إنه يوم وحدة الأمة الإسلامية.. ووحدة المسلمين منهج رباني، وهدي نبوي، جاء به الإسلام، وأرساه قيمًا، وسلوكًا، وعملاً، وعبادة في كافة نواحي الحياة؛ فما من عبادة، أو خلق إسلامي، أو أمر دنيوي إلا وتجد فيه الدعوة إلى الوحدة، والتوحيد، وتجسيد روح الترابط، والمساواة بين الأمة.
في يوم عرفة يتجسّد هذا المعنى بوضوح يقف ملايين المسلمين صفوفاً متراصة موحدة في النية والدعاء واللباس على صعيد عرفة لإحياء مراسم الوقوف في يوم الحج الأكبر ملبين لله معلنين العبودية والطاعة له وحده والبراءة من كل مشرك و الرفض لأي ظلم أو استكبار عالمي ضد الأمة الإسلامية والمسلمين كافة،إنه بحق يوم وحدة وقوة المسلمين.
أيها المسلمون.. ومع انتشار نور الإسلام في الآفاق، وسريان الهدى في كل القارات كان ملتقى الجميع في عرفات، هذا الموقف الذي لا يصح الحج بدونه،هذا الموقف الذي يجمع المسلمين من القارات الخمس على اختلاف الأجناس والألوان واللغات والطبقات ليعلنوا في خشوع وإخبات: “لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك؛ لا شريك لك لبيك”.
إن جميع من في الموقف يعلوهم شعار واحد؛ ألا وهو: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وفي هذا الموقف سقطت جميع الشعارات، فلا يمينية ولا اشتراكية، ولكن أمة إسلامية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من اليابان والصين إلى أمريكا وأوروبا.. إنه شعور فياض بين شعوب الأرض جميعًا بالأخوَّة التي ألَّف الله بها بين قلوب المسلمين، وصدق الله: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63)﴾(الأنفال).
فالحج أكبر تظاهرة إسلامية تختزن من خلال أبعادها التعبّدية بعداً سياسياً يعلن موقفه من المستجدات السياسية على الساحة السياسية الإسلامية. وينطلق هذا البعد لفريضة الحج من مفاهيم الوحدة الإسلامية حيث يحوّل الطواف بالبيت الحرام إلى طواف بمنهج الإسلام والحفاظ على وحدة المسلمين، ويتحول رجم الشيطان إلى رجم السياسات الاستعمارية التي تريد السيطرة على مقدرات الأمة وشعوبها.
في تلك البقاع الطاهرة التي تهوي إليها النفوس، وتتهافت إليها القلوب، وتسير إليها الركبان فرادى وجماعات يأتون من كل فج عميق؛ استجابة لنداء الملك العلام: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾[الحج: 27-29]. ليتنعموا بلحظات التجلي العظيم لله على عباده، ويعيشوا أياماً مباركات؛ قياماً وسجوداً، تهليلاً وتكبيراً، ذكراً وتلبيةً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، رافعين بذلك شعار العبودية الخالصة لله تعالى، مجسدين معاني الوحدة والأخوة الإيمانية بينهم، التي لا تكاد توجد في أي تجمع من تجمعات الكتل البشرية في هذه الأرض.