بسم الله الرحمن الرحيم
(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)([1])
[الفرقان : 30]
شكوى القرآن
الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيرا.
[رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي] (طه:25-28).
الافتتاح:
اعتاد الناس افتتاح الندوات والمؤتمرات واللقاءات وبرامج الإذاعة والتلفزيون بتلاوة آيات من الذكر الحكيم تبركاً بها وتعظيماً لها وقد جرى على ذلك حتى غير المسلمين مما يدلُّ على هيبة هذا الكتاب الكريم حتى في قلوب أعدائه، فما أحرانا نحن طلبة الحوزة الشريفة أن نفتتح دروسنا بالقرآن الكريم وينبغي أن يكون افتتاحاً واعياً متفاعلاً مع روح القـرآن ومضامينـه ومعانيـه وليــس
افتتاحا شكليا وكأنه مجرد نشيد وترنيمه أو عوذة وتميمة.
القرآن يشكو:
وقد اخترت أن أبدأ من الحديث الشريف المروي في الكافي والخصال عن أبي عبد الله (ع) قال: (ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل مسجد خراب لا يصلي فيه أهله وعالم بين جهّال ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه)([2]) وأوضح مصاديق العالم هم أهل البيت (ع) وخصوصاً الإمام الفعلي القائم بالأمر (أرواحنا له الفداء) فالثلاثة الذين يشكون هم القرآن والعترة والمسجد ويدل عليه ما ورد في حديث آخر عن النبي (’) قال: (يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف والمسجد والعترة يقول المصحف يا ربّ حرّفوني ومزقّوني، ويقول المسجد: يا رب عطلّوني وضيعّوني وتقول العترة يا رب قتلونا وطردونا وشردونا، فأجثو للركبتين في الخصومة فيقول الله عز وجل لي: أنا أولى بذلك منك)([3]).
ونستفيد من هذا الحديث أكثر من أمر:
الأول: إن أسس بناء الأمة المسلمة ومقومات كيان المجتمع المسلم هي هذه الأركان الثلاثة، لذا تــم التركيـز عليهـا، والحديـث علـى هـذا يكـون بمعنـى
حديث الثقلين المشهور: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة)([4]). والثقلان هما اثنان من هذه الثلاثة، أما الثالث وهو المسجد فهو المحل الذي يمارس الثقلان من خلاله دورهما في المجتمع ويرتبطان في أجوائه المقدسة بالأمة.
الثاني: الإشعار بأن الأمة ستعرض عن هذه الثلاثة وستخلفها وراء ظهورها لذلك أخبر (’) عن الشكوى كحقيقة واقعة وهو (’) يحذر الأمة من هذا التضييع ويبالغ في العقوبة عليه حتى كأنَّ الله تبارك وتعالى هو الخصم المطالب بحقها وهو الحكم العدل.
وما دامت هذه الثلاثة هي أسس كيان المسلمين فتضييعها يعني زوال هذا الكيان وفناءَه لذا كان لزاماً علينا أن نفرد كل واحد منها ببحث خاص لبيان أثره في حياة الأمة وعظيم خسارتها بالإعراض عنه، وأساليب تفعيل دوره في حياة المسلمين.
وأرى من واجبي أن أنصب نفسي (مدعياً عاماً) كما يعبرون اليوم لأرفع هذه الشكاوى الثلاث وأبدأ برفع شكوى ثقل الله الأكبر: القرآن الكريم وهو الحبل الممدود من الله تبارك وتعالى إلى عباده، هذه الشكوى التي يرفعها رسول الله (’) يوم القيامة: [وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا] (الفرقان: 30) وحذّر المسلمين من هذا الخطر حين عرض عليهم سبب انحراف الأمم السابقة وهو ترك ما أنزل الله إليهم، قال تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ](المائدة:8). فمن تمسك به فقد سلك الطريق الموصل إلى الله ومن أعرض عنه هلك وهوى.
ومنشأ هذه الشكوى إعراض مجتمعنا المسلم حتى الملتزمين([5]) منهم عن تلاوة القرآن والاهتمام به وتدبر آياته فضلاً عن إعطائه دور الريادة والإمامة في الحياة ليكون هو النبراس والدليل الذي يهتدي به المهتدون في جميع تفاصيل الحياة، حتى عاد منسياً عندهم ولا يذكرونه إلا قليلا في شهر رمضان المبارك، ونحن نحث على زيادة الاهتمام بالقرآن في هذا الشهر المبارك للعلاقة الحميمة بينهما، حتى ورد في الحديث: (إن لكل شيء ربيعاً وربيع القرآن شهر رمضان)([6]) لكن هذا لا يعني إهماله أو قلة التعرض له في غيره من الشهور.
البعد عن القرآن سبب انحطاط المسلمين:
إن اختيار الحديث عن هذه الشكوى لم يأت اعتباطاً وليس هو من الترف الفكري بل هو ناشئ عن بصيرة نافذة ونظر ثاقب في تحليل واقع المسلمين وما تردت إليه أوضاعهم حتى صاروا يهدون مقتلهم على طبق من ذهب إلى أعدائهم الذين هم إبليس والنفس الأمارة بالسوء وصنيعتها الغرب الكافر الذي جهد على أن يفصل بين المسلمين وعنوان عزهم وشرفهم وكرامتهم وهو القرآن وها هو غريب بينهم، لذا ثارت في قلبي شجون.
إن أسباب انحطاط الأمة وما آلت إليه من ضعف وانحلال هو إعراضها وعدم تمسكها بحبل الله تبارك وتعالى الذي أمرهم بالاعتصام به فقال عز من قائل:[وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ](آل عمران: 103)، وقد بين رسول الله (’) هذا الحبل فقال (’): (وإني مخلف فيكم الثقلين: الثقل الأكبر القرآن والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عز وجل ما إن تمسكتم به لم تضلوا، سبب منه بيد الله وسبب بأيديكم . . . الحديث)([7]).
ما تمسك بالقرآن مَن أعرض عن العترة الطاهرة:
ولكن الأمة تركت كتاب الله وابتعدت عنه منذ أن أقصت العترة الطاهــرة عن مكانها الذي اختارهم الله سبحانه له لعـدم إمكـان الفصل بينهمـا معرضين عـن
قوله تعالى:[وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ](القصص:68).
ومن خطل القول وتسويلات الشيطان ونزغات النفس الأمارة بالسوء أن يقول قائل (حسبنا كتاب الله) التي لا يزال يكررها وينفثها الشيطان على لسان من يريد أن يقوض بناء الإسلام من أسسه بما فيها القرآن الذي يدعي أنه حسبه لأنه يعلم أن القرآن إنما يكتسب فاعليته ويؤدي دوره بالقائم به الواعي لأحكامه ومفاهيمه وهم العترة.
وهذه الفتنة –الفصل بين القرآن والناطق به – قديمة وممن ابتلي بها أمير المؤمنين حينما أجبر على التحكيم وعلى أن يجعل القرآن حكماً، قال (×): (هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال)([8]) فالكتاب والعترة صنوان لا يفترقان ولا يمكن التمسك بأحدهما دون الآخر فإن أهل البيت (×) هم باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وقد أمرنا بإتيان البيوت من أبوابها.
فما يزعمه غيرنا من اهتمامه بالقرآن أكثر منا باطل جزماً، نعم، اهتموا بمخارج حروفه وتحسين الصوت إلى حد الغناء بقراءته وضبط قواعد التجويد التي وضعوها هم وبعضها مخالف للحكم الشرعي، وهذه كلها اهتمامات قشرية والمهم هو استيعاب المحتوى والمضمون والعمل به فإن اللفظ هو قشر والمعنى هو اللب والمتكلم لا يلحظ اللفظ بنفسه بل يتخذه وعاءً للمعنى وآلة لإيصاله إلى المخاطب والمعنى هو المراد الحقيقي للمتكلم.
وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم المتشدقين بألفاظ القرآن وحروفه المضيعين لمعاني القرآن وحدوده ففي الحديث المشهور (كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)([9]) وهو خصمه لأنه غير عامل بما فيه وفي حديث عن أبي جعفر (×) قال: (قرّاء القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس فذاك من أهل النار، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده فذاك من أهل النار، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فرشه فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء، وبأولئك يديل الله من الأعداء-أي ينصرهم على الأعداء- وبأولئك ينزل الله الغيث من السماء فوالله هؤلاء قراء القرآن أعز من الكبريت الأحمر)([10]). وفي حديث عن الإمام الحسن (×): (وإن أحق الناس بالقرآن من عمل به وإن لم يحفظه وأبعدهم منه من لم يعمل به وإن كان يقرأه)([11]).
لكي يفرغوا مضمون القرآن:
فيبدو من هذا أن خطّة الفصل بين الكتاب والعترة وبالتالي تفريغ الكتاب من محتواه ومضمونه والتشجيع على الاهتمام بألفاظه فقط قديمة، وقد نبه إليها المعصومون (^) فأي اهتمام بالقرآن وهو يقرأ قوله تعالى:[وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ] (القصص:68) ثم يعرضون عمن اختارهم الله تبارك وتعالى ويقدمون غيرهم وقد جعل الله تعالى هذا الأمر كله في كفة ورسالة الإسلام كلها في كفة أخرى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ](المائدة:67).
وأي اتباع للقرآن الذي يقول برفيع صوته [قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى](الشورى:23) وهم ينصبون العداء لأهل بيت النبوة ويتتبعونهم تحت كل حجر ومدر ولو كان لهم أدنى فهم لكتاب الله لضموا هذه الآية إلى قوله تعالى [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً](الفرقان:57) ليحصلوا على حقيقة أن أهل البيت هم السبيل الذي أمر الله تعالى باتباعه بقوله [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](الأنعام:153) وبه فسر الإمام الباقر (×) الآية فقال (×): (نحن السبيل فمن أبى هذه السبل فقد كفر)([12]).
كلمة حق يراد بها باطل:
ولا أقول أن كلمة (حسبنا كتاب الله) والأبواق التابعة لها التي ترددها إلى الآن وتطلب الدليل من القرآن فقط على أي شيء يقال لهم هي كلمة حق يراد بها باطل بل هي كلمة باطل يراد بها باطل وهؤلاء إنما يريدون بذلك هدم أسس الإسلام لأن الاكتفاء بالقرآن –كما يزعمون – يعني استغناءهم حتى عن رسول الله (’) وهو يعني الجهل بكل تفصيلات الشريعة، فإن رسول الله (’) والأئمة المعصومين من آله هم القائمون على أمر الكتاب والمبينون لأحكامه.
