وهذا الوضع يلزمنا بمسؤوليات إضافية تجاه أنفسنا ومذهبنا وأئمتنا سلام الله عليهم، كتلك التي قام بها الإمام الباقر (عليه السلام) ، وهي بنفس الوقت فرصة عظيمة لنا أن تشملنا الألطاف الإلهية فنكون ممن اختارهم الله تعالى لتحمّل هذه المسؤولية المباركة
هذا مما جاء في كلمة سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله والتي كانت بمناسبة مولده المبارك واليوم ونحن نعيش ذكرى استشهاده نستذكر هذه الكلمة لما فيها من الدروس والمعاني الجليلة ونستعرض هنا نص الكلمة كاملا
درس من حياة الإمام الباقر (عليه السلام) في ترتيب وضع الشيعة
الإمام الباقر (عليه السلام) قلّما تُخصّص له المجالس والمحافل، وبمناسبة ذكرى ميلاده نستعرض صفحة من سفر حياته المباركة لنستفيد منها في حياتنا وواقعنا اليوم وهي رعايته لشيعته وترتيب أوضاعهم حينما سُلّطت الأضواء عليهم.
اشتد البلاء على الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسن (عليه السلام) وأمعن معاوية في قتلهم وسجنهم ومصادرة أموالهم وتهديم دورهم وصارت قوافل الشهداء تساق إلى ساحات الإعدامات أفواجاً أفواجاً، وقبل ذلك كان الإمام الحسن (عليه السلام) يوفّر غطاءاً قوياً لحمايتهم بهيبته وشروطه التي أملاها على معاوية وعدم سكوته على انتهاكاته.
يصف الإمام الباقر (عليه السلام) ما مرّت به الشيعة في تلك الفترة بقوله (وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطّعت الأيدي والأرجل على الظِنّة، وكان من يُذكّر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجِن أو نهب ماله، أو هدمت داره).
وسُئل (عليه السلام) كيف أصبحت؟ قال (عليه السلام) (أصبحتُ برسول الله (صلى الله عليه واله) خائفاً، وأصبح الناس كلّهم برسول الله (صلى الله عليه واله) آمنين).
وكان الشيعة يشكون إلى الأئمة ما يحلُّ بهم، وروى أبو بصير قال (قلت لأبي جعفر (عليه السلام) جُعلتُ فداك اسم سُمّينا به استحلّت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا قال: ما هو؟ قال الرافضة) فأجابه الإمام (عليه السلام) بما يطيّب خاطره ويخفّف عنهم آلامهم وقال (عليه السلام) (ذلك اسم قد نحلكموه الله) وشرح له منشأ التسمية فقال (عليه السلام) (إن سبعين رجلاً من عسكر فرعون رفضوا فرعون فأتوا موسى (عليه السلام) فلم يكن في قوم موسى (عليه السلام) أحد أشدّ اجتهاداً ولا أشدّ حباً لهارون منهم فسماهم قوم موسى الرافضة، فأوحى الله إلى موسى أن ثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني قد نحلتهم).
ولكن بلطف الله تعالى وبفضل السياسة الحكيمة للإمام السجاد (عليه السلام) وامتداد إمامته الشريفة (34) عاماً تحوّل وضع الشيعة من قلة مستضعفين يتخطّفهم الأعداء إلى رقم صعب على الساحة، وواقع ممتد على طول البلاد الإسلامية وفيهم الفقهاء والعلماء وذوو النفوذ ممن رباهم الإمام السجاد (عليه السلام) ونشرهم في البلدان، وكان وجودهم يستمد القوة والمنعة من هيبة الإمام السجاد وامتلاكه قلوب جميع طوائف المسلمين، كما تشهد به واقعة انفراج المسلمين عند تقدمه لاستلام الحجر الأسود بينما عجز الخليفة الأموي بجيشه وبطشه عن تحقيق ذلك.
هذا الواقع الجديد الذي تسلّمه الإمام الباقر (عليه السلام) للشيعة وهي الجماعة المؤمنة بإمامته وقيادته والمطيعة لأوامره وتسليط الأضواء عليهم ووضعهم تحت الدراسة والنظر من جميع المراقبين للتعرف على هذه الجماعة الرصينة التي تجاوزت كل الكوارث وحافظت على وجودها ونمت وازدهرت أوجد مسؤوليات جديدة، منها:
1- حفظ وحدة الجماعة وتماسكها ومنع حالات التشرذم والانقسام وهو ما نجح به الإمام الباقر (عليه السلام) تماماً حيث لم تنشق أي فرقة كما حصل بعده في الزيدية والإسماعيلية والواقفة والفطحية ونحوهم.
2- التعريف بهوية الجماعة وخصائص من ينتمي إليها لكي يعمل بها الأتباع ويُميّز بها المندسّون والمنتحلون ولإقامة الحجة على من عاداهم وفارقهم لأنه سيبتعد عن هذا المنهج الرصين.
ومن كلماته (عليه السلام) في ذلك (ما شيعتنا ألا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلا بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة، والبر بالوالدين وتعهّد الجيران من الفقراء، وذوي المسكنة، والغارمين، والأيتام وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفِّ الألسن عن الناس ألا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم والأشياء).
وقال (عليه السلام) (إنما شيعة علي (عليه السلام) المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، والمتزاورون لإحياء أمرنا، الذين إذا غضبوا لم يظلموا، وإذا رضوا لم يُسرفوا، بركةٌ على من جاورهم، وسلم لمن خالطوا).
وقال (عليه السلام) (ليُعِن قويّكم ضعيفكم، وليعطف غنيّكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصيحته لنفسه) وقال (عليه السلام) (بلّغ شيعتنا السلام وأوصهم بتقوى الله العظيم وبأن يعود غنيّهم على فقيرهم، ويعود صحيحهم عليلهم، ويحضر حيّهم جنازة ميتهم، ويتلاقوا في بيوتهم، فإن لقاء بعضهم بعضاً حياةُ لأمرنا، رحم الله امرءا أحيا أمرنا وعمل بأحسنه، وقل لهم: إنّا لن نغني عنهم من الله شيئاً إلا بعمل صالح، ولن ينالوا ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد، وإن أشدّ الناس حسرة يوم القيامة لمن وصف عملاً ثم خالفه إلى غيره).
3- تحذيرهم من مخالفة توجيهات الإمام وتأويل كلامه بما يناسب أهوائهم ومصالحهم فيشوهون صورة الإمام وينفرون الناس من منهجه الشريف من أجل دنيا تافهة لأنّ الناس تنسب أفعال المنتمين لجماعة إلى رئيس تلك الجماعة حسنة كانت أو سيئة، وفي ذلك يقول (عليه السلام) (رحم الله عبداً حبّبنا إلى الناس، ولم يبغّضنا إليهم، أما والله لو يروون عنا ما نقول ولا يحرّفونه، ولا يبدّلونه علينا برأيهم ما استطاع أحدٌ أن يتعلق عليهم بشيء، ولكن أحدهم يسمع الكلمة فينيط إليها عشراً، ويتأولها على ما يراه).
4- تعليمهم التقية والتصرف بحكمة مع الآخرين وأن يبتعدوا عن المواقف العاطفية والعصبية والانفعالية ليحموا أنفسهم من الأعداء ويحافظوا على وجودهم واتساع أمرهم، قال (عليه السلام) (التقية ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له).
وقال (عليه السلام) (اكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنّا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه عليكم الأمر فقفوا عنده، وردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شُرح لنا).
وكان (عليه السلام) يتفقد الشيعة ويسأل عنهم ويحنو ويشفق عليهم ويقضي حوائجهم ويطيّب خواطرهم ويخفف آلامهم ويزرع الأمل في قلوبهم، وفد عليه جماعة من شيعته من خراسان وفيهم رجل اسمه زياد الأسود وقد تشققت رجلاه من المشي، فقال (عليه السلام) له: (ما هذا يا زياد؟) فذكر له زياد انه مشى على قدميه عامة الطريق لأن بعيره لا يقوى على حمله، فرقّ الإمام (عليه السلام) لحاله وبكى وقال له: أبشر فأنت والله معنا تحشر) فقال زياد: معكم يابن رسول الله (صلى الله عليه واله)، قال (عليه السلام) (نعم، ما أحبّنا عبدٌ إلا حشره الله معنا، وهل الدين إلا الحب، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتاب (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران/31).
وقال (عليه السلام) لجماعة من شيعته (إنما يغتبط أحدكم إذا بلغت نفسه هاهنا –وأومأ بيده إلى حلقه- ينزل عليه ملك الموت فيقول له: أما ما كنت ترجوه فقد أعطيته، وأما ما كنت تخافه فقد أمنت منه، ويُفتّح له بابٌ إلى منزله من الجنة فيقول له: انظر إلى مسكنك من الجنة فهذا رسول الله (صلى الله عليه واله) وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) هم رفقاؤك، وهو قول الله عز وجل (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) (يونس/63-64) ، فهذه البشرى يتلقّاها في الحياة الدنيا قبل البشرى بنعيم الآخرة.
ومن حبّه (عليه السلام) لشيعته خصوصاً العلماء وحملة الحديث والرواية فقد أوصى ولده الإمام جعفر الصادق بهذه الرعاية الشاملة لكل شؤونهم وأن يغدق عليهم، فقال له (يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً) فقال له الإمام الصادق (عليه السلام) (جُعلت فداك، والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً).
أيّها الأحبّة:
علينا اليوم أن نستفيد من هذه الصفحة المباركة من حياة الإمام الباقر (عليه السلام) لأن الشيعة اليوم تحت الأضواء بعد أن انطلقوا من القمقم الذي حبسه فيه أعداؤهم طيلة أربعة عشر قرناً وبهروا العالم بعدة أمور كشعائرهم المليونية وتاريخهم المشرق وهيكلية تنظيمهم الرصينة وسعة انتشارهم وطاعتهم لقيادتهم وتمسكهم بدينهم، وحركتهم الدؤوبة في توسيع مدرستهم وإقناع العالم بها وعمق جذورهم الفكرية وقدرتها على حل كل المشاكل التي تواجه البشرية وغيرها.
وهذا الوضع يلزمنا بمسؤوليات إضافية تجاه أنفسنا ومذهبنا وأئمتنا سلام الله عليهم، كتلك التي قام بها الإمام الباقر (عليه السلام) ، وهي بنفس الوقت فرصة عظيمة لنا أن تشملنا الألطاف الإلهية فنكون ممن اختارهم الله تعالى لتحمّل هذه المسؤولية المباركة.
([1]) من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في الأول من رجب/ 1434 الموافق 12/5/2013 بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام الباقر (ع).