فالله تعالى هو الذي أجرى الأمور وفق هذه السنن الطبيعية فالالتفات إليها من دون الله تعالى هو نصف الحقيقة، وتمام الحقيقة أن الله تعالى هو المحرّك الأول وهو المخطّط الأول وهو المدبّر الأول
هذا مما جاء في حديث لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله بعنوان (قواعد بناء المستقبل المعنوي للشباب([1))
حيث ان اهم ماجاء فيها
إن الناس خصوصاً الشباب يهتمون عادة ببناء مستقبلهم في هذه الدنيا لضمان حياة كريمة سعيدة لائقة فيسعون لإكمال دراستهم وتحصيل مهنة مناسبة وزوجة صالحة ودار فارهة وسيارة مريحة ونحوها، وهو حق مشروع كفله الله تعالى لكل إنسان لأنه أكرم مخلوق [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ…] (الإسراء:70) وضمن له كل ما يحقق له الحياة الكريمة، وهي صفة الدولة الموعودة على يد الإمام المهدي (عج الله تعالى فرجه الشريف) (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة).
هذا كله واضح والذي نريد أن نؤسس له في حديثنا هذا هو أنه على الإنسان أن يلتفت إلى وجوب ضم التفكير في إعمار مستقبله المعنوي لتضمين الحياة الكريمة في الآخرة.
وهذا البناء له أدوات نظرية وعملية، أي معرفية وتطبيقية، وحديثنا اليوم في الأولى من خلال وضع أُطر و محددات وقواعد تضبط بوصلة حياته وسلوكه العملي، وهذه الأطر والقواعد العامة تُؤخذ من القرآن الكريم والسنة الشريفة والأدعية المباركة وكلمات الحكمة الصادرة من العلماء والعارفين.
إن أول آية في القرآن الكريم وهي [بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ] هي أول هذه القواعد تتعلم منها أن تفتتح كل أعمالك ومشاريعك وخطواتك باسم الله تعالى ليكون عملك مباركاً، وفي سبيل الله تعالى حتى يكون صالحاً مقبولاً منتجاً، لذا ورد عن رسول الله (ص): (كُلُّ أمْر ذِي بَال لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ اسْمُ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ) منقوص لا يحقق أهدافه المرجوّة. فإذا أردت أن تبدأ الطعام فافتتح بالبسملة، وإذا أردت الانطلاق من دارك إلى عملك أو أي شيء آخر فابدأ بالبسملة، وإذا تحركت بالسيارة فابتدأ بالبسملة وهكذا لتكون في رعاية الله تعالى ولطفه وتأييده، وقد ورد في كل ذلك روايات شريفة فراجعها.
والآية الثانية بعد البسملة [الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] قاعدة أخرى، أن الحمد والثناء فعلاً وحقيقة هو لله تبارك وتعالى لأنه مسبب الأسباب ومدبّر الأمور وهو الذي يجري الأمور على يد من يشاء من خلقه، فالحمد والشكر له تبارك وتعالى، فمن الخطأ الشائع أن يقول البعض (لولا فلان لما قضي لي الأمر الفلاني ولما حصل الشيء الكذائي) لأن الله تعالى هو السبب، وهؤلاء المخلوقون وسائط لإنفاذ التقدير الإلهي، وينبغي شكرهم لما ورد في الحديث (من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق) ولتشجيع سبيل المعروف، لكن في ضمن شكر الله تعالى، وليس على نحو الاستقلالية فقد عُدَّ هذا في بعض الأحاديث من أقسام الشرك الخفي.
فالله تعالى هو الذي أجرى الأمور وفق هذه السنن الطبيعية فالالتفات إليها من دون الله تعالى هو نصف الحقيقة، وتمام الحقيقة أن الله تعالى هو المحرّك الأول وهو المخطّط الأول وهو المدبّر الأول.
وقوله تعالى [إيَّاكَ نَعبُدُ وَإيَّاكَ نَستَعِينُ] قاعدة أخرى، فلا عبادة ولا طاعة إلا لله تبارك وتعالى، ولا نطيع أحداً سواه إلا إذا كانت طاعته من طاعة الله ي معرفية وتطبيعيقيةتبارك وتعالى، قال تعالى في الوالدين [وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا] (العنكبوت:8)، فلا انسياق وراء الشيطان ولا وراء الشهوات ولا وراء التقاليد والأعراف البالية ولا وراء الأيدلوجيات والأجندات البعيدة عن الله تعالى، ولا طاعة لمن يحكم بغير ما أنزل الله تعالى ومن دون الرجوع إلى شريعة الله تبارك وتعالى سواء كانوا قادة سياسيين أو زعماء عشائر أو وجهاء مجتمع أو حتى قادة متلبسين بالدين فإنهم جميعاً أئمة ضلال [يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ] (هود: 98).