وهذه العلوم كلها بين يديك هل تستطيع أن تكون طبيباً أو مهندساً من دون أخذه على يد المتخصصين العارفين بأسراره وفك رموزه؟ فكيف بالقرآن الذي هو :[تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ](النحل: 89) و[مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ](الأنعام:38) وفيه صلاح البشرية جميعاً ولكل الأزمنة [مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ](الصافات:154) وقد نبه رسول الله (’) إلى هذا الخطر بقوله: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)([13]).
التخطيط لقتل الإسلام:
ولكن أعداء الله سبحانه وأتباع الشيطان علموا أن القرآن هو حصن هذه الأمة الحامي لها من الزيغ والانحراف، وأن أهل البيت (^) هم بيانه وترجمانه والعارفون بحقائقه وحبل الوصل بينه وبين الأمة فخططوا لإبعادهم عن الأمة فبقيت الأمة بلا راع والحصن بلا حام، وأصبحت فريسة سهلة بيد الأعداء والمتربصين بها السوء، وها أنت تراها تتزعزع لأبسط شبهة وتسقط في أول فتنة وتنهار بأول اختبار (وهذه أعظم ثلمة انثلم بها علم القرآن وطريق التفكر والتفكير الذي يندب إليه، ومن الشاهد على هذا الإعراض قلة الأحاديث المنقولة عنهم (^) فإنك إذا تأملت ما عليه علم الحديث في عهد الخلفاء من المكانة والكرامة وما كان عليه الناس من الولع والحرص الشديد على أخذه ثم أحصيت ما نقل في ذلك عن علي والحسن والحسين وخاصة ما نقل من ذلك في تفسير القرآن لرأيت عجباً: أما الصحابة فلم ينقلوا عن علي (×) شيئا يذكر وأما التابعون فلا يبلغ ما نقلوه عنه (×) -إن أُحصي – مائة رواية في تمام القرآن، وأما الحسن (×) فلعل المنقول عنه لا يبلغ عشراً، وأما الحسين (×) فلم ينقل عنه شيء يذكر، وقد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى سبعة عشر ألف (ذكره السيوطي في الإتقان) حديث من طريق الجمهور وحده، وهذه النسبة موجودة في روايات الفقه أيضاً)([14]).
الخسارة الجسيمة:
فماذا كانت خسارة القرآن بإبعاد أهل البيت (^) عن ممارسة دورهم الذي اختارهم الله تبارك وتعالى له:
1- غياب الكثير من العلوم الحقيقية التي لا يفهمها من الكتاب إلا هم (^).
2- تراجع القرآن عن ممارسة دوره في إصلاح النفس والمجتمع لأنه والعترة صنوان لا يفترقان ولا يستطيع أن يكون فاعلاً في حيـاة
الأمة إلا بأيديهم.
3- وقوع القرآن فريسة بأيدي المتلاعبين وأصحاب الأهواء والأغراض الشخصية بل والأعداء أيضاً، فترى كلاً منهم يجد دليلاً على معتقده في كتاب الله حتى الخوارج كانوا يستدلون بالقرآن كما حصل بعد التحكيم بينهم وبين ابن عباس فنهاه علي (×) عن الاحتجاج بالقرآن لأنه (حمّال ذو وجوه)([15]) وراحت معانيه الحقيقية ضحية التأويلات التي حذر القرآن من اتباعها: [فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ]، لكن الجواب واضح وأعطاه القرآن مقدماً :[وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ] (آل عمران:7)، وأوضح مصاديق الراسخين في العلم هم أهل البيت (^).
4- تشتت الأمة وضياعها وتمزيقها لأن عصمتها ومحور تجمعها القرآن وأهل البيت بحسب تفسير رسول الله (’) لقوله تعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ](آل عمران:103)، فقال (’): إنهم الكتاب والعترة، وقد عبرت الزهراء (÷) عن هذه العصمة في خطبتها في مسجد رسول الله (’): (وجعل إمامتنا نظاما للملة)([16]) أي بها تنتظم أمورهم وتستقر، فكانت نتيجة ابتعادهم عن أهل البيت فناءهم بيد المتسلطين وعبدة الأهواء الذين استغلوا نفس هذا القرآن ليهلكوا الحرث والنسل وكان من (وعاظ السلاطين) والسائرين في ركابهم من يبرر لهم هذه الأفعال المنكرة، كقوله تعالى: [أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء:59)، فجعلوا أولئك الكفرة الفسقة أولياء لأمور المسلمين.
الوصية بحفظ القرآن
فلا تغرنكم دعوى هؤلاء بأنهم ملتزمون بالقرآن أكثر منا([17]) واحفظوا القرآن لأنه أهل للحفظ والعمل به وكونوا كما أوصاكم أمير المؤمنين (×) قبيل استشهاده: (الله الله بالقرآن لا يسبقكم إلى العمل به غيركم)([18])، وفي وصية النبي (’) لأمير المؤمنين في العمل بأربعين حديثاً قال (’): (وأن تكثر من قراءة القرآن وتعمل بما فيه)([19]).
القرآن طريق الوصول إلـى المعرفة:
فمن أراد الله سبحانه وطلـب الوصول إليـه لأن أول الديـن معرفتــه تبــارك
وتعالى فعليه بالقرآن (لقد تجلى الله لخلقه في كلامه، ولكن لا يبصرون)([20])، كما هو مروي عن الإمام الصادق (×) ومن أراد إصلاح نفسه وتهذيبها وتخليصها من أمراضها فعليه بالقرآن، ومن أراد إصلاح مجتمعه وإقامة أمره على السلام والسعادة والطمأنينة فعليه بالقرآن فإنه الدليل لكل هدى والمرشد لكل خير وصلاح.
ومن العجب أنك حين يعطل جهاز تذهب إلى الجهة المصنّعة له لكي تصلحه فإن صانع الشيء خبير به، وإذا مرضت –لا سمح الله – فتذهب إلى الطبيب المختص لكي يعالج المرض، ثم عندما تريد أن تصلح النفس الإنسانية ذات الأسرار الغامضة الخافية عن صاحبها فضلاً عن غيره، أو أن تضع نظاماً يكفل للبشرية سعادتها وإصلاحها تلتمس العلاج عند نفس البشر الناقصين العاجزين القاصرين. ولا تذهب إلى صانع هذا الإنسان وخالقه ومصوره والعارف بالنفس البشرية.
وقد صدَّقت ذلك –أي فاعلية القرآن في إصلاح النفس والمجتمع- التجربة العظيمة لرسول الله (’) فإن مقارنة بسيطة بين مجتمع ما قبل الإسلام وما بعده والنقلة الضخمة التي حصلت للأمة من أناس همج جهلة متشتتين قد تفشت بينهم الرذائل يتفاخرون بالمنكرات والقبائح إلى أمة متحضرة كريمة الأخلاق ذات نظام لم ولن تعرف البشرية البعيدة عن الله سبحانه مثله وبفترة قصيرة وكل ذلك ببركة هذا الكتاب الكريم وحامله العظيم.
حاجتنا إلـى إعادة القرآن إلـى الحياة:
فنحن إذن بحاجة إلى إعادة فاعلية القرآن في حياة المسلمين وإخراجه من عزلته بحيث اقتصر وجوده على المآتم التي تعقد للموتى والعوذ والأحراز .
وقد ورد في بعض الكلمات (إن آخر هذه الأمة لا ينصلح إلا بما صلح به أولها)، وقد صلح أولها بالقرآن فإذا أرادت الأمة أن تستعيد عافيتها وتعود إلى رشدها فعليها بالقرآن، عن المقداد (رضوان الله عليه) عن رسول الله (’) أنه قال في حديث: (فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل)([21])، وقال أمير المؤمنين (×) في بعض خطبه: (واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى ونقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفعوه من أدوائكم واستعينوا به على لأواءكم فإن فيه شفاءً من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال فاسألوا الله عز وجل به وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله، واعلموا أنه شافع مشفع وماحل ومصدق وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة صدق عليه فإنه ينادي مناد يوم القيامة: (ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن)، فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه علــى ربكــم
واستنصحوه على أنفسكم واتهموا عليه آراءكم واستغشّوا فيه أهواءكم)([22]).
اهتمام النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) بالقرآن:
ولقد بلغ اهتمام أهل البيت (^) بالقرآن أقصاه حتى قال الإمام السجاد (×): (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)([23]).
لقد أُمر رسول الله (’) بتلاوة القرآن: [وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] (المزمل:4) وأمره تبارك وتعالى بالاستعداد لتحمله بالالتزام بنافلة الليل فقال تعالى: [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً] (المزمل:5-6) ولم يكتف رسول الله (’) بتلاوته بل كان يطلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ القرآن عليه فيعتذر إليه (’) ويقول له: (إنه نزل عليك يا رسول الله وتريد أن تسمعه مني. فيقول (’): أحب أن أسمعه منك. فيقرأ عبد الله وعينا رسول الله (’) تفيض من الدمع). يريد بذلك أن يمتع جميع جوارحه بالقرآن عينه وأذنه وقلبه ولسانه وهو يعلم أن لكل جارحة طريقتها في اكتساب المعرفة فأراد – وهو أكمل الخلق – أن تتكامل لديه كل أسبابها، وقد ورد حديث معناه أن من فقد حساً – أي أحد حواسه الخمس – فقد فَقَد علماً، فيريد أن يستفيد من معارف القرآن عن طريق جميع جوارحه، لذا ورد استحباب أن يقرأ القرآن بصوت مسموع. هذا غير ما ورد في فضل وثواب الإنصات إلى القرآن والنظر في المصحف وإن كان يحفظ ما يقرأ حتى لو كان في الصلاة، مما سيأتي إن شاء الله تعالى في مجموعة الأحاديث الشريفة.
