بسم الله الرحمن الرحيم
((المرجع اليعقوبي : الدور الذي تؤديه المرجعية الدينية في حياة الأمة هو امتداد لدور الأئمة المعصومين سلام الله عليهم الذي هو امتداد لدور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)))
دور المرجعية في الحياة السياسية في العراق([1])
قبل الحديث عن العنوان لابد أن نتحدث عن موقع المرجعية في قلوب وعقول الأمة، إذ يعتقد المسلمون الذين تلقوا تعاليم الإسلام عن طريق أهل بيته المعصومين (صلوات الله عليهم) أجمعين إن الذي يمثل قمة الهرم في قيادة الدولة الإسلامية هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الأئمة المعصومون الاثنا عشر الذين عينهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسمائهم جيلاً واحداً بعد الآخر.
وقد سنحت الفرصة لممارسة هذا الدور لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة ولأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مدة خمس سنين بعد مقتل الخليفة الثالث ولولده الحسن بن علي سنة واحدة بعده، أما الأئمة المعصومون الآخرون (سلام الله عليهم) فلم تتوفر لهم هذه الفرصة .
وهم –بحسب ما تتمتع به قيادتهم من خصائص- لا يكرهون الناس على اتباعهم بالقوة بل يقنعون الأمة بمشروعهم فإذا اقتنعت الأمة بقيادتهم مارسوها، وإلا مارسوا دورهم الإيجابي المبني على الحوار و الإقناع .
ولما اقتضت المشيئة الإلهية خفاء الإمام الثاني عشر بعنوانه لا بشخصه وإلا فإنه موجود بين الناس ويعيش كما يعيشون لكن الناس لا تعرفه بشخصه خصوصاً بعد مرور هذه المدة الطويلة على وجوده، وقد ادخره الله سبحانه ليؤسس دولة الحق والعدل حينما تفشل كل النظم التي يبتدعها البشر ويقتنعون بها وسيتطلّعون تلقائياً إلى المنقذ العظيم.
ولأن حاله غياب القائد عن الاتصال المباشر بأتباعه غريبة عن الناس فلذا مهّد لها الأئمة الذي سبقوا الإمام الثاني عشر بالتثقيف والتوعية وبيان المبررات وبالممارسات العملية أحياناً كانقطاع الإمام عن جماهيره مدة ونصب وكلاء له حتى أصبحت الأمة قادرة على التعايش مع هذه الحالة، فوقعت غيبة الإمام الثاني عشر ووضّح لأتباعه معالم طريقهم فلم يعيّن له خلفاء محدّدين بالاسم وإنما وضع شروطاً فمن انطبقت فيه هذه الشروط كان هو النائب عن الإمام وعلى الأمة أن تتبعه كما تتبع الإمام المعصوم حيث قرنت الأحاديث الشريفة طاعة المرجعية الدينية الجامعة للشروط الآتية بطاعة الإمام (عجل الله فرجه الشريف).
ومن هذه الشروط بلوغ أعلى الدرجات العلمية المعروفة بـ (الاجتهاد) وحصول القدرة على التوصل إلى الحكم الشرعي من مصادر التشريع الأصلية ولا يتلقاه تقليداً من الفقهاء السابقين مهما بلغوا من الرقي العلمي وهذا الشرط يتطلب اتقاناً وعمقاً في علوم عديدة.
والشرط الآخر: هو الدرجة العالية من ضبط جماح النفس وكبح شهواتها والعمل الجاد على تحليتها بفضائل الأخلاق وتهذيبها من الرذائل الخلقية التي تنافي إنسانية الإنسان ونهت عنها الشرائع الإلهية المقدسة .
والشرط الآخر: الخبرة بشؤون الحياة وتفاصيلها وما يكتنف الأمة من أحداث وتحديات. ويستعين بالخبراء في مختلف الاختصاصات إذا لم يكن محيطاً بها بالمقدار المطلوب.
وتقوم هيأة من العلماء القادرين على التحقق من توفر هذه الشروط في المجتهد لتعترف له بالمرجعية وتدعو الناس إلى تقليده والرجوع إليه في الأحكام الشرعية.
فالدور الذي تؤديه المرجعية الدينية في حياة الأمة هو امتداد لدور الأئمة المعصومين سلام الله عليهم الذي هو امتداد لدور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد عرضنا العشرات من محاور هذا الدور ووقائع تفصيلية كتطبيقات لها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).
