الشيخ حسين الخشن
بالعودة إلى الجمود الذي أصاب علم الكلام لقرون طويلة، فإنه ـ وفق ما نعتقد ـ لم يفقده حيويته الاجتهادية وقدرته الذاتية على التجدد شكلاً ومضموناً فحسب، بل أضعف من وظيفته الأساسية في الرصد المستمر والعمل على حياطة الدين بمنع تسلل المفاهيم الدخيلة أو اجتياح الأفكار المشوّهة، والعمل على غربلتها وتصحيحها، ووضع الحدود الفاصلة بين الحقائق والأوهام، والمقدس والنسبي، والثابت والمتغير.
إن انكفاء أو نأي علم الكلام عن القيام بهذه المهمة المزدوجة: التجديدية والرصدية، أدى ـ في نهاية الأمر ـ إلى انكفاء الإسلام نفسه عن التأثير المطلوب والتغيير المرجو في واقع الأمة، وفسح في المجال أمام أمرين خطيرين وهما:
1 ـ غزو الفكر الآخر واجتياحه لقطاعات واسعة من أبناء الأمة.
2 ـ انبعاث الفكر السلفي المتحجر محملاً ومعبأ بكل هموم الماضي ومشاغله.
هذه الأجواء هيأت لانتشار جملة من المفاهيم العقدية المحرَّفة والمزوّرة، التي تمّ تثميرها بطريقة مغايرة لحقيقتها، ومضادة لروح الدين ومقاصده وأهدافه.
غياب منطق الأسباب والمسببات:
ولعل واحداً من أخطر هذه المفاهيم العقدية التي طاولتها يد التشويه والتحريف هو مفهوم التوحيد الافعالي أو الفاعلي الذي تمّ تفسيره بطريقة مصادمة لسنة رئيسة من سنن الله في الخلق، بل قل : مصادمة لأهم قانون ارتكزت عليه البشرية في نهضتها وتطورها، أعني به قانون العلية والمعلولية، المعبّر عنه في بعض المأثورات بجملة “إن الله أبى أن تجري الأمور إلاّ بأسبابها”. إن هذا القانون الذي تدين له الإنسانية في كل معارفها وحضارتها، قد تمّ رفضه من قبل بعض الفرق الكلامية الإسلامية الكبيرة. وذلك بزعم منافاته مع عقيدة التوحيد، فانك لو اعتقدت بأن النار هي سبب الإحراق أو علة الحرارة فقد أشركت بالله وجعلت في الكون مؤثراً غيره، والصحيح ـ في نظر هؤلاء ـ أن الذي أوجد الحرارة أو الإحراق هو الله ولا دخل للنار في ذلك إطلاقاً، غاية الأمر أن عادته تعالى جرت على إيجاد الحرارة عند وجود النار دون أن تكون هناك رابطة بين الأمرين، أعني النار والحرارة، أو الشمس والضياء، وهكذا فالإنسان إذا أكل حتى شبع فإنه لا يشبع بسبب الأكل وإنما شبع عند الأكل، وإذا كسر زجاجة فهي لم تنكسر بكسره، بل عند كسره، فالمسألة مسألة اقتران لا سببية، يقول صاحب جوهرة التوحيد، وهي منظومة في العقيدة الأشعرية:
والفعل في التأثير ليس إلا للواحد القهار جلّ وعلا
ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة
ومن يقل بالقوة المودعةِ فذاك بدعي فـلا تلتفـتِ
وإنكار التأثير والسببية لا يقتصر على الظواهر الطبيعية والجمادات والحيوانات، بل يمتد إلى الإنسان نفسه، فإن أفعال هذا المخلوق العاقل ليست تحت قدرته ولا هو الموجِد لها، بل لو اعتقد أنه الموجد لما يصدر عنه من أفعال سواء الطاعات منها أو المعاصي، فقد أشرك بالله وجعل له نداً، والصحيح ـ في نظر هؤلاء ـ أن الخالق لأفعال العباد هو الله، والعبد مجرد محل لها. يقول الشريف الجرجاني في شرح المواقف:” إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، والله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختباراً… فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً، ومكسوباً للعبد، والمراد بكسبه إياه: مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلاً له، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري”(شرح المواقف: 8/146).