وكان (’) يتفاعل مع القرآن، قرأ (’) سورة الرحمن على المسلمين وهم منصتون له فقال (’): لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن استماعاً منكم، قالوا وكيف يا رسول الله؟ قال (’): كانوا كلما قرأت: [فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ] يقولون هم: لا بشيء من آلائك ربنا نكذّب، وإذا قرأ قوله تعالى: [أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى] يقول (’): بلى سبحانك اللهم، لأنه كان يسمع من الله تبارك وتعالى مباشرة من خلال السطور. وسيأتي أن الإمام الكاظم (×) كان يقرأ وكأنه يخاطب إنساناً، قرأ رسول الله (’) سورة الزمر على شاب نقي القلب طاهر السريرة فلما وصل إلى قوله تعالى:[وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً](الزمر:71) وقوله تعالى:[وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً](الزمر:73) شهق ذلك الشاب شهقة كانت فيها نفسه، وقرأ (’) سورة هل أتى على الإنسان حين من الدهر وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه فقال رسول الله (’): أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة، فهؤلاء ممن وصفتهم الآية الشريفة :[الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ](البقرة:121).
دواعي الاهتمام بالقرآن:
وقد ظهر مما سبق أكثر من محفز للاهتمام بالقرآن الكريم ألخصها مع نقاط جديدة غير ما سمعته إن شاء الله تعالى في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة:
1- إنه العلاج الناجح والكامل لأمراض البشر النفسية والاجتماعية والروحية بل والجسدية أيضاً، كما سيأتي في بعض الأحاديث الشريفة.
2- عدم استغناء طالب الكمال والسعادة الأبدية – وهو الهدف الأسمى وغاية الغايات – في الدنيا والآخرة عنه والاهتداء بهديه والأخذ بسبيله، ويزداد سمو الإنسان وتكامله كلما ازدادت استفادته من القرآن.
3- إن في الاهتمام به تأسياً برسول الله (’) وبأهل بيته الكرام وقد أمرنا بذلك في قوله تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً](الأحزاب:21).
4- إن القرآن هو رسالة الحبيب المطلق والإنسان لا يمل من إعادة قراءة رسالة حبيبه وملء النظر منها والتدبر في معانيها والله تبارك وتعالى هو المحبوب الحقيقي لاجتماع أسباب المحبة فيه، فإن الحب إما أن يكون لكمال المحبوب وحسنه وقد اجتمعت صفات الكمال والأسماء الحسنى فيه تبارك وتعالى، أو يكون لأجل صدور الفضل والإحسان منه، والله هو المنعم المتفضل المنان ابتداءً من غير استحقاق وحتى للعاصين من عباده [وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا](النحل:18)، وهكذا .وبهذا المعنى ورد في الحديث عن الصادق (×) قال: (القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وان يقرأ منه كل يوم خمسين آية)([24]).
5- الثواب العظيم والأجر الجزيل الذي لا حدود له الذي يعطي لقارئ القرآن والمتدبر في آياته مما سنقرأه إن شاء الله تعالى في الأحاديث الشريفة.
6- إن القرآن لما كان كتاباً حياً خالداً لكل زمان ومكان فإن المواقف التي عالجها والمشاكل التي واجهها لا تختص بزمان دون زمان، فيستفاد من القرآن إذن الحلول الدائمية المستمرة للمواقف المتجددة، وسنعرض الكثير منها في طي البحث كفكرة المقارنة بين الجاهليتين الأولى والحديثة، وفي هذا المعنى ما ورد عن الحارث الأعور قال: (دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على علي فقلت: ألا ترى أن أناساً يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال: قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني قد سمعت رسول الله ’ يقول: ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم..)([25]).
7- تعلّم المعارف والعلوم وأسرارها المودَعة فيه، بحيث أن مثل أمير المؤمنين (×) الذي يصف علمه عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن بأنه: ما علمي وعلم جميع أصحاب رسول الله (’) في علم علي (×) إلا كقطرة في بحر، أقول مثل علي (×) في علمه (قيل له: هل عندكم شيء من الوحي؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه)([26]).
ففي هذا الكتاب من العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة والتشريعات الحكيمة ونكات البلاغة وحسن البيان ما يلبي كل حاجة، وفيه أسرار الخلق وعجائب المخلوقات داخل جسم الإنسان وفي الكون والطبيعة، وفيه ما لم تتوصل إليه عقول المكتشفين. ولا يعني هذا أن القرآن كتاب فيزياء أو كيمياء أو فلك أو طب حتى تنعكس عليه أخطاؤها ونقائصها، وإنما هو كتاب هداية وإصلاح يوظف كل الأدوات لتحقيق غرضه، وهذه العلوم كلها تصب في هذا الهدف ويأخذ منها مقدار ما يحقق غرضه.
8- براءة الذمة من شكوى القرآن إذا هجر، كما في الحديث الشريف المتقدم (ثلاثة يشكون . . .) وشكوى القرآن لا ترد عند الله تبارك وتعالى، كما في الحديث الشريف في وصفه أنه: (ماحِلٌ مصدَّق) أي أنه خصم مصدَق ويعطى الحق له ويدعم هذه الدعوى شكوى رسول الله (’) المذكورة في القرآن:[وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً] (الفرقان: 30).
9- الفوز بشفاعة القرآن، فقد وصفه الحديث بأنه: (شافع مشفّع) وفي صفه شفاعته يقول الحديث: (وكان القرآن حجيزاً عنه – أي حاجزاً وساتراً عن قارئ القرآن – يوم القيامة، يقول: يا رب إن كل عامل أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم عطائك، قال: فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذين قال: فيُعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره ثم يدخل الجنة فيقال له: اقرأ آيـــة فاصــعــد
درجة ثم يقال له هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول: نعم)([27]).
وغير هذه الفوائد كثير، وأنت ترى أن بعضها لا يختص بالمسلمين، لذا تجد إقبال المفكرين والعلماء والقادة على الأخذ من هذا القرآن وإن لم يكونوا مسلمين.
وإلى هنا يكون ما ذكرت من المحفزات كافياً لأن يثير الإنسان ويحركه ويدفعه نحو احتضان هذا الكتاب الكريم المعطاء والاهتمام به حتى يخالط لحمه ودمه، وإني هنا ألُزم([28]) كل من يرى لي حقاً عليه سواء كان أخلاقياً أو شرعياً أن يختم القرآن على الأقل في السنة مرتين. وهذا مقدار يسير جداً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن شهر رمضان وحده يمكن أن يُقرأ فيه نصف هذا المقدار أو أكثر.
وأهم مما ذكرت من المحفزات ما ورد في الأحاديث الشريفة التي اخترت لك منها مجموعة تتجاوز الأربعين حديثاً جرياً على سنة السلف الصالح الذين ألفّوا الكثير من كتب (الأربعون حديثاً) في شتى حقول المعرفة عسى أن يكونوا وأكون معهم من أهل هذا الحديث الشريف، قال رسول الله (’): (من حفظ عني من أمتي أربعين حديثاً في أمر دينه يريد به وجه الله عز وجل والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيها عالماً)([29]).
القرآن يصف نفسه:
ولكن الأهم من ذلك أن أتلو عليكم بعض الآيات التي وصف بها القــرآن
الكريم نفسه لنتعرف عليه، فإنه أعرف بذلك وهو كلام خير القائلين. ومن هذه الآيات تعرف جلالة قدر هذا الكتاب وعظمة آثاره وبركاته:
1- [هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ] (آل عمران: 138).
2- [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ] (النساء: 105).
3- [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِينًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً] (النساء: 174-175).
4- [قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (المائدة: 15-16).
5- [وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم] (المائدة: 66).
6- [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ] (المائدة: 68).
7- [مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء] (الأنعام: 38).
8- [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ َ] (الأنعام:92).
9- [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (الأعراف:204).
10- [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ] (يونس: 57).
11- [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ] (الإسراء: 9).
12- [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] (الزمر: 23).
13- [وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] (فصلت: 41 – 42).
14- [اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانٌَ] (الشورى: 17).
15- [وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ] (الزخرف: 4).
16- [وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ] (الزخرف:36).
17- [فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ] (الزخرف:43-44).
18- [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ] (الجاثية: 20).
19- [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (محمد: 24).
20- [ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ] (ق: 1).
21- [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] (القمر: 40).
22- [إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ] (الواقعة:77-79).
23- [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد: 16).
24- [لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (الحشر: 21).
25- [وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] (المزمل: 4 – 5).
26- [بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ] (البروج: 21 – 22).
27- [إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ] (الطارق: 13 – 14).
28- [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا، قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ] (الكهف: 1 – 2).
29- [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] (النحل: 89).
30- [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى] (طه: 124).
هذا بعض ما يتصف به القرآن من صفات وآثار حسنة فهو كتاب مبارك عزيز كريم مجيد وهو بيان وهدى وموعظة ورحمة وشفاء وذكر ونور نزل بالحق ليحكم بين الناس ويدخل المؤمنين في رحمة الله وفضله ويهديهم صراطاً مستقيماً وهو عليّ حكيم وبصائر للناس وقول ثقيل وفصل وما هو بالهزل، لذا فهو – أي حقائقه التي جُعِلت هذه الألفاظ وعاءاً لها وهي كالأمثلة لتقريب تلك الحقائق والمعاني العميقة إلى الأذهان – في كتاب مكنون ولوح محفوظ لا يمسه ولا يصل إلى فهم حقائقه الواقعية بشكل كامل إلا المطهرون من الذنوب والمعاصي والآثام وانجلت مرآة قلوبهم عن كل دنس فصارت تعكس بشكل كامل صفحة اللوح المحفوظ، أما غيرهم فليسوا جديرين بحمله إلا بمقدار ما أوتوا من الكمال[أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا] (الرعد: 124).
أمِرَ الناس بتدبرّه وترتيله والتمسك به والإنصات له ولو كان من غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، فإن أقاموه وتمسكوا به أكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم وخشعت قلوبهم ولانت، وكانوا أهلاً للفيوضات الإلهية وإن أعرضوا عنه أصبحوا في عيشة ضنكى واعتورتهم الشياطين حتى تصبح قرناء لهم وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة فإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يهبط من خشية الله وهذه القلوب البعيدة عن القرآن وذكر الله سبحانه صمّ جامدة لا تجري فيها ولا قطرة من أنهار المعرفة [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (الحشر: 21).