كما إننا شرحنا الخصائص النفسية والملكات الفاضلة التي ينبغي توفرها في شخصية القيادة الإسلامية من خلال دراسة سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين).
ثم لخّصنا الخطوط العامة لدور المرجعية الدينية في حياة الأمة في مقدمة كتابنا (سبل السلام) الذي يتكفل ببيان الأحكام الشرعية وحلول المشاكل التي يمكن أن يواجهها المسلم في حياته ابتداءً من الطقوس العبادية التي يؤديها لربّه كالطهارة والصلاة والصوم ومروراً بعلاقاته الاجتماعية كالزواج والمعاملات الاقتصادية وانتهاء بالأحكام العامة كالقضاء وفضّ النزاعات.
وهذا كله مستند إلى نصوص وقواعد مأخوذة من مصادر التشريع الإسلامي التي ثبتت بطريق صحيح.
وهو يؤكد مصداقية الشريعة المقدسة في ادعائها القدرة على استيعاب كل تفاصيل الحياة وشؤون الناس ولذا قلنا في تلك المقدمة أن وظيفة الفقيه لا تنحصر بالفتوى وبيان الأحكام الشرعية وإنما له وظيفتان أخريان وهما:
1- القضاء بين الناس وفض الخصومات.
2- تدبير شؤون الأمة وولاية أمرها.
ثم ذكرنا ضمن النقطة الثانية الخطوط العريضة لهذه الوظيفة.
ومن خصائص رسالة المرجعية الدينية.
1- اعتماد سياسة الحوار لإقناع الآخرين (راجع المسألة 30 والمسألة 31 ص28 من الجزء الأول من سبل السلام) وهذا هو مبدأ قرآني أصيل [لا إكْرَاهَ في الدِينِ] [ادعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بالَّتي هِيَ أحْسَن] (النحل:125) [ادْفَعْ بِالَتِي هِيَ أحسَنُ فَإذَا الذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] (فصلت: 34).
2- العالمية: فهي تحس بآلام وهموم البشر جميعاً لأن قلبها مملوء بالرحمة وحب الخير لكل الناس تأسياً بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي خاطبه الله تبارك وتعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء:107) ومن كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى مالك الأشتر لما ولاّه مصر (وأشعِر قلبك الرحمة للرعية فإنهم صنفان، أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) فتجد مرجعية النجف حاضرة بتعليقاتها ومواقفها في إعصار تسونامي في جنوب شرق آسيا([2]) وإعصار كاترينا في الولايات المتحدة([3]) والاضطرابات في فرنسا([4]) ويَهنئ الحبر الأعظم بابا الفاتيكان بأعياد ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) ويذكر القيمة المشتركة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية([5]).
أما حضورها في قضايا المسلمين خاصة فمشهود ومن أمثلة ذلك رسالة المرجعية إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك حينما كان بصدد تشريع منع ارتداء الحجاب في المدارس الرسمية([6]).
ورسالة أخرى إلى الشعب الفلسطيني المظلوم([7]) ويناقش بشفافية العلمانية([8]) ويتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان([9])، وغيرها.
3- الشمولية: أي شعورها بالمسؤولية إزاء كل القضايا التي تمر بها الإنسانية لأنها تمثل الشريعة والقانون ونحن نعتقد أن الشريعة الإسلامية غطّت كل شؤون الحياة بالنصوص المباشرة أو وضعت القواعد التي يُستنبط منها الحكم والحل والموقف إزاء مختلف القضايا، ولذا فإن الشريعة حينما أعطت هذا الدور الواسع للفقيه فإنها لم تعط له كشخص حتى يستكثر عليه وإنما أعطته للقانون الذي يمثله كالقاضي في النظم المتحضرة المعاصرة حيث لا سلطة للحكومة ولا لغيرها عليه وينفذ قراره على الجميع وهذه الهيمنة ليست له كشخص وإنما للقانون الذي يحكم به.
وانطلاقاً من هذه المسؤولية تجد المرجعية تشخص بدقة أسباب العجز عن مكافحة مرض الإيدز ونتائجه الوخيمة ثم تدل على العلاج في بيان بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الإيدز([10])وكذا في اليوم العالمي لمكافحة التدخين([11]).