إن هذا الاعتقاد المزوّر الذي ينسف مبدأ العلية أدّى إلى اغتيال الإبداع لدى العقل العربي، لأنه تضمن دعوة صريحة لا لبس فيها إلى تجميد العقول عن التفكير في علل الأشياء وأسبابها، فليس عليك بل ليس لك أن تفكر في علة المرض أو الكسوف أو الخسوف أو غيرها من الظواهر الطبيعية، لأنّ علة ذلك كله هي الله ولا رابطة بين الظاهرة وما يرى من آثارها. فارتفاع حرارة المريض لا علاقة لها بالمرض، وإنما هو محض تقارن اتفاقي، وهكذا الحال في سائر الأمثلة.
إن هذا المنطق إذا ما ساد في أمة من الأمم فلا تسأل بعد ذلك عن سرّ تخلفها وتقهقرها وتبدد طاقاتها وتفشي الجهل فيها. ولعل هذا هو ما حدا بأحمد أمين، الكاتب المصري المعروف، أن يتمنّى عودة الفكر المعتزلي إلى الحياة الإسلامية، لأنه لو ظل سائداً، “لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم الضعف وشلهم الجبر وقعد بهم التواكل”(ضحى الإسلام: 3/70).
القرآن وقانون العلية:
والحقيقة أن الأمر لا يتوقف على استعادة مذهب الاعتزال أو الفكر المعتزلي، بل على إحياء المنطق القرآني واستحضاره، فإن هذا المنطق يؤكد وبوضوح على قانون العلية وإسناد الظواهر إلى أسبابها الطبيعية، والآيات القرآنية التي تسند الأفعال إلى ظواهر طبيعية أو إلى إرادة الإنسان كثيرة، ولا مجال لاستعراضها في المقام، وعلى سبيل المثال: فإن قوله تعالى:{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة}(البقرة:261)، يدل بوضوح على استناد نبات السنابل إلى نفس الحبة، وهكذا عندما نقرأ قوله تعالى:{إنّ الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد:11)، فإننا نستلهم منها صراحة أن الإنسان هو الذي يصنع الأحداث ويغيّر مجرى التاريخ، وأنه ليس مجرد ريشة في مهب الريح. وقد عبر عن هذا المعنى الحديث المروي عن الإمام الصادق(ع) خير تعبير، قال (ع):” أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح علماً…”(الكافي1/183).
إن الغفلة القاتلة التي وقع فيها هؤلاء هو عجزهم عن المواءمة بين قانون العلية ومبدأ التوحيد الفاعلي، فتخيلوا أن معنى التوحيد المذكور هو أن الله سبحانه هو العلة المستقلة والمباشرة لكل الأحداث الكونية، الأمر الذي اضطرهم إلى رفض قانون السببية أو العلية، مع أن الاعتقاد بوحدانيته تعالى في الخالقية وجعل التأثير بيده، لا ينفي التأثير عن سائر العلل الطبيعية، لأن تأثير هذه العلل ليس على نحو الاستقلال بل هو يستند في نهاية المطاف إليه تعالى، فتأثيرها في طول تأثيره لا في عرضه، وهوـ أي الله ـ الذي أوجد فيها خصوصية التأثير، فجعل في النار خصوصية الإحراق وفي الشمس خصوصية الإشراق، وهكذا في سائر الأمثلة، ما يعني أن مبدأ العلية أو السببية ليس فقط لا ينافي التوحيد بل يؤكده وينسجم معه تمام الانسجام.
بين التوكل والتواكل:
وغير بعيد من هذا السياق فقد حصلت غفلة أخرى عن المغزى الحقيقي لمبدأ التوكل على الله والاعتماد عليه في كل الأمور كطلب الرزق أو الشفاء أو الأولاد أو النصر…
فقد خيّل للكثيرين أن التوكل يتنافى واللجوء إلى الأسباب الطبيعية، وهذا التخيل هو الذي مهد لانتشار ثقافة الاستشفاء بالأحراز أو القرآن، وطلب الرزق أو النصر بمجرد الدعاء والتوسل، وبعيداً من الأخذ بأسباب ذلك، مع أن المتأمل في سيرة المسلمين الأوائل قبل غيرهم، يدرك أن ما توصلوا إليه من انتصارات على مختلف الجبهات وفي شتى الميادين العلمية والعسكرية والطبية… إنما كان ثمرة طبيعية لاعتمادهم مبدأ الأخذ بالأسباب، فهم لم يفهموا من قوله تعالى:{وإذا مرضت فهو يشفين}(الشعراء:80) أنه دعوة إلى ترك التداوي بالطرق الطبيعية، وإنما فهموا أنه يشفي من خلال الأسباب الطبيعية، وهكذا الحال في الرزق والنصر وطلب الولد… فإن جعل هذه الأمور بيده تعالى لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب، ولذا أمر سبحانه بإعداد القوة {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}(الأنفال:60) ، وأمر النبي(ص) والأئمة بالتداوي والتكسب، بل خرجوا بأنفسهم في طلب الرزق ومواجهة العدو…
النظرة التبخيسية للدنيا:
ومن علامات وأمارات التشوه المفاهيمي: اختلال النظرة المتوازنة للدنيا والآخرة، وحسبان أنّ طلب علوم الدنيا لا يتناسب مع التدين ولا ينسجم مع التقوى، اعتماداً على رؤية مجتزأة لمفهوم الزهد، وقراءة خاطئة للمأثورات الدينية التي تزهد في الدنيا وتذم التعلق بها، الأمر الذي أسس لنظرة تفاضلية بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فعلوم الدين سواء ما يربط منها بالجانب المعرفي أو القانوني أو الأخلاقي، أشرف وأكمل من سائر العلوم، وهذه الفكرة وإن كانت صحيحة في الجملة وبشرطها وشروطها، بيد أن الأمر تجاوز حد التفاضل ـ الذي يتضمن اعترافاً بالاشتراك في الفضل مع ميزة للفاضل على المفضول ـ إلى حد التبخيس من شأن سائر العلوم والتزهيد بها، حتى غدا الاشتغال بعلم الطب أو الفلك غير لائق بالإنسان الإلهي كما يعتقد صدر الدين الشيرازي…
إننا وأمام هذا النمط من التفكير الذي يبخس العلوم حقها، ويهمش دورها، لا يسعنا سوى القول بأسى: إنه مخالف لمنطق القرآن الكريم، الذي حارب الجهل والخرافة، واعتنى بالعلم النافع ودعا إلى السير التأملي في الآفاق والأنفس والنظر في كل المخلوقات، لاكتشاف أسرارها وخصائصها، فاتحاً بذلك الباب واسعاً أمام كل المعارف والعلوم النافعة للإنسان في دينه أو دنياه، وقد عبّرت عن هذه النظرة المتوازنة للدنيا والآخرة كلمة علي(ع) الخالدة “إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”، وفي الحديث النبوي:”العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان” وفي حديث آخر عن علي(ع):” العلوم أربعة: الفقه للأديان والطب للأبدان والنحو للسان والنجوم لمعرفة الزمان”(بحار الأنوار1/218).
إن الغفلة عن هذه الحقيقة والتشوّه الذي أصابها، أساء للإسلام وأثر في شكل سلبي على واقع المسلمين.
من علامات وأمارات التشوه المفاهيمي: اختلال النظرة المتوازنة للدنيا والآخرة، وحسبان أنّ طلب علوم الدنيا لا يتناسب مع التدين ولا ينسجم مع التقوى، اعتماداً على رؤية مجتزأة لمفهوم الزهد، وقراءة خاطئة للمأثورات الدينية التي تزهد في الدنيا وتذم التعلق بها.