شرح لبعض أوصاف القرآن:
ولكن هذا الشرح الإجمالي لصفات القرآن غير كافي، لذا أرى من الضروري تقديم شرح أكثر تفصيلاً لبعض هذه الصفات مما لها آثار اجتماعية أو أخلاقية تاركاً البعض الآخر إلى التفاسير المطولة في موارد الآيات التي ذكرتها، وإنما اذكر هذه الأوصاف ليس فقط للتعرف على القرآن بل للتعرف على أهل البيت (^) لأنهم عدل الكتاب وهما صنوان لا يفترقان فإذا كان القرآن ينطق بالحق فإنهم مع الحق والحق معهم وهو لا يأتيه الباطل وهم معصومون وإذا كان الكتاب قيّماً ومهيمناً، فلهم (صلوات الله عليهم أجمعين) قيمومة وسلطنة على الناس وهم أئمتهم وقادتهم وأولى بهم من أنفسهم، وهكذا:
مبارك:
أي كثير البركة وهو كذلك من عدة جهات فهو مبارك في محل صدوره لأنه نازل من الله تبارك وتعالى المتفضل المنان مفيض النعم التي لا حصر لها ولا عد، ومبارك في محل نزوله وهو قلب رسول الله (’) الرحيم الكريم الذي أُُرسل رحمة للعالمين، ومبارك في آثاره ففيه الهداية والخير والسعادة في الدنيا والآخرة وفيه نظام حياة البشرية وقوامها وحفظ كيانها وفيه السلام والطمأنينة، ومبارك في حجمه فهو كتاب واحد إلا أن جميع أرباب العلوم والمعرفة يغترفون منه وهو معين لا ينضب فتجد الأصولي والفقيه والنحوي والأديب والمفكر والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والطبيب والمشرّع والحاكم يأخذون منه ويستدلون بآياته ومع ذلك يبقى خالداً معطاءً وهذا دليل نزوله من الله فإن هذا كله مما لا يمكن لكتب عديدة أن تضمه وتحويه، وهو مبارك بعدد الذين اهتدوا على يديه وتنورت قلوبهم وعقولهم ببركته.
عزيز:
أي يصعب مناله فإنه في كتاب مكنون وحقائقه العليا محفوظة في اللوح المحفوظ وما هذه الكلمات إلا أمثال لتقريب تلك المعاني إلى أذهان البشر المستأنسة بالماديات والتي لا تسمو لتنال تلك الحقائق، نعم، يمسها ويصل إليها ويعيها المطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهم آل محمد (’) وقد سمعتَ أمير المؤمنين (×) يقول: إننا لا نملك علماً أكثر من فهم لهذا الكتاب، وهو عزيز بمعنى يندر وجود مثله وهو كذلك لأنه كلام من ليس كمثله شيء، وهو عزيز أي ممتنع عن أن ينال بسوء، فيكون بمعنى الآية الشريفة: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر:9)، وهو عزيز بمعنى أنه قاهر وغالب ومتسلط لأنه كلمة الله وكلمة الله هي العليا فهو يعلو ولا يعلى عليه وموقعه دائماً التسلط والحاكمية على العباد والتصرف في شؤونهم، وهو عزيز بمعنى مطلوب كما قيل كل موجود مملول وكل مفقود مطلوب، وهذا الكتاب مطلوب لكل من أراد الوصول إلى الله تبارك وتعالى.
مجيد:
قال الراغب في المفردات: المجد: السعة في الكرم والجلال وأصله في قولهم (مَجدَتْ الإبل) إذا حصلت في مرعى كثير واسع فوصف القرآن بالمجيد لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية وعلى هذا وصفه بالكريم بقوله تعالى:[إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ] ( الواقعة: 77).
لسعة فيضه وكثرة جوده،وقد أشرنا في شرح صفة (مبارك) إلى هذه الآثار الواسعة.
قيَّماً:
من القيمومة، فهذا الكتاب قيّم على العباد ليسوقهم ويقودهم ويدلّهم على ما يصلحهم ويهيئ لهم كل أسباب السعادة في الدنيا والآخرة كما يفعل القيّم على الأسرة أو على المجتمع، ومنهج القرآن قيّم على جميع المناهج الأخرى سواء على مستوى العقائد أو التشريعات وهو مقدم عليها وقائد لها وهي تابعة وخاضعة ومحكومة له، فالقيمومة العليا في هذه الحياة للقرآن إن أرادت البشرية خيرها وسعادتها لا ما فعلته بالابتعاد عن منهج القرآن وتحكيم عقول البشر القاصرة الخاضعة غالبا لمنطق الأهواء والمصالح وقد مهدت الآية لهذه القيمومة بأن وصفته أنه لاعوج فيه ولا نقص ولا خلل ولا قصور، فقال تعالى:[وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا] (الكهف:1). فمن شروط القيمومة على البشر من يريد تكميل غيره أن يكون كاملاً في نفسه فإن فاقد الشيء لا يعطيه كما قالوا، ومن ضرورة القيمومة على البشر أن يتصدى لها من لا نقص فيه ولا خلل ولا قصور ولم يتحقق ذلك إلا في هذا الكتاب الكريم وعدله الثقل الأصغر أهل بيت النبوة وكل ما سواهم لاحقّ له في إمامة المجتمع والقيمومة عليه، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة أوجبت تقديم الكتاب والعترة.
[وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً] (طه: 124)، أي ضيّقة وهذه صفة كل من يعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى ويكون مقطوع الصلة به سبحانه ويعيش بعيداً عن القرآن الكريم فإنه يكون في ضيق وتعاسة وألم لأنه انسلخ من رحمة الله الواسعة ووقع فريسة الأهواء والمطامع والشهوات التي لا تقف عند حد فهو في رعب خشية الموت فيخسر الدنيا التي هي همه وما له في الآخرة من نصيب، ويعيش الحرص على ما في يده خشية الفوت، ويعيش التعب لأنه يلهث وراء سراب، فما يحقق شيئا يظن أن فيه سعادته حتى يكتشف أنه متوهم فيسعى إلى غيره،فمثلاً يظن أن سعادته في المال حتى جمع المليارات فما تحققت سعادته، فيظن أنها في الدور الفارهة فيبني منها ما لا عين رأت فلا تحقق سعادته، فيظن أنها في النساء فيستمتع بما شاء منهن ثم يجد نفسه قد وصل إلى طريق مسدود فينطبق عليه قوله تعالى: [فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي]، والقمر كناية عن المال فظن أنه ربه وكافل سعادته [فَلَمَّا أَفَلَ] وفشل في تحقيقها له [قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ]، [فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً]، وهي كناية عن أمور دنيوية أخرى [قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ] وهذا الذي يحقق لي السعادة وطمأنينة القلب لأنه [هَذَآ أَكْبَرُ].
وأهم وأعظم تأثيراً [فَلَمَّا أَفَلَ] وفشل هذا الرب الجديد في تحقيق السعادة [قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ] وهؤلاء الأرباب الناقصين الذين لا يملكون لأنفسهم فضلاً عن غيرهم ضراً ولا نفعاً، وعندئذ إن كان مخلصاً في البحث عن الحقيقة كتبت له الهداية وقال مقالة المؤمنين: [قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ] (الأنعام: 76-79)، وإن لم يكن كذلك كتبت عليه الشقاوة وكان جوابه: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إذا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ واللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ] (النور:39).
وهكذا يبقى في شقاء ونكد وضيق بين مطرقة الموت الذي يمكن أن يختطفه في أية لحظة، وسندان الحرص والطمع [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ] (البقرة:96)، وأنت ترى أن أكثر حالات الانتحار هي في الدول المرفهة اقتصادياً والتي تعيش التخمة ومنشأه هذا النكد والفتك الذي يعيشه بسبب الخواء الروحي.
[قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (المائدة: 15-16)، فهو نور لأنه يشرق أولاً في قلب المؤمن فيطهّره من أدران المعاصي وكدورات الذنوب ويجلي صفحته ليكون مستعداً لتجليات الحق فيه وهو نور للأمة وللمجتمع يرشدها إلى النظام الذي يكفل سعادتها.
ومن لطيف التعبير القرآني أنه جعل لفظ النور مفرداً والظلمات جمعاً لأن طريق الحق واحد لا يتعدد وإن تعددت سبله ومصاديقه . قال تعالى:[اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ](الفاتحة:6)، بينما الظلمات عديدة والآلهة التي تصد عن الله تبارك وتعالى كثيرة.
ومن آثار القرآن وبركاته أنه يهدي من اتبع رضوان الله تعالى سبل السـلام
وأول سلام ينعم به هو سلام النفس وطمأنينة القلب وصفاء الذهن[أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ](الرعد:28)، ثم السلام داخل العائلة والأسرة التي تقوم على أساس الإسلام وتعاليم القرآن [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ](الروم:21)، ثم السلام بين أفراد المجتمع عندما تسودهم آداب الإسلام [فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً](آل عمران: 103)،[مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ](الفتح:29)،[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ](الحشر:9).
قول ثقيل:
والثقل للمعنى الذي يحمله القول أو اللفظ هو ثقيل على النفس لأنه يمسك بزمام شهواتها فلا يطلق لها العنان وإنما يهذبها ويقومها ويقودها، وهو ثقيل على العقل لما يتضمنه من أسرار ودقائق يصعب تحملها على العقول الجبارة وثقيل على الروح لما فيه من تكاليف شاقة وتربية مكثفة وإليه أشار (’) شيبتني هود والواقعة لأن فيها فاستقم كما أمرت وهو (’) يعرف ثقل هذا الأمر.
ومنشأ ثقله صدوره من الله العظيم، لذا تنقل كتب السير حالته (’) عند نزول الوحي عليه وقد وصف القرآن ثقله بقوله: [لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ](الحشر:21).
وهو ثقيل لما يصيب حامله والساعي إلى إقامته في المجتمع من محن وبلايا وصعوبات. قال تعالى: [المص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ](الأعراف:1-2) لذلك أمر (’) بقيام الليل والتعلق بالله تبارك وتعالى وتعميق الصلة به استعداداً لتلقي هذا القول الثقيل والمسؤولية العظيمة وقد وعده تعالى بتحصيل هذه النتائج، قال تعالى:[وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُوداً](الإسراء:79).
