فالدولة الكريمة والفرج يبدأن من داخل النفس ثم يشرقان على الآخرين فإذا عاش المجتمع أجواءً إسلامية وكان سلوكه إسلامياً، وتفكيره مبنياً على أساس الإسلام فهذه هي الدولة الكريمة وهذا هو الفرج الحقيقي
هذا مقتطف مما جاء في كلمة سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله في في تجمع أئمة الجمعات في محافظات العراق والتي كانت بعنوان
(( ميدانكم الأول لتحصيل المعنويات أنفسكم))
حيث ذكر سماحته :يبحث الإنسان بطبعه وفطرته عن الأمور المعنوية والكمالات الروحية، ويظنّ أنه يحصل عليها من خارجه فيتحرك نحو الأسباب الموجبة لها بحسب ظنّه، لكنه يكتشف أنه لم يصل إلى ما يريد، لأنه لا يعلم إنها موجودة في باطنه وداخل نفسه فعليه استثارتها واستخراجها من داخله، فالساحة الأولى للعمل والميدان الأول للانطلاق هي النفس، حكي عن أمير المؤمنين قوله (ميدانكم الأول أنفسكم فحاسبوها قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر)، وهذا المعنى مكرّر كثيراً في كلمات المعصومين (عليهم السلام) حتى أصبح متواتراً كقول علي (عليه السلام): (سياسة النفس أفضل سياسة).
مبيناً :خذ مثلاً السعادة التي هي مطلوب كل إنسان والغاية التي يريد أن يصل إليها، يظن كثير من البشر أنها في كثرة المال، والحياة المترفة أو في مواقع السلطة والنفوذ، أو أنها في قضاء الوقت في اللهو والمتعة، ونحو ذلك، وقد تتحقق لهم بذلك لذة وراحة آنية لكنهم يشعرون في النهاية أنهم لم يحققوا السعادة المرجوّة، ولا نستغرب من وجود أعلى نسب للانتحار والمصابين بالأمراض النفسية في دول الغرب المترفة مادياً.
موضحاً :وهذا شيء طبيعي لأن السعادة من الأمور المعنوية التي لا تتحقق بالأسباب المادية للزوم وجود مشاكله بين الأسباب والنتائج فلا تصلح الأسباب من عالم معين لتحقيق نتائج في عالم آخر وهكذا كل الأمور المعنوية لابد أن تتحقق بأسباب معنوية من سنخها -بحسب المصطلح- كالمعرفة بالله تعالى التي هي أصل الدين والغرض من إيجاد الإنسان (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) فإنها تنبع من داخل النفس بتهذيبها وكبح جماحها وشهواتها إلاّ فيما أحلّ الله ورخّص ففيه، وتطهير القلب من الرذائل الخلقية كالحسد والغل والحقد والأنانية، حينئذٍ تشرق المعرفة الإلهية في قلب الإنسان، ورد في الحديث (من عرف نفسه فقد عرف ربّه) فالطريق إلى معرفة الله تعالى يمرّ عبر معرفة النفس وما يصلحها ويهذّبها.
مردفاً بقوله :والتوفيق أيضاً استعداد في النفس للاستجابة لداعي الهداية فمن طلبها، عليه أن يوفّر أسبابها في نفسه، ومن لا تتوفر فيه لا تزيده الموعظة والإرشاد والنصيحة إلاّ عتوّا واستكباراً، قال تعالى (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة/ 124-125) وقال تعالى (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً) (المدثر/31) فأسباب الهداية والتوفيق تعرض على الجميع لكن المواقف إزاءها متباينة بحسب الجهة الغالبة في النفس هل هي جنود الرحمن أم جنود الشيطان، ومن لا يناله التوفيق والهداية فبسببه وهو الذي لم يؤهل نفسها لتلقيها (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة/67) كذبذبات الراديو والتلفزيون أو اتصالات الأجهزة المحمولة فإنها موجودة في الفضاء إلاّ أنّه لا يستقبلها إلا الجهاز الذي يحمل المواصفات المناسبة لتلك الموجات.
وهكذا النصر والغلبة إنما ينطلق من داخل النفس فمن انتصر على نفسه وعزّز قواه المعنوية الداخلية من التقوى والصبر والمصابرة كان هو المنتصر حقيقة، ومن عاش الهزيمة في داخله فلم يلتزم بما أمره الله تعالى كان هو المهزوم في الخارج، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ) (القرآن/155).
وكذلك الحرية والعزة والكرامة يحياها الإنسان في داخله فتنعكس على حياته الخارجية في المجتمع، من مناجاة أمير المؤمنين (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي ربا) فالعزة كلها في تحرير النفس مما سوى الله تعالى، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/8)، ولا يُستعبد الإنسان والمجتمع من قبل الطواغيت والمستكبرين إلا بعد أن تتكبل نفوسهم بأغلال الخوف والجهل والطمع والشهوة والوهم والشك والتمرد فيصبح سلس القياد لغيره، قال الله تعالى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (الزخرف/54) فإن فرعون لم يستعبد قومه ويصادر حرياتهم ويستخف بعقولهم إلا بعد أن أصبحت نفوسهم أسيرة الشهوات والخوف والقلق.
ومحل الشاهد من هذه الفكرة تطبيقها على علاقتنا بإمامنا المهدي الموعود (عجل الله تعالى فرجه) (فحينما نطلب في الدعاء (اللهم إنا نرغب إليك بدولة كريمة…) فهذا لا يعني أن أملنا يتحقق ودعاءنا يستجاب بقيام حكومة يترأسها وتضمّ رجالاً يرفعون لافتات إسلامية أو يتظاهرون بالارتباط بالمرجعية الدينية، وإنما تتحقق الدولة الإسلامية بأن نعيش الإسلام في كل تفاصيل حياتنا ونحكّمه في كل أمورنا وقضايانا وتصرفاتنا {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}النساء65،وهذا واضح من أوصاف هذه الدولة في الدعاء (تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتُذلُّ بها النفاق وأهله) ووصف الله تعالى الذين يقومون بشؤون هذه الدولة الكريمة بقوله سبحانه (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) (الحج/41) فلا تكون الدولة كريمة إلا حينما يكون رعاياها أحراراً يعيشون بعزة وكرامة وأعداؤهم أذلاء مقهورين.
موضحاً : وقد يتحقق هذا المعنى للدولة الكريمة عند المؤمنين وهم بعيدون عن الحكم وليس لهم في السلطة نصيب، كما كان عند أهل البيت (سلام الله عليهم))
((وهكذا فحينما ندعو لإمامنا المهدي (عليه السلام) بالفرج وتعجيل الظهور فان الفرج الحقيقي يبدأ من داخل أنفسنا حينما نهذّبها بطاعة الله تبارك وتعالى وتسير نحو الكمال، وإلا فما الذي نجنيه من ظهور الإمام (عليه السلام) إذا لم نحقق هذه الدرجات في داخلنا؟ ربما سنكون في الصف المعادي له أو مع المتخاذلين عن نصرته حرصاً على مصالح دنيوية أو وضع اجتماعي أو مكاسب سياسية ونحوها.
فالدولة الكريمة والفرج يبدأن من داخل النفس ثم يشرقان على الآخرين فإذا عاش المجتمع أجواءً إسلامية وكان سلوكه إسلامياً، وتفكيره مبنياً على أساس الإسلام فهذه هي الدولة الكريمة وهذا هو الفرج الحقيقي.
وهذا لا يتحقق إلا بمواصلة العمل الدؤوب على صعيد تهذيب النفس وعلى صعيد إقامة المشاريع الإسلامية الإصلاحية في المجتمع وإدامتها وأن لا يكتفي بالعمل الارتجالي الذي دافعه وهج العاطفة أو ردود الأفعال)).
ففي الكافي عن أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعلت فداك متى الفرج؟ فقال: يا أبا بصير وأنت ممن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فُرِّج عنه لانتظاره
ولا يخفى ما في جواب الإمام (عليه السلام) من توبيخ لمن ينتظر الفرج طلباً للدنيا مثلاً لكي يكون الحكم لأتباع أهل البيت (سلام الله عليهم) فتكون له حصة من (الكعكة) كما يقولون فيكون الوصول إلى الحكم غاية وهدفاً وليس وسيلة لإحقاق الحق وإقامة العدل فيقع أمثال هؤلاء في الظلم والانحراف ولا يحققون الهدف المنشود، وهذا أحد وجوه معنى الرواية الشريفة (كل راية قبل المهدي فهي راية ضلالة) لأنها تتحرك لتغيير الظالم وأخذ موقعه والتمتع بالجاه والسلطة والثروة وليس لتغيير الظلم وخدمة الناس وإصلاح أحوالهم وتأسيس الدولة الكريمة التي تضمن الحياة السعيدة لكل إنسان.
وختم كلامه قائلا :نندب الإمام (عليه السلام) وندعوه لإزالة الظلم والجور وإقامة العدل (أين المعدُّ لقطع دابر الظلمة، أين المنتظر لإقامة الأمت والعوج أين المرتجى لإزالة الجور والعدوان)، ولا يكون الإنسان جزءاً من هذه الحركة المباركة إلاّ إذا أقام حياته وعلاقاته على العدل والإنصاف الآخرين، فليراجع الإنسان نفسه هل هو عادل في علاقته مع زوجته وأسرته ووالديه أو جيرانه أو أصدقائه في العمل أو من هم في رعايته إذا كان في مواقع المسؤولية، أم إنه جائر عليهم مقصر في حقوقهم ويظلمهم كالذي يحصل كثيراً في مجتمعنا؟ وحينئذٍ فلا يمنّي نفسه بإتباع الإمام والانخراط في جماعته الميمونة.