4- المبدأية ونظافة الأساليب: والأهداف، فهي لا تؤمن بأن (الغاية تبرر الوسيلة) ولا تجعل القيمة العليا في أعمالها ومشاريعها وسياستها للمصالح بل للمبادئ وكل مصلحة تتعارض مع المبادئ فهي مفسدة وللمرجعية خطاب تفصيلي ردّت فيه على عقيدة السياسيين بأنه لا توجد صداقات ثابتة ولا عداوات ثابتة وإنما توجد مصالح ثابتة فكان الرد بأنه توجد مبادئ ثابتة([12]).
5- الشفافية في التعاطي مع الجماهير وعدم اتباع سياسة الخداع والتجهيل والتضليل لأنها قوية بحقها فلا تخشى أحداً ولأنها لا تريد مكسباً لنفسها وإنما تريد الخير للآخرين([13]).
6- الحرص على إعمار الحياة وإقامة النظام المتحضر للمجتمع والمحافظة على الدولة والمؤسسات التي تحفظ النظام الاجتماعي العام ونعتقد أن الشريعة هي الأصل والسابق لبناء المجتمع المدني المتحضر ومؤسساته ومنظماته (لاحظ مجموعة الخطابات عن ضرورة تأسيس منظمات المجتمع المدني)، والمرجعية تضحي بكل حقوقها وامتيازاتها من أجل هذا الهدف حتى لو لم يكن النظام السياسي مبنياً على الإسلام (المسألة 29 من سبل السلام).
وتأسيساً على هذه النقاط فقد كان للمرجعية الدينية في العراق الدور الإيجابي والبناء في منع انهيار المجتمع وانزلاقه إلى دوامة العنف والاقتتال رغم شراسة المؤامرات التي استهدفته وحافظت المرجعية على ممتلكات الدولة ومؤسساتها ومنعت من الأخذ بالثأر الانفعالي في بيان وتوجيهات إلى الأمة صدرت يوم 6/4/2003 أي قبل سقوط النظام لما تعلمه وتتوقعه من حصول هذه التداعيات([14]).
وفي ضوء ما تقدم يظهر أن عنوان هذا البحث يتحدث عن مفردة جزئية من حركة المرجعية الدينية ومسؤوليتها فإن وظيفتها أوسع من العمل السياسي، وهمومها تتجاوز حدود العراق .
برز الدور السياسي للمرجعية الدينية بعد سقوط النظام السابق عام 2003 وهذا لا يعني عدم وجود دور لها في التاريخ السابق ولكن الفرصة اتسعت بعد السقوط وحظيت حركة المرجعية بتسليط وسائل الإعلام.
وقد بادرت المرجعية إلى ممارسة دورها قبل 9/4 حينما بدأت إرهاصات الغزو والاحتلال وقبيل السقوط عندما بدأ النظام يترنح أصدرت توجيهاتها للشعب ركّزت فيها على وحدة الصف والحفاظ على الممتلكات العامة وحمايتها وتشكيل اللجان المحلية لمليء الفراغ بعد غياب الدولة وتحريم تصفية الحسابات بسبب ممارسات النظام السابق الإجرامية بحق الشعب وكان ذلك يوم 6/4/2003([15])، وقد نجحت المرجعية بما سمّاه الدكتور محسن عبد الحميد الأمين العام للحزب الإسلامي بالمعجزة في زيارته للمرجعية في النجف عندما كان رئيساَ لمجلس الحكم المؤقت .
ودعت في وقت مبكر إلى ضرورة إجراء انتخابات حرة نزيهة لاختيار ممثلين حقيقيين للشعب ولإنهاء ذرائع وجود الاحتلال بإقامة حكومة وطنية تقوم على أساس إرادة الشعب وقدّمت مشروعاَ متكاملاً لإدارة المرحلة الانتقالية في العراق إلى حين تهيئة الظروف لأجراء الانتخابات([16]).
وقد أخذت به سلطات الاحتلال بعد عام تقريباً حينما اضطرت إليه وهكذا فإن السلطات الحاكمة (احتلالية أو عراقية) لا تأخذ بالنصائح والتوجيهات حتى تجد نفسها مضطرة إليها بعد أن يكون الشعب والبلد قد خسر الكثير، لعدم وجود إرادة حقيقية وصادقة للحل (راجع خطاباً بهذا العنوان وخطاب بعنوان إذا لم تحترق مصالح السياسيين بالنار فإنهم لا يفكرون في الحل).