موعظة وشفاء وهدى ورحمة:
واًختصر هنا ما ذكره السيد الطباطبائي (+) في تفسير الآية([30]):
قال الراغب في المفردات: الوعظ: زجر مقترن بتخويف. وقال الخليل. هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب وشفاء الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحية الخبيثة التي تجلب إلى الإنسان الشقاء وتنغص عيشته السعيدة وتحرمه خير الدنيا والآخرة، وإنما عبر بالصدور لان الناس لما وجدوا القلب في الصدر وهم يرون الإنسان إنما يدرك ما يدرك بقلبه وبه يعقل الأمور ويحب ويبغض ويريد ويكره ويشتاق ويرجو ويتمنى عدّوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره والصفات الروحية التي في باطن الإنسان من فضائل ورذائل.
أقول: وتدل الأحاديث على أن القرآن شفاء حتى من الأمراض البدنية بل في بعضها أن سورة الفاتحة لو قرأت سبعين مرة على ميت فقام حياً لم يكن ذلك عجباً.
والرحمة تأثر خاص في القلب على مشاهدة ضر أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره وإتمام نقصه، وإذا نسبت إلى الله سبحانه كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيته تعالى وإفاضته الوجود على خلقه.
أقول: هذا أحد الوجوه في شرح هذه الأسماء المباركة التي لا يمكن فهم نسبتها إلى الله تبارك وتعالى كما تنسب إلى المخلوقين.
وإذا أخذت هذه النعوت الأربعة التي عدّها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية – أعني انه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة -، وقيس بعضها إلى بعض ثم اعتبرت مع القرآن كانت الآية بياناً جامعاً لعامة أثره الطيب الجميل وعمله الزاكي الطاهر الذي يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أول ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكن من نفوسهم ويستقر في قلوبهم.
فإنه يدركهم أول ما يدركهم وقد غشيتهم الغفلة وأحاطت بهم لجة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشك والريب وأمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل وكل صفة أو حالة رديئة خبيثة فيعظهم([31]) موعظة حسنة ينبههم بهـا مــن رقـدة الغفلـــة،
ويزجرهم عما بهم من سوء السريرة والأعمال السيئة ويبعثهم نحو الخير والسعادة.
ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات ولا يزال يزيل آفات العقول وأمراض القلوب واحداً بعد الآخر حتى يأتي على آخرها.
ثم يدلهم على المعارف الحقة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة دلالة بلطف يرفعهم درجة بعد درجة وتقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين، ويفوزوا فوز المخلصين.
ثم يلبسهم لباس الرحمة وينزلهم دار الكرامة ويقعدهم على أريكة السعادة حتى يلحقهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ويدخلهم في زمرة عباده المقربين في أعلى عليين.
فالقرآن واعظ شافٍ لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، وإنما يعظ بما فيه ويشفي الصدور ويهدي ويبسط الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنه السبب الموصل بين الله وبين خلقه فهو موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
الحياة في كنف القرآن:
وقد جرّبتُ الحياة في كنف القرآن ومنَّ الله تعالى عليَّ أن عشت في رعايته منذ ريعان الشباب وكنت أختمه في السنة عشر مرات أو أكثر في بعض السنين حتى خالط لحمي ودمي وفكري ولساني وقلبي وكنت مع تلاوتي له اقرأ في البداية تفسيراً مختصراً وهو تفسير شبّر ثم بدأت أطالع بإمعان في التفاسير المفصّلة كالميزان ومجمع البيان وبعض التفاسير الحركية، فكان لهما ولغيرهما مما كنت أطالع الفضل في تكوين شخصيتي العلمية والفكرية في وقت مبكر من حياتي –بداية العشرينات من عمري- حتى أكملت بعضها ولخصت رؤوس أفكارها حتى أرجع إليهما باستمرار فتنقدح في ذهني تلك الأفكار وفي روحي وقلبي تلك اللحظات السعيدة.
ما الذي وجدته في رحاب القرآن؟
فماذا وجدت في رحاب القرآن؟ وماذا سيجد من يعيش في رعاية القرآن؟
سيرى عظمة الله سبحانه تتجلى في آياته وقوانينه وسننه وقدرته على كل شيء، فالأرض جمعياً قبضته والسموات مطويات بيمينه والعزة لله جميعاً والقوة والملك له وحده فهو الذي يرث الأرض ومن عليها وإليه مرجع العباد وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ويحول بين المرء وقلبه ولا يملك شيء لشيء نفعا ولا ضراً إلا بإذنه، فعندئذ يتصاغر أمام حامل القرآن كل ما سوى الله تبارك وتعالى مهما عظم ظاهرا أو حاول أولياؤه وأتباعه تعظيمه والنفخ في صورته فإذا قدرة الله تلقف ما يأفكون فلا إرم ذات العماد ولا فرعون ذو الأوتاد ولا صاحب الكنوز التي تنوء مفاتيحه بالعصبة أولي القوة، أما حامل القرآن فقوته متصلة بالله فلا يخشى ما سواه [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ](العنكبوت:41)، و(من خاف الله أخاف الله منه كل شيء)([32]).
وعندئذ سترى أن هذه القوى الكبرى التي [يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى](طه:66)، وقادرة على تحقيق كل ما تريد، وإذا بها تنهار وتذوب كما يذوب الملح في الماء بلا حرب ولا أي عدو ظاهر لكن الله ينبئك عن الذي يقف وراء فنائهم [فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ](النحل:26-27).
وسيرى وعد الله وطمأنينته للمؤمنين بأن العاقبة لهم ولكن بعد أن: [مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ](البقرة:214)، وأن لا بد من الفتنة والابتلاء ليمحص الله الذين آمنوا [ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ] (العنكبوت:1-3). وعندئذ يقر بال المؤمن مهما واجهته من صعوبة ومحنة لأنه من سنة الله في عباده فعليه أن يصدق في المواقف وسيجزي الله الصادقين ويهون الخطب عليه انه كله بعين الله سبحانك قال تعالى: [فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا]( الطور: 48)،[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] (التوبة: 120).
وسيرى من علو الإيمان الذي يعمر قلبه والمعارف العليا التي يحملها إلى هذه البشرية التائهة التي تلهث وراء السراب تعيش لأغراض زائفة وتمني نفسها بأمانٍ باطلة يزينها لهم أولياء الشيطان من مال وجاه وشهوات يتنافسون عليها ويتقاتلون على شيء لا يبقى لهم بل يكون وبالاً عليهم. يصنعون لأنفسهم آلهة يصطلحون على عبادتها وطاعتها وتقديم الولاء لها فيقيمون لها الطقوس والاحتفالات والمهرجانات ويذبحون من أجلها القرابين ليس من الحيوانية فقط بل البشرية ويهدرون على أقدامها المليارات.
وسيرى أنه ليس وحده حتى يشعر بالضعف أو الذلة أو الخضوع والاستسلام ولا أن ما يعانيه ويشاهده ويعيشه بدعاً من الحوادث ولا أن تجربته فريدة [قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ]( الأحقاف: 9)، فإذن قد سبقه على هذا الخط أنبياء عظام وأولياء كرام وحملة رسالات ومصلحون وعباد صالحون عانوا أكثر مما عانى وصبروا على اشد ما صبر عليه وواجهوا من مجتمعاتهم أعظم مما يواجه والصورة نفس الصورة قال تعالى: [فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ]( الحديد: 26)،[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ]( المائدة: 105).
وسيرى تكريم الله لخلقه حين خاطبهم بنفسه ووجه إليهم كلامه مباشـــرة،
الله العظيم خالق السموات والأرض ذو الأسماء الحسنى يرسل إليهم بنفسه رسالة ويعهد إليهم بعهده، أي تكريم أعظم من هذا وأي تفضيل فوق هذا [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( الإسراء: 70) فكيف يا ترى مشاعر الإنسان وهو يقرأ رسالة حبيبه بل الحبيب المطلق (إن القرآن عهد الله إلى خلقه فينبغي لكل مؤمن أن ينظر فيه)([33]).
وسيرى أن كل شيء في هذا الكون بقدر وحساب دقيق، قال تعالى: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ]( القمر: 49)، [وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ]( الحجر:21)،[وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ]( الأنبياء: 47)، وكل المخلوقات أفراداً ومجتمعات تجري وفق سنن ثابتة [سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ]( النساء: 26)،[وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ]( الأنعام: 38) لا يستطيع أحد أن يخرج من هذا القانون الإلهي العظيم [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً]( فاطر: 43)، فكيف يعبد الإنسان غيره تبارك وتعالى وهو لا يستطيع أن يخرج من قبضة سننه وقوانينه، فلا مجال للعب ولا العبث واللهو [رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَِ]( آل عمران: 191)، [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ]( الذاريات: 56)،[لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ]( الأنبياء: 17) ولا مجال للصدفة العمياء التي طالما تشدق بها الملحدون وضحكوا بها على عقول الناس ردحا من السنين وأضلوهم بها فتعساً للتابع والمتبوع، فمن وراء خلق الإنسان هدف فلا بد ان يحيا من اجله ويكرس كل طاقاته لتحقيقه وهو رضا الله تبارك وتعالى.
وسيجد في القرآن الوعد الإلهي بالإمداد والقوة الغيبية في كل موقف وشدة ومأزق ومعركة مع النفس الأمارة بالسوء أو الشيطان، وأن الله معه وكفى به ناصراً ما دام هو مع الله قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ]( فصلت: 30 – 33) وآيات كثيرة تخبر عن إنزال السكينة في قلوب المؤمنين والإمداد بالملائكة المسومين وغيرها.
وسيجد في كنف القرآن الطمأنينة قال تعالى: [أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( الرعد: 28)، وهدوء البال وشفاء الصدور والهدى والبركة وكل خير مما وصف القرآن به نفسه.
فإذا وجد حامل القرآن كل ذلك اشتدت عزيمته وقوي قلبه وصلحت نفسه وازدادت همته وظهرت حكمته وسيكون عندئذ مصدراً للعطاء ومنبعاً للخير لنفسه وللمجتمع كما هو شأن المصلحين العظام وعلى رأسهم رسول الله (’) وأمير المؤمنين (×) .
ضرورة العودة إلـى القرآن:
أفبعد كل هذا نحتاج إلى ذكر المزيد من المحفزات للعودة إلى القرآن والحياة في كنفه وهل بقى من لا يعي فداحة الخسارة التي حلت بنا بسبب ابتعادنا عن القرآن. إذن فلنرجع جميعاً إلى القرآن تائبين نادمين ملتمسين إياه أن يعود إلى إمامتنا وهدايتنا إلى الله تبارك وتعالى وعلينا أن نفكر في سبيل إلى إخراج هذا الكتاب الكريم من عزلته التي فرضناها نحن عليه وتفعيل دوره في الحياة المجتمع.
وقد تقول: إن مثل هذا حاصل من خلال ما نشاهده من كثرة حلقات تعليم القرآن وحفظه وتجويده وبيان قواعده ورسمه .
وأقول: مع احترامي لهذا كله إلا أن هذا اهتمام بالقشور والمهم هو اللب فإن اللفظ وعاء لإيصال المعنى وقشر لحفظ المعنى الذي هو اللب وآلة لنقل المعنى إلى الذهن فهل يكفي الاهتمام بالقشر وترك اللب؟ فالمطلوب هو إعادة القرآن بروحه ومضامينه ومعانيه وأفكاره ومفاهيمه، ولا شك أن الخطوة الأولى منه هي الاهتمام بتلاوته ومعرفة معاني ألفاظه وتطبيق القواعد العربية على مخارج حروفه.
مسؤولية الحوزة في إعادة القرآن:
وأعتقد أن أول شريحة في المجتمع تقع عليها المسؤولية هي الحوزة الشريفة بطلبتها وفضلائها وخطبائها وعلمائها لأن صلاح المجتمع من صلاح الحوزة وفساده بفسادها والعياذ بالله، فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (’): (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله (’) ومن هم؟ قال (’): الفقهاء والأمراء)([34]).
وقد قلت في بعض كتبي([35]) أنه من المؤسف حقاً غياب القرآن عن مناهج الدراسة الحوزوية، فقد نظمت بشكل لا يحتاج فيه الطالب إلى التعمق في القرآن الكريم من أول تحصيله إلى نهايته ولا يمر به إلا لماماً عند الاستدلال على قاعدة نحوية أو مبحث أصولي أو مسألة فقهية، فأصبح مسرحاً للتدقيقات العقلية ولم يتخذ غذاءً للقلب والروح ودواءً للنفس، وربما يبلغ الحوزوي مرتبة عالية في الفقه والأصول وهو لم يحيَ حياة القرآن ولم يخُض تجربة التفاعل مع القرآن واستيعابه كرسالة إصلاح، وقد تمر الأيام والأسابيع ولا تجد طالب العلم يمسك المصحف الشريف ليتلو آياته ويتدبر فيها لعدم وجود صلة روحية عميقة بينه وبين القرآن، ولو وجد فيه زاده وغذاءه الذي يغنيه عن غيره لما استطاع تركه، وهذه مصيبة عظيمة للحوزة والمجتمع، وربما لا يحسن بعضهم قراءته مضبوطةً بالشكل.
ولما كانت رسالة الحوزة الشريفة التي تصدت لحملها هي إصلاح المجتمع وتقريبه إلى الله تبارك وتعالى فإن أول مهمة لهم هي فهم القرآن والسعي إلى تطبيقه فإن الأمة لا تكون بخير إلا إذا تمسكت بقرآنها واهتدت بهديه واستضاءت بنوره كما هو نص حديث الثقلين المشهور: (إني تارك فيكم الثقليــن
كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً)([36]).
جاهلية اليوم:
إن البشرية تعيش اليوم جاهلية جديدة – وإن تسمى بعضهم بالإسلام – بحسب المفهوم الذي يعطيه القرآن للجاهلية، إذ أنه لا يعتبرها فترة زمنية انتهت بطلوع شمس الإسلام بل هي حالة اجتماعية تتردى إليها الأمة وينتكس إليها المجتمع كلما أعرض عن شريعة الله سبحانه [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة:50)، وقد نبه القرآن الكريم إلى حصولها حينما قال: [وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى] (الأحزاب:33) وكأنه إشعار بوجود جاهلية ثانية وهي هذه التي تعيش البشرية اليوم شؤمها وتعاستها وشقاءها.
بل جمعت جاهلية اليوم مساوئ الجاهليات القديمة كلها فالقوي يأكل الضعيف، واللواط يسن بقانون رسمي يجيزه ويرتضي الزواج بين الذكرين، والزنا يفوح برائحته الكريهة وهمجيته الحيوانية وأمراضه الفتاكة كالأيدز ونحوه في كل أرجاء العالم، والبخس في الميزان منتشر بجميع أشكاله ليس على مستوى الأفراد فقط بل على مستوى الدول فلا يوجد إنصاف في العلاقات بين المجتمعات البشرية وهو ما يسمى بالمصطلح (الكيل بمكيالين)، واتخاذ الأحبار والرهبان وسائر رؤوس الضلال من شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً أرباباً من دون الله يحرّمون ما أحل ويحلون ما حرم، والآلهة التي تعبد من دون الله سبحانه قد تعددت ولم تعد مقتصرة على الحجرية منها فقط، بل ما زالت الذهنيات الشيطانية تتفتق عن المزيد وشياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ويصدون عن صراط الله المستقيم [لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ](الأعراف:16-17)،[وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً](الأعراف:86)، وما أكثر هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجا عن الفطرة السليمة من فاسقات نصبن فخوخ الفتنة والإغراء، إلى بورصات اقتصادية يسيل لها اللعاب، إلى فنانين لا عمل لهم إلا تدمير الأخلاق والقيم الاجتماعية وغيرها.
كل هذه من صفات وعلامات جاهلية اليوم وفي كل زمان ومكان، وهذا المفهوم من المفاهيم القرآنية التي يجب استيعابها وفهمها.
مقارنة بين الجاهلية الأولى والجاهلية اليوم:
ولمزيد من البيان نعقد مقارنة بين عقائد وممارسات الجاهلية الأولى والجاهلية التي نعيشها اليوم، وأريد بهذا البيان عدة أهداف:
1- تنقيح المفاهيم والمصطلحات القرآنية واستنباط معانيها التي يريدها القرآن وإزالة الغبار المتراكم عليها نتيجة الغفلة عن القرآن، وإعمال العقول فيه من دون الرجوع إليه.
2- استيعاب الحاجة إلى القرآن إذا فهمنا أن البشريـــة عـــادت إلـــى
جاهليتها الأولى فهي بحاجة إلى أن يعود القرآن ليمارس دوره من جديد في الأخذ بيدها نحو الإسلام الحقيقي.
3- تعزيز فكرة الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) وإقامة الدليل العلمي عليها إذ أن البشرية لما عادت إلى جاهليتها الأولى فإن القرآن وحده لا يكفي لممارسة دوره في إنقاذها بل لابد له من حامل يجسده على أرض الواقع كما رسول الله (’) وإن لم يكن نبياً لانقطاع النبوة به (’) ولا تجتمع هذه الأوصاف إلاّ في الحجة بن الحسن (أرواحنا له الفداء)، وها هي إرهاصات ظهوره تتحقق ويقترب يومه الموعود([37]). وتفصيل الكلام في بحث خاص([38]) به (×) .
صفات ومميزات المجتمع الجاهلي بحسب المفهوم القرآني:
وأول صفة من صفات الجاهلية هي عبادة الناس لغير الله تبارك وتعالى والعبادة بمعنى الطاعة والولاء كما ورد عنهم (^) في تفسير قوله تعالى: [اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (التوبة: 31) قال (×): (أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون)([39]) هذه العبادة كانت في ذلك المجتمع الجاهلي لغير الله تبارك وتعالى لذا جاء في أول سورة من سور القرآن المطالبة بعدم طاعة ما سوى الله [كَلا لا تُطِعْهُ](العلق:19)، فكانت الطاعة لآلهة متعددة يومئذ:[مَا نَعْبُدُهُمْ – أي الأصنام – إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى](الزمر:3)، [وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ](آل عمران:64)، [إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا](الأحزاب:67)، [فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ](هود:97)،[فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً](مريم:59)، [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ](البقرة:170)،[وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاهُ فإنه يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ](الحـج: 3-4)،
[إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ]( الفتح: 26).
هذه بعض آلهة الجاهلية الأولى التي كانت تعبد من دون الله تبارك وتعالى وهي (الأصنام، العلماء غير المخلصين، الفراعنة، هوى النفس الأمّارة بالسوء وشهواتها، إبليس، العصبية، العادات والتقاليد الموروثة عن السلف) وأصلها اتباع الهوى [فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ](القصص: 50).
فهل اختلف حال الناس اليوم؟ ولا أريد بالناس هذه الأمم التي تسمي أنفسها متحضرة فإنها غارقة في مستنقع الجاهلية من قرنها إلى أخمص قدميها، ولكن هلم بنا إلى الخطب الأفضع إلى الذين يسمون أنفسهم مسلمين وهم يسيرون في ركاب أولئك الكفار وينغمسون في طاعة الشهوات والهوى وما يصدرون إليه من آلهة جديدة كالرياضة والفن وبعض النظريات والقوانين المنحرفة، وما زالت طاعة السادة والكبراء كرئيس العشيرة والوجهاء تمتثل من دون رعاية للشرع المقدس فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله تبارك وتعالى، وما زالت الأعراف والتقاليد وسنن الآباء والأجداد تطاع أكثر من شريعة الله سبحانه بحيث يرضى المجتمع بمعصية الله ولا يرضى بالخروج عن هذه الأعراف والتقاليد، ولسان حالهم يقول: ( النار ولا العار ) خلافا للإسلام الذي مثله الإمام الحسين (×) في كربلاء بقوله:
الموت أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار
وهذا واضح في السنينة العشائرية وغيرها، وهذه المرأة المسكينة تطيع المودة ودور الأزياء وما يقتضيه الأتيكت وما يصدره الغرب من ملابس وأدوات زينة وكماليات حتى لو كانت مخالفة للشريعة فهل. بقى من العبادة والطاعة والولاء شيء؟ هذا على مستوى الشرك الجلي، والقرآن يخبرنا أن هذه الآلهة كلها ستتبرأ من عبادها يوم القيامة ولا ينفع الندم حينئذ: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ](البقرة: 165-166).
ويصف هذه الآلهة التي يعبدها البشر بتقديم الولاء والطاعة لهم من دون الله تبارك وتعالى قال تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ](العنكبوت:41)، وقال تعالى:[وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ](النور:39).
وهذا بحث جدير بالاهتمام لأنه يلفت نظر الناس إلى انحراف عقائدهم وأنهم بعيدون عن التوحيد الخالص وأن طاعتهم لله تبارك وتعالى اقل بكثير من طاعتهم لهذه الأصنام المتعددة. وليكن البحث بعنوان (أصنام الجاهلية الحديثة) التي يزيدها خطورة خفاؤها وعدم الالتفات إليها حتى للمؤمنين فضلاً عن غيرهم.
أما على مستوى الشرك الخفي فالمصيبة أعظم، وقلما تجد عملاً مخلصاً وإن ظن صاحبه ذلك، فلماذا يكتب اسمه على لوحة كبيرة عندما يشيد مسجداً لو كان عمله لله ولماذا يمنّ بعطائه ويتحدث به لو كان مخلصاً؟
والصفة الثانية من صفات الجاهلية هي أن الشريعة التي تنظم أمورهم وتنظر في خصوماتهم بعيدة عن شريعة الله سبحانه [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ] (المائدة:50)، وعن الصادق ×: (الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية)([40]). فكل حكم بغير ما أنزل الله هو حكم جاهلية على تعبير القرآن، ونحن نرى أن أكثر أفراد مجتمعنا منضوون تحت عشائر تحكمها سُنن عشائرية ما أنزل الله بها من سلطان وضعها ناس جهلة بعيدون عن الله تبارك وتعالى، وهذا كمثال ويمكن أن تضرب بطرفك في شرائح اجتماعية أخرى لترى مصداق ذلك، وها أنت ترى أن دول العالم المختلفة تتحكم فيها قوانين وتشريعات و(آيديولوجيات) من صنع البشر الناقص الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا يرى أبعد من أرنبة أنفه، فتراه كل يوم يغير مادة ويضيف فقرة ويلغي أخرى ويكتشف خطأ غيرها فيرتق ما فتق، وهكذا وقد وصف الحديث الشريف كل مخالفة للشريعة وتقصير في تطبيقهـا جاهليــة نحــو
قوله (×): (من مات ولم يوص مات ميتة جاهلية)([41]).
ففرعون الذي يقول: [مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى]( غافر: 29)، ليس حالة خاصة فردية بل هي متكررة دائماً عند الكثيرين ممن ينصبون أنفسهم مشرعين من دون الله تبارك وتعالى.
ومن سمات الجاهلية انحراف عقائدها وإليها أُشير بقوله تعالى: [يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ]( آل عمران: 154)، فقد كانوا يعتقدون مثلاً أنه مهما ارتكب الإنسان من موبقات فإنه ينجو من العقاب إذا قرب إلى الآلهة قرباناً، ومجتمعنا بفعل ما رسخه خطباء المنبر الحسيني في أذهانهم يعتقدون أنه مهما فعل من منكرات وكبائر فإن دمعة واحدة على الحسين (×) تكفيه لدخول الجنة، انطلاقاً من الحديث الشريف: (من بكى على الحسين ولو مقدار جناح بعوضة وجبت له الجنة)([42])، واستدلوا بقول الشاعر:
فإنَّ النار ليس تمس جسماً عليه غبار زوار الحسينِ
ونحن لا ننكر كرامة الحسين (×) على الله تبارك وتعالى فهو يستحق هذا التكريم وأزيد: لكن هذا على نحو المقتضي وجزء العلة لدخول الجنة ولا بد من تمامه من جزء العلة الأخرى من الشروط وعدم الموانع وأول الشروط طاعة الله تعالى في أوامره ونواهيه وهذا القرآن صريح: [وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى](الأنبياء: 28)، وفي حديث الإمام الصادق (×): (لن تنال شفاعتنا مستخفاً بالصلاة)([43])، ومنافٍ للآية الشريفة: [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ](الزلزلة: 7 – 8)، إلا أن يتدارك عمله بالتوبة الصادقة.
وهذا الانحراف في الاعتقاد له أثره الخطير في ابتعاد الناس عن الدين وقلة وعيهم بعد أن خدروا بهذه العقيدة البعيدة عن القرآن وركونهم إليها فتركوا العمل بالقرآن.
ومن معالم الجاهلية السفور والتبرج وإظهار المفاتن والتهتك وشيوع الفاحشة، قال تعالى: [وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى]( الأحزاب: 33)، والمجتمع اليوم قد فاق تلك الأمم بفسقه وفجوره وتفننه في الغواية والإضلال وإيقاع البشر في الفاحشة وتسخر كل إمكانياتها المتطورة لترويجها، وكما كانت الجاهلية تبتكر الأساليب وتضع قوانين لإشباع غريزتها الجنسية بطرق شيطانية، فمثلا سنّت قريش قراراً يقتضي حرمة طواف الطائف بالبيت بثيابه لأنه قد عصى الله بها وارتكب المآثم فيها فلا بد أن يطوف بملابس من آهل مكة أو جديدة أو يطوف عارياً.
وأولياء الشيطان اليوم سنّوا أساليب لإشاعة الفاحشة غير ملاهي الفسق والفجور باسم الرياضة مثلاً التي لا تقل تهتكاً عما يجري في تلك الملاهي بل الملاهي أرحم لأنها في الخفاء ويستهجنها الجميع ويستحيي صاحبها أن يلصق به عارها، أما هذه فتمارس علناً ويفتخر بها صاحبها ويبارك عمله الجميع. أترى أي ألعوبة أصبح هؤلاء بيد الشيطان يتصرف بهم كيف يشاء. وهكذا العناوين والأسماء الأخرى كملكة الجمال أو باسم عرض الأزياء أو باسم الفن وكلها استهتار ومجون وفسق وفجور ولكن بغطاء مقبول لدى المجتمع لا ينجو منه إلا من عصم الله، والهدف واحد هو أن تعيش البشرية همجية الحيوان وفوضى الجنس ونار الشهوة المستعرة التي لا تبقي ولا تذر.
ومن سمات الجاهلية فساد التصورات وانحراف الرؤية للحياة فمثلاً كان بعض الجاهليين يرفضون تزويج بناتهم من غيرهم لأنهم يرون أنفسهم فوق الآخرين وهم ما يسمون بــ(الحُمُس)، وفي جاهلية اليوم توجد شرائح كثيرة كذلك ولعل أوضح مصاديقها بعض السادة المنتسبين لرسول الله (’) فإنهم لا يزوجون نساءَهم إلا لسيد مثلهم وقد تعنس بناتهم ويفوتهنّ الزواج ويحرمنَ من ممارسة حق مشروع لهنّ في التنعم بتكوين أسرة وليعشنَ سعادة الأمومة. كل ذلك بسبب هذا التصور الخاطئ الجاهلي فأين هذه التصورات من مبادئ القرآن: [خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء]( النساء: 1)، ومن تعاليم رسول الله (’): (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه)([44])، وإذا كان لهم شرف بانتسابهم لرسول الله (’) فإن شرف رسول الله (’) بانتسابه للإسلام ولطاعة الله تعالى، وليس لأنه محمد بن عبد الله قال تعالى: [لَئِنْ أَشرَكتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ]( الزمر: 65)، [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ]( الحاقة: 44 – 47)، ويقول هو (’): (ولو عصيت لهويتُ)([45]) فما قيمة هؤلاء الذين يتاجرون باسمه (’) وهم يخالفون شريعته؟
ومن معالمها اختلاف القيم والموازين التي يتفاضل بها البشر من إلهية حقيقية إلى شيطانية وهمية، فالقرآن يصرح: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( الحجرات: 13)،[قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ]( يونس: 58) بينما الجاهلية تتفاضل بالمال والجاه وكثرة الولد[أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ]( التكاثر: 1-2)، [وَقَالُوا نَحْنُ أكثر أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ]( سبأ: 35)، وهذه الأمور من الوضوح بحيث لا أحتاج إلى ذكر أمثلة، والآيتان التاليتان توضحان هذه المقارنة الصارخة بين المقاييس: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ](آل عمران: 14 – 15). ويقول تعالى: [وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ] (سبأ: 37).
ومن الخصائص المشتـركة للجاهليتيــن انتشـار الرذائـل الخلقيـة
وأوضحها شرب الخمر والتطفيف في الميزان والغش والكذب واللواط قال تعالى: [وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ]( العنكبوت: 29)،[وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] (الأعراف: 85)،[وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إذا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ]( المطففين: 1-3)، بل يستهزئون من الإنسان النظيف [وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ](الأعراف: 82)، بحيث أن جعفر بن أبي طالب سجل اسمه في التأريخ على أنه ممن حرَّم على نفسه الخمر والزنا في الجاهلية، ومن رذائل أخلاقهم أن القوي يأكل الضعيف وانعدام الأخلاق والمثل الإنسانية فضلاً عن الإلهية والمهم هو المنافع الشخصية. وها هي حضارة اليوم تسحق شعوباً بكاملها وتهلك الحرث والنسل من أجل ما يسمونه (المصالح) التي هي فوق كل شيء عندهم، أما الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى والفوز في الآخرة فهذا تخلف ورجعية، قال تعالى: [وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ] (آل عمران: 154)، فهذه غايتهم وهذا هو هدفهم الذي يعيشون من اجله هل لنا من الأمر من شيء.
ومن أهم خصائص الجاهلية بل هي السبب في تحققها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا الذي حذر منه رسول الله (’): (كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له يا رسول الله ويكون ذلك؟ فقال (’): وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)([46]).
وهذا ما وصلت إليه المجتمعات اليوم والتقصير أول ما يبدأ من علماء الدين أو الربانيين على تعبير القرآن وتخاذلهم وتقاعسهم عن أداء وظيفتهم، وأوضح مصداق للربانيين هم انتم يا طلبة وفضلاء الحوزة الشريفة. قال تعالى: [وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ] (المائدة: 62 – 63)،[كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ](المائدة: 79-80).
وهذه خصيصة أخرى من خصائص المجتمع البعيد عن الإسلام وهي موالاة ومداهنة الفاسقين والذين كفروا، وعن هذا التقصير يقول أمير المؤمنين (×): (أما بعد فإنه إنما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، وأنهم لما تمادوا في المعاصي نزلت بهم العقوبات فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر واعملوا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)([47]).
وبدون القيام بهذه الفريضة لا تبقى للمؤمنيـن قيمـــة لا عنــد الله ولا عــند
رسوله بل ولا حتى عند أعدائهم، لذلك كان هناك موحدون بين قريش وهم الأحناف الذين نبذوا عبادة الأصنام وتفرغوا لعبادة الله سبحانه، لكن لم تكن لهم قيمة عند المشركين ولم يأبهوا بوجودهم لأنهم تركوا هذه الفريضة العظيمة.
بينما جعل القيام بهذه الوظيفة من صفات المجتمع المسلم بحق: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ](آل عمران: 110)،[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج: 40 – 41)،[وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ] (آل عمران: 104)،[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ](التوبة: 71)، وغيرهم كثير ولسنا هنا بصدد الاستقصاء فإن هذا البحث مبني على الإشارات فقط ومجرد فتح الباب للتفكير في هذه القضايا وكل باب ينفتح منه ألف باب بلطف الله تبارك وتعالى وسعة رحمته.
ومن معالم الجاهلية سيطرة الخرافات والأساطير، فمثلاً كانت العرب تتشاءم من صوت الغراب والبوم، والغرب اليوم يتشاءم بلا معنى من رقم (13) وانتشر يومئذ العرّافون والكهنة وراجت سوقهم، واليوم نرى إقبال الناس على قارئي الكف والرمل والأبراج والطريحة وأصحاب النور والمطوعات ونظائرها مما ينطلي على الجهلة والسذج.
ومن سمات الجاهلية الصد عن القرآن وعزل الناس عنه بشتى الطرق فقد كان النضر بن الحارث وهو ممن ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم يتعقب رسول الله (’) فإذا قام (’) من مجلس جلس إليهم النضر وتحدث لهم بتلك القصص والأخبار ثم يقول: بالله أيّنا أحسن حديثاً قصصاً أنا أو محمد؟ وكانوا يصفون القرآن بأنه أساطير الأولين أو أحاديث اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً أو حديث يفترى، أو يصفقون بصوت عال عند تلاوته (’) للقرآن ليحولوا دون سماعه، ويصف القرآن موقفهم هذا بقوله: [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ]( فصلت: 26)، وقال تعالى: [وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ]( القمر: 2)، وها هي جاهلية اليوم تصف القرآن نفس الأوصاف بأنه من كلام محمد وقد أنشأه وفق البيئة التي عاشها، وانه يمثل نبوغاً إنسانياً وليس وحياً إلهياً، وحاولوا التأليف في متناقضات القرآن ولكنهم لما عجزوا واكتسحهم القرآن وفرض وجوده عليهم عمدوا – بما أوتوا من خبث ومكر وخداع – إلى تفريغه من مضمونه وعزله عملياً عن واقع الحياة وحوّلوه إلى ما يشبه الأناشيد والأغاني التي يترنم بها المطربون ويعبر الجالسون عن طربهم بصيحات (الله الله يا شيخ) وحوّلوه إلى تعويذات يُعلقَّها على صدورهم أو في بيوتهم لا أزيد من ذلك. وهذا الأسلوب كما ترى أخطر من أسلوب النضر بن الحارث وأمثاله وأشد مكراً وأفتك أثراً.
ومن التصرفات البارزة التي يتصف بها الجاهليون: هي الجمود على التقاليد الموروثة عن السلف والتزمت في الالتزام بها وعدم الخروج عنها وإن قام الدليل والحجة على خلافها، وهذا التصرف نتيجة التحجر وعدم السلامة في التفكير وتحكيم العاطفة باعتبار أن الشيء الذي تتوالى عليه أجيال من الآباء والأجداد يكتسب قداسة يصعب اختراقها. وقد كرر القرآن هذا المعنى كثيراً بحيث نستطيع أن نفهم منه أن هذه كانت من المحن التي اشترك فيها جميع الأنبياء. قال تعالى: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ] (البقرة: 170)،[إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ] (الصافات: 69 – 70)، [قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] (الأعراف: 70)، [بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ] (الزخرف: 22 – 24)، فالآيتان الأخيرتان تدلان على أن هذه المحنة الكبيرة تواجه كل من يريد أن يحرر مجتمعه ويسعى لإصلاحه، لقوله تعالى:[وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك](الزخرف: 22-24)، وليست مختصة بالأنبياء وحدهم.
وجاهلية اليوم لا تختلف عن الجاهلية الأولى في ذلك، والشواهد عليها كثيرة وقد عانت مجتمعاتنا كثيراً من هذه (النزعة الاستصحابية) على تعبيـر أحـــد
المفكرين الحوزويين([48]).
ومن علامات الجاهلية عدم معرفة الإمام الحقيقي (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)([49]) ولا يراد بالمعرفة معرفة الاسم فقط بل معرفة المسؤولية الكاملة والتكليف التام تجاه الإمام والقيام بها حق القيام وهذا التقصير واضح منا تجاه صاحب العصر (أروحنا له الفداء) وقد وصف الدعاء المأثور هذه الجاهلية (اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك اللهم عرّفني حجّتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني)([50]) والضلال عن الدين هو عين الجاهلية.
وهذا ما يحتاج إلى بحث كامل عن لزوم وجود الإمام والحجة في كل زمان وتكليفنا في زمان الغيبة ومسؤوليتنا تجاه الإمام (×) والإجابة عن الكثير من التساؤلات والمشاكل الفكرية التي تحاط بها قضية الإمام (×) مما هو غائب عن ذهن المؤمنين به فضلاً عن غير المؤمنين به أصلاً، بينما هم (^) (باب الله الذي لا يؤتى إلا منه)([51]) فكيف يهتدي إلى الله سبحانه من لا يعرف بابه فماذا بعد الله إلا الضلال المبين.
ومن سماتها الخضوع للماديات وعدم الاعتراف بما وراء المادة وإنكار الغيب قال تعالى: [وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ] (الأنعام:29)، [وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ](الجاثية: 24)، فيأتي القرآن ليؤسس لهم أهدافاً سامية يعيشون من أجلها [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56)، [قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ] (هود:61)، [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] (يونس:14)، فالإنسان ما خلق فقط لهذه الدنيا حتى يكرس همه لها بل جعل في الأرض خليفة ليستعمرها ويجعلها حرثاً لآخرته وخالقه يحصى عليه أعماله لينظر كيف يعمل، ويأتي التوبيخ الإلهي لمثل هذا الإنسان الغارق في الماديات [أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى](القيامة: 36 – 40)، بلى سبحانك اللهم أنت قادر على ذلك وعلى كل شيء، نعم، لكن هذا لا يمنع من أن يأخذ نصيبه من الدنيا من دون أن يجعله هدفا وغاية وإنما يوظفه لخدمة الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ](القصص: 77)، فليس النقص والخلل في حيازة الدنيا لذا قيل: (الدنيا مزرعة الآخرة)([52]) وفي حديث آخر: (الدنيا متجر أولياء الله)([53]) ففيها يتاجرون مع الله تجارة لن تبور.
ومن سمات الجاهلية التشتت والتفرق والتمزق، قال تعالى: [وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](الروم:31-32)، وكل ذلك بسبب تضييعهم للمحور الواحد الذي يجب أن يجتمعوا حوله وهو توحيد الله تبارك وتعالى، وجعلت الكعبة المشرفة رمزاً له، لكن المجتمع البعيد عن الله يتمزق دولاً وبلداناً أولاً، حتى وصل عدد دول العالم اليوم أزيد من (180) دولة ويتمزق أجناساً ويتفرق قوميات حتى داخل البلد الواحد ويتمزق فكرياً فهذا شيوعي وهذا رأسمالي وهم أبناء بلد واحد وقومية واحدة ودين واحد ويتمزقون آيديولوجيا حتى داخل الدين الواحد بل داخل المذهب الواحد وكل طائفة تنقسم على نفسها فرقاً وهكذا: [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](المؤمنون: 53)، وقد نبه القرآن إلى أن هذا التفرق هو إحدى عقوبات الابتعاد عن المنهج الإلهي: قال تعالى:[قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] (الأنعام: 65)، وجاء الإسلام ليوحدهم بهذا القرآن قال تعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ](آل عمران: 103)، [وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فإن حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (الأنفال: 62 – 63).
ومن سمات الجاهلية الواضحة الرعب من الموت ومن كل ما يوحي به أو يشير إليه وذلك لأنهم خسروا الآخرة وجعلوا غاية همهم إشباع شهواتهم وأطماعهم [قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] (البقرة: 94 – 96)، [قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ](الجمعة: 6-7)،[فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ]( الأحزاب: 19)، لكن القرآن يقرر لهم حقيقة دامغة لا مفر منها [قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (الجمعة: 8)،[قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً] (الأحزاب: 16)،[أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ] (النساء: 78)، [قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ] ([215])، فالخوف من الموت لا يكون إلا بالاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح وإعمار الآخرة بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه.
([1] ) سلسلة محاضرات ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف) بمناسبة حلول العام الدراسي الجديد على طلبة الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشـرف بدأت بتأريخ السبت 19/محرم /1422هـ الموافق 14/4/2001م. وصدرت في حينها بكتاب مستقل عنوانه (شكوى القرآن) لقي رواجاً كبيراً ولا يزال يعاد طبعه.
([2]) الكافي: كتاب فضل القرآن، باب قراءة القرآن في المصحف، ح3. الخصال: 1/ 142 أبواب الثلاثة.
([3]) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 5، حديث2.
([4]) روي في كتب العامة والخاصة، وللمزيد راجع كتاب (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي.
([5]) استقرأت عدداً من العينات العشوائية وكانوا من الطلبة المتقدّمين للقبول في الحوزة الشريفة لاستبيان علاقتهم بالقرآن والمفروض أنهم يمثلون درجة من الوعي والإيمان الذي دفعهم لاختيار هذا المسلك فوجدت أن بعضهم لم يختم القرآن ولا مرة وآخر -وهو متصدي للمنبر – ختمه مرتين في حياته والكثير منهم يقرآ سوراً متفرقة في المناسبات والمواسم الدينية هذا على صعيد تلاوته أما فهمه واستيعاب معانيه والتأمل في مفاهيمه ومضامينه فالجهل هنا مطبق.
([6]) معاني الأخبار: الشيخ الصدوق، ص228.
([7]) بحار الأنوار: 92/102.
([8]) نهج البلاغة: الخطبة 125.
([9]) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، باب7، حديث 7.
([10]) الخصال: 142.
([11]) إرشاد القلوب: 79.
([12]) بحار الأنوار: 24/13، باب: أنهم ^ السبيل والصراط وهم وشيعتهم.
([13]