض يأتي بمنظماته التي تتكفل بتغيير اخلاق الشعب العراقي وثقافة الشعب العراقي وتقاليده ودينه تحت مسميات منظمة انسانية… إلخ[ 18 ]
وفي كلمة ألقاها سماحته في وفد موكب فاطمة بنت أسد ووفد من مدينة الصدر بتاريخ 16 جمادى الاولى 1426هـ الموافق 21 حزيران 2005م أكد فيها على دور منظمات المجتمع المدني في بناء العراق الجديد في ظل فقدان ثقة الشعب بالسلطات الثلاث …[ 19 ] .
وبعد أن وجد تقصير في الاستجابة أصدر سماحته خطاب المرحلة الذي حمل عنوان (توسيع مؤسسات المجتمع المدني ضرورة حضارية) وذلك بتاريخ 23 جمادى الأولى 1426 الموافق 30 حزيران 2005م وذكر سماحته دور هذه المؤسسات في حياة الأمة.[ 20 ]
وفي كلمة ألقاها سماحته في وفد إحدى مؤسسات مجتمع المدني العاملة في الكوت بتاريخ 8 صفر 1426هـ الموافق 19 آذار 2005 قال سماحته:
ليس غريبا بأن يسمون منظمات المجتمع المدني بالسلطة الخامسة … فهي قادرة على التحكم بالسلطات الأخرى إذا أدت دورها … وهذا ما فعلناه هو تكثير مؤسسات المجتمع المدني…[ 21 ]
وأوضح سماحته كيفية التعامل مع المنظمات الغربية التي دخلت بكثرة إلى العراق بعد سقوط النظام[ 22 ].
وفي كلمة ألقاها سماحته في وفد منتسبي مستشفى الكاظمية التعليمي سنة 2005 أكد فيها على أن من ضرورات العمل في هذه المرحلة إنشاء وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني وعدّد سماحته مقترحات لإنشاء مؤسسات وذكر منها إصلاح ذات البين.
وانتقد سماحته في نفس الكلمة عدم فعالية منظمات المجتمع المدني في قضية كتابة الدستور وتوعية الأمة باتجاهه لأنه من الضروري أن تكون الأمة واعية قبل التصويت له[ 23 ] وبسبب هذا التقصير أخذ سماحته على عاتقه بنشر عدة خطابات بعنوان ثقافة دستورية بالإضافة إلى كلمات مسجلة[ 24 ]
ونتيجة للتقصير في توعية المجتمع وعدم تكاتف قادة البلاد تم تمرير الدستور الذي لم يقم المرجع اليعقوبي بإمضائه شرعيا إلا بعد تعديل بعض فقراته ولكن لم يضم أحد صوته إلى صوت لمرجع اليعقوبي لهذا السبب لم تعدل بعض فقرات الدستور وبقى سماحته على موقفه الشرعي[ 25 ].
وفي كلمة لسماحته ألقاها في وفد مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) الثقافية ولفيف من اهالي ناحية النصر في الناصرية ومما جاء فيها: إن منظمات المجتمع المدني أقرب إلى الناس والناس أكثر ثقة بها والناس قد فقدت الثقة بالأحزاب السياسية وفقدت الأحزاب السياسية مصداقيتها أما ثقة الناس فمستمرة بهذه المراكز والروابط والمؤسسات والجمعيات .. لأنها من الشعب وليست جزءا من الحكومة حتى تتحمل التعبات والسيئات التي في الادارات الحكومية … فعليكم استثمارها بأفضل صورة وتعطوا الناس في جميع الاتجاهات.
ورأى سماحته ضرورة أن تساهم سائر منظمات المجتمع المدني في خلق الوعي فحينما تغيب عن مصادر القرار فحينئذ يمكن ان تمرر امور كثيرة… إلخ[ 26 ]
وتوجد الكثير من الكلمات بهذا الخصوص وتأكيده هذا إنما جاء لأهمية المسألة إلا أني سأعرض عن ذكرها جميعا . .
ومن أهم كلمات سماحته أنه لم يجد عذرا لمن لم يؤد دوره في تحفيز والاشتراك في تأسيس هذه المنظمات والجمعيات … وذلك في كلمة لسماحته ألقاها في عدد من منظمات المجتمع المدني ووجهاء العشائر من قضاء الخضر في محافظة المثنى ومن ناحية النصر في محافظة ذي قار ومن كربلاء، ووفود شبابية من البصرة وبغداد قال فيها:
(إنني لا أجد عذراً لمعتذر لم يؤدِّ دوره في تحفيز إخوانه والاشتراك معهم في تأسيس المنظمات الإنسانية والخيرية والثقافية والتبليغية والاجتماعية وغيرها حتى تملأ مثل هذه المنظمات كل مساحات الاحتياج)[ 27 ].
فليس بالشيء الغريب حينما نجد سماحته يؤكد على هذه المسألة المهمة في النقطة الثامنة من الخطاب الفاطمي السنوي السابع عشر وحذر سماحته من التقاعس عن أداء هذه النصرة وطلب عدم التقصير وعدم ادخار أي جهد عن نصرة الدين وأهله وذلك بقوله:
(لا تقصروا في الالتحاق بهذا الركب المبارك وعدم ادخار أي جهد عن نصرة الدين وأهله وهنا يحثنا أمير المؤمنين (عليه السلام) على بذل كل الجهود في هذه المجالات المتنوعة كل بحسبه وبحسب قدرته وامكانياتها ومؤهلاته قال (عليه السلام) أسهروا عيونكم وأضمروا بطونكم واستعملوا اقدامكم وانفقوا أموالكم وخذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم ولا تبخلوا بها عنها فقد قال الله سبحانه (إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) وقد كتب الله تعالى على نفسه أن ينصر من نصره ويثبت قدمه على الصراط المستقيم قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) وقال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وقال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ) أي في الدنيا والآخرة بالتمكين وقوة الحجة وظهور أمر الدين نعم قد يتأخر نصر الله تعالى لحكمة يعلمها ولا نعلمها أو لتمحيص الناس وتمييز الصادق من المدعي والمخلص من المنافق (وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلْغَيْبِ ) وقد يمر المؤمنون بصعاب ومكاره وشدائد تزلزل أنفسهم إلا أنها تقوي إيمانهم وتنقي اخلاصهم وأنهم في النهاية هم المنتصرون قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا۟ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْا۟ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُوا۟) من شدة البلاء (حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ) من شدة إحباطهم وفقدان الأمل (مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ) يأتيهم الجواب (أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ) وقال تعالى: (حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسْتَيْـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓا۟ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا۟ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ) وقال تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا۟ عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا۟ وَأُوذُوا۟ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِ وَلَقَدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِى۟ ٱلْمُرْسَلِينَ).
واعلموا أيها الأخوة أن من يتقاعس ويتخاذل ويبخل فإنه لا يضر إلا نفسه وإن الله غني عن العالمين وسيأتي بقوم آخرين يقومون بهذا الواجب ويفوزون بثوابه العظيم (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ) وقال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا۟ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓا۟ أَمْثَٰلَكُم).[ 28 ]
وفي الختام أذكر نفسي وجميع المؤمنين بأن لا ندخر جهدا كما قال المرجع اليعقوبي لأننا قاب قوسين أو أدنى من النصر فلنتسمك بمرجعيتنا الرسالية ولنسارع في تطبيق أوامرها وتوجيهاتها فإن فيها سعادة الدارين …
أختم بما كشفه المرجع اليعقوبي في حديث له مع مجموعة من علماء وفضلاء الهند وباكستان ومع عدد من العلماء والزوار من العلويين الأتراك المقيمين في ألمانيا وبلجيكا والنمسا يتقدمهم سماحة العلامة الشيخ عيسى الكنش من زعماء العلويين الأتراك في ربيع الثاني 1430هـ الموافق نيسان 2009م. حيث قال سماحته:
(قد أذن الله تبارك وتعالى اليوم بانطلاق هذا الصوت المبارك من العراق ليفتح العالم كله)[ 29 ]
المصادرـــــــــــــــــ
[1] التسجيل الكامل للخطاب الفاطمي على اليوتيوب: https://youtu.be/ptABALTu7pM
[2] روي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال في حديث معنى المهاجر: (والمهاجر من هجر السيئات وترك ما حرم الله) بحار الأنوار ج64 ص358.
[3] التبيان ج5 ص163.
[4] التفسير الكاشف ج3 ص515.
[5] تفسير الميزان ج9 ص142.
[6] ج4 ص499.
[7] خطاب المرحلة ج1 ص247.
[8] خطاب المرحلة ج1 ص272.
[9] خطاب المرحلة ج3 ص74.
[10] خطاب المرحلة ج3 ص100.
[11] خطاب المرحلة ج3 ص75.
[12] خطاب المرحلة ج3 ص73.
[13] المصدر نفسه.
[14] تسجيل فيديوي.
[15] نشرة الصادقين العدد (42).
[16] خطابات المرحلة ج3 ص78.
[17] تسجيل فيديوي.
[18] تسجيل فيديوي.
[19] تسجيل فيديوي.
[20] خطاب المرحلة، ج4 ص61. نشرة الصادقين العدد (26) .
[21] تسجيل فيديوي.
[22] نشرة الصادقين العدد (18) الصادر بتاريخ 16 صفر 1426هـ الموافق 27 آذار 2005م.
[23] تسجيل فيديوي.
[24] خطاب المرحلة ج3 ص148 (استطلاع وتثقيف الرأي العام حول فقرات الدستور ونظام الحكم). وص 199 (نتائج الاستطلاع …) ، خطاب المرحلة ج4 ص105 وص144 (ثقافة دستورية).
[25] خطاب المرحلة ج4 ص149.
[26] تسجيل فيديوي.
[27] خطاب المرحلة ج8 ص3.
[28] التسجيل الكامل للخطاب الفاطمي على اليوتيوب: https://youtu.be/ptABALTu7pM
[29] خطاب المرحلة ج6 ص54.
محمد النجفي