وشجعت الكفاءات الوطنية النزيهة القادرة على ممارسة العمل السياسي إلى تأسيس الأحزاب للنهوض بمشروع وطني خالص لا يخضع للأجندات الأجنبية وقنّنت عمل الأحزاب وفق الشريعة الإسلامية وخوض العملية الديمقراطية باعتبارها النظام الأفضل الذي توصلت إليه المجتمعات البشرية([17]) .
وبقيت مواكبة للعملية السياسية تؤدي الوظائف التالية
1- تقديم الأفكار والمشاريع والرؤى التي فيها صلاح للعملية السياسية ونجاحها وإعطائها دفعة للأمام كمشروع إدارة العراق للمرحلة الانتقالية المتقدم ومشروع الإصلاح الوطني وإنقاذ العراق([18])، ومشروع تفعيل دور المعارضة الإيجابية كجزء مقوّم للعملية الديمقراطية([19]).
2-بيان الموقف الشرعي والوطني للجماهير إزاء مختلف الأحداث والقضايا التي تواجهه كالانتخابات وتفجير سامراء([20])، وفي قمة تأجيج العواطف واشتعال الفتنة بعد هذا التفجير المروّع تتحدث المرجعية عن أن الأمة بحاجة إلى مشاريع إعمار الآن أكثر من حاجتها إلى مشاريع استشهاد([21]).
3- تقويم العملية السياسية والتنبيه إلى الأخطاء لتصحيحها وتشخيص الخلل والإشادة بالمحسنين وتوبيخ المقصّرين ومساعدتهم في علاج التقصير وتجاوزه .
4- المساعدة في اختيار العناصر الكفوءة النزيهة القادرة على خدمة الشعب وترشيحها إلى مواقع المسؤولية مستندة في ذلك إلى معرفتها التفصيلية بكثير من هؤلاء بسبب الاحتكاك المباشر والعمل المشترك .
5- حشد الرأي العام وتثقيفه لدعم الخطوات الايجابية في العملية السياسية التي تصب في مصلحته وغيرها كثير
وفي موازاة ذلك فإن المرجعية لا تغفل عن تربية الأمة على الأخلاق الفاضلة والتمسك بالتعاليم السامية وكل خصال الخير لأنها تعتقد أن (كل إناء ينضح بالذي فيه) فإذا كانت النفوس صالحة أفرزت مجتمعاَ صالحاَ وحكومة صالحة والعكس بالعكس.
([1]) خلاصة كتبها سماحة الشيخ اليعقوبي بناءً على طلب أحد الفضلاء المدعو لحضور مؤتمر في عمان ، موضوعه هذا العنوان وكتبه سماحته بتأريخ 21/شوال/1428 المصادف 2/11/2007 .
([2]) راجع المجلد الثالث من كتاب خطابات المرحلة (صفحة 502) .
([3]) راجع المجلد الرابع كذلك (صفحة 403).
([4]) المجلد الرابع أيضاً (صفحة 420).
([5]) المجلد الرابع (صفحة 436) كذلك.
([6]) المجلد الثالث (صفحة 205).
([7]) المجلد الثالث من هذا الكتاب (صفحة 187).
([8]) المجلد الثالث (صفحة 155).
([9]) المجلد الرابع (صفحة 38).
([10]) المجلد الثالث (صفحة 441).
([11]) المجلد الرابع (صفحة 53).
([12]) المجلد الرابع (صفحة 45).
([13]) خطاب المرحلة (90) مبادئ الشفافية ومظاهرها، المجلد الرابع (صفحة 119).
([14]) المجلد الثالث (صفحة 16).
([15]) المجلد الثالث (صفحة 26).
([16]) نص المشروع تجده في المجلد الثالث (صفحة 112).
([17]) راجع المجلد الثالث (صفحة 289) : الأسس النظرية لحزب الفضيلة الإسلامي. خطاب المرحلة (43).
([18]) المجلد الثالث (صفحة 112).
([19]) المجلد الرابع صفحة (339).
([20]) المجلد الرابع (صفحة 216).
([21]) المجلد الرابع (صفحة 245).