فأنت أيها الموظف إذا دعاك مدير دائرتك إلى إنجاز عمل فيه فساد وهدر لأموال الشعب فلا تطعه، وأنت أيها الطالب الجامعي وغيره إذا دعتك فتاة إلى علاقة غير شرعية فأرفضها، وأنتِ أيتها المرأة إذا أمركِ زوجكِ بخلع الحجاب أمام الأجانب فأعصيه، وهكذا.
ولا استعانة إلا بالله تعالى لأن بيده أزمّة الأمور وهو المدبّر الحقيقي فالاستعانة بغيره لجوء إلى العاجز الذي لا يملك لنفسه شيئاً إلا ضمن السوائل الطبيعية التي جعلها الله تعالى، فحينما يمرض الإنسان يذهب إلى الطبيب للمعالجة ولكن مع الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو مسبّب الأسباب وهو الطبيب الحقيقي، فإنه هو خلق المواد التي يُصنع منها الدواء وأعطاها القدرة على المعالجة، وهو الذي جعل الجسم يبدي أعراضاً تساعد الطبيب على تشخيص المرض بدقة، وجعل الجسم يتفاعل مع الطبيب، وأودع في الإنسان القدرات الذهنية التي تمكنه من أن يصبح طبيباً وهكذا فمفاتيح الأمور بيده تبارك وتعالى.
وقوله تعالى [وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] (البقرة:197) تؤسس قاعدة أخرى، فأمامنا رحلة طويلة إلى العالم الآخر الذي نجهل كل شيء عنه، والمسافر يحتاج أن يهيئ مقدمات السفر ولوازمه في هذه الدنيا مع انه سفر قصير معلوم يمكن تلافي أي نقص فيه ولو بمساعدة الآخرين، أما سفر الآخرة فهو حياة دائمة ينشغل فيها كل إنسان عن أمه وأبيه وبنيه وكل متعلقاته، فمن الذي يُعلمنا بما يجب أن نتزود به لهذا السفر؟ إنه الله تبارك وتعالى العالم بحقائق الأمور، فيخبرنا بصدق رحمة بنا أن [خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] (البقرة:197).
وقوله تعالى [إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ] (البقرة:156) قاعدة أخرى تعلمك أن لا تأسى على شيء يفوتك ولا تبخل بشيء يريده الله تعالى منك حتى نفسك في الجهاد ومالك في دفع الحقوق الشرعية لأنك بالنتيجة أنت وكل ما هو لك يرجع إلى الله تعالى ولا تملك شيئاً من ذلك ولا يبقى لك شيء منه.
والقواعد المأخوذة من القرآن الكريم كثيرة، وكذا الموجودة في الأحاديث الشريفة وأذكر مثالاً لذلك ما ورد في وصايا النبي (ص) لأبي ذر (يا أبا ذر: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذه الوصية تؤسس لحالة مهمة في الحياة وهي أن تتعامل مع الله تعالى وتعبده وتطيعه وكأنك تراه لا بالعين لأنه لا تدركه الأبصار، ولكن بالبصيرة والوجدان وبالقلب السليم فتجده حاضراً عندك [أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (فصّلت:53)، فإن لم تكن تراه لغشاوة أو رين أو ذنوب أو غفلة، فلا شك أنك تعتقد انه يراك وانك تحت نظره في كل حركاتك وسكناتك فانظر كيف تكون وأنت في محضر الرب المتعال، وكقول الإمام الحسين (ع)، (من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأقرب لما يحذر) وهي كلمة تختصر الطريق وتحدّد وسائل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية بدل التورط في الوسائل غير الشريفة ثم لا يجني منها غير الخسران، كما لو أحب فتاة وحاول الارتباط بها بعلاقة غير شريفة يورّط نفسه ولا يحقق مبتغاه الذي يمكن تحقيقه من أبوابه المتعارفة.
وقد احتوت الأدعية الشريفة على كمٍّ كبير من هذه القواعد للسلوك والتربية والتهذيب والوصول إلى الكمال فراجعوا دعاء الصباح لأمير المؤمنين ودعاء عرفة للإمام الحسين ودعاء مكارم الأخلاق للإمام السجاد (ع)
ولا نحتاج الإطالة في الأمثلة بعد أن اتضحت الفكرة فأتعبوا أنفسكُم في وضع سجل بهذه القواعد لتراجعوه باستمرار وتجدّدوا معنوياتكم بمطالعته.
هذا شرح مختصر لأصل الفكرة واستعراض سريع لبعض الأمثلة وإلا فإنها تحتاج إلى كتاب مفصل يشرح لنا معنى أن نضع لأنفسنا قواعد، والحاجة إلى مثل هذه القواعد، ومن أين تؤخذ، وشرح مفصل لجملة من تلك القواعد لتكون خارطة طريق لمريد الكمال والسمو بإذن الله تعالى.
([1]) من حديث سماحة الشيخ (دام ظله) مع حشد من طلبة الجامعات في بغداد يوم الأربعاء 22/ع1/ 1433 المصادف 15/2/2012.