عندما خرَجَ النبي صل الله عليه وآله لمباهلة نصارى نجران، كانَ ” عليه مرطٌ من شعر أسود “، حين خرج في اليوم الموعود، أي بعد إتمام الحجّة وإقامة البُرهان العلمي القاطع من خلال ( إن مَثَلَ عيسى عند الله كمَثَل آدم )، وصل الدورُ إلى الحاجّة وبلغ الأمرُ إلى المباهلة، فخرجَ رسول الله صل الله عليه وآله مرتدياً ثوباً ورداءً أسود، إنها أمورٌ لا تخفى عليكم، ولكن المهم هنا هو نقل ( ما نقلَهُ) هؤلاء ( العلماء السنيّون)، وما (يجب) عليهم أن يُعدّوه من جواب على ذلك! …
هكذا بلَغَ الأمرُ إلى المباهلة، تُرى ما هي حقيقة المباهلة؟ إنّ جواب هذا السؤال هو ما سيأتي على لسان كبير أساقفة النصارى، ولكن مع مراعاة خصوصيّات معيّنة وهي أنّه صل الله عليه وآله :” خرجَ وعليه مرطٌ من شعر أسود “، وكيف كانت هيئةُ الخروج؟ ( ومم يجدر التنويه إليه ) إن ما يُذكرُ هنا برمّته هو من أكثر المستندات الروائيّة والتفسيريّة إتقاناً واعتباراً، وهي مم لا ارتباط له بالمذهب الشيعي ( بالمصادر الشيعية ) بتاتاً !
خرج… “وكان قد احتضَنَ الحسينَ”، ومع أن سيّدَ الشهداء عليه السلام كان حينها في سنّ يتمكّن من السير على قدميه، إلا أنّ الرسولَ صل الله عليه وآله خَرَجَ -لخصوصيّة- بهذه الهيئة: وهو يحتضن الحسين ويضمّه إليه، ( أمّا يده الأخرى ) ومن الطرف الثاني ( فالحديث يقول ): ” وأخذَ بيد الحسن”، أرجو التمعّن والتدقيقَ في خصوصيّات النقل، لقد تقدّم هو (رسول الله صل الله عليه وآله)، “وفاطمة تمشي خلفَهُ، وعليٌ رضيَ الله عنه خلفها”، كانت هذه حالةُ وهيئةُ خروجهم (للمباهلة).
لقد كان حَريّا بالفخر الرازي والزمخشري والقاضي البيضاوي والحاكم النيشابوري وجلال الدين السيوطي، أن يُسرّحوا النظرَ ويُدلوا برأيهم في جميع خصوصيّات القضيّة، فليست القيمةُ للرواية بقدر ما هي للدراية، وقد قام أساسُ الدين – كتاباً وسُنّةً – على التفقّه (ف) ” الكمالُ كلّ الكمال التفقّه في الدين”، وحقيقةُ التفقّه عبارةٌ عن إمعان النظر والتدقيق في كل الأقوال، وجميع الأفعال والخصوصيّات، ثم الإستنتاج ( الإستنباط )…
لقد صدَرَت هذه الحركاتُ والخصوصيّات عن ذلك النبي الذي يجسّد قوله تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) ( النجم / ٣ )، وهذه كلمة تعني الكثير ، فمن لا ينطق عن الهوى، لا يفعل عن الهوى ( أيضاً )، وهو الذي نزلَت فيه {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر / ٧)، وهو الذي تُعدّ أقوالُه وأفعالُه، ويُعدّ تقريره سُنّةً، لا مجرّد أقواله فقط… فجميعُ حركاته وسكناته سُنّة، وكلّ أحواله وأطواره (وما يعتريه)، مرتبطٌ بمقام { ثم دَنَا فتدَلّى * فكانَ قابَ قوسين أو أدنى } ( النجم / ٨-٩ )، إنه خُلاصةُ العالَمِ ومُحصّلته، إنه النبيُ الخاتم، جوهر الوجود، والفرد الأوّل لعالم الكون، إن كلّ نظرة (التفاتة) من مثل هذا الشخص تحملُ ( في طيّاتها وتنطوي على بحر متلاطم و…) دنياً من الحكمة، وكلّ عمل منه يُشكلُ مَعيناً تتدفّق منه أربعة المعارف.
وعندما تراه يتقدّم، وعليٌ على أثره، وفاطمة في الوسط (بينهما)، فإن لهذا الوضع معنىً ومدلولاً! إنه يعني أن فاطمةَ برزخٌ بين النبوّة الكُبرى والولاية العُظمى، إنه يعني أن فاطمةَ عليها السلام تتمتّعُ بموقع القُطبية ولها دورُ المركزية ( المحورية ) بين مقامي: الوحي الأعظم والبلاغ، فالذي كان يتقدّمها هو رسول الله صل الله عليه وآله وسلم، والذي كان يسير خلفها هو علي عليه السلام صاحب مقام تفسير الوحي…
هذه هي فاطمة الزهراء عليها السلام، مجهولة القدر على جميع العوالم ….
ما الأمر والسرّ في الخروج على هذه الهيئة ؟ ( وكيف تتابع القصةُ سيرها ؟ )
هنا قال كبير الأساقفة وأعلن لقومه: ” بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، ثم قالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك فقال صلوات الله عليه: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما على المسلمين، فأبوا، فقال: فإني أناجزكم القتال، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفى حلة: ألفا في صفر، وألفا في رجب، وثلاثين درعا عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال: والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله، حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا ”
ألا ليتَه اقتَرَنَ فهمُ الأسقف النصراني مع نقل الفخر الرازي ! إذ ها هنا تكمُن المصيبة ! فالروايةُ من الفخر الرازي ، ولكن الدرايةَ من الأسقف النصراني ! … وهذه طامّة كبرى ! لقد أدركَ الأسقف بأنّ عليه أن يحولَ – بأي ثمن – بين هؤلاء وأن يرفعوا أيديَهم بالدعاء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله حين خرج على تلك الهيئة التفت إليهم ( إلى الزهراء والأمير وابناهما عليهم السلام ) وقال : ” إذا دعوتُ فأمنّوا “، دقّقوا في هذه العبارة، لقد طلَبَ منهم أن يقولوا : ” آمين ” بعد دعائه، ماذا يعني ذلك ؟ أيّها الفخر الرازي، والزمخشري والبيضاوي : إن ذلك يعني ( إن لهذا القول والفعل من رسول الله معنى هو ) أن ما يقومُ به النبيّ صلى الله عليه وآله هو انعكاسٌ للوحي ( وتطبيقٌ لأوامر السماء )، فقد جاءَ الوحي ب { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ } ( آل عمران ٦١ )، فكان لا بدّ أن يجتمعَ الجميع ثم تكون ( لكي تتحقّق ) المباهلة.
إن عبارة ” إذا دعوتُ فأمّنوا “، تعني أن دعائي، وأنا النبي الخاتم، هو ( مجرد ) مقتضي، وهناك شرطٌ لفعليّة اقتضاء هذا المقتضي، هو أنفاسُ فاطمة الزهراء عليها السلام، ولا بد أن تنضمّ ” آمّينها ” إلى دعائي ( حتى تتحقق الإجابة )!
إن دعاء الزهراء عليها السلام شرطٌ، ومن المحال أن يؤثر المقتضي بدون تحقق الشرط، ( هذا ما جاء به الوحي ، وقَضَتْ به السُنة )، وما كان دعاء النبي صلى الله عليه وآله ليتحقّق حتى في مثل ذلك الظرف ( الحسّاس )، أي حين مباهلة نصارى نجران ، إلا أن ترتفع إلى السماء أربعةُ أيد أُخرى بالدعاء…
إذا كان الأمر كذلك، فمَن يكون عليّ إذن ؟ ومَن تكون فاطمة ؟ ومَن يكون الحسن بن علي ؟ ومَن يكون الحسين بن علي عليه السلام ؟ …
آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني دام ظله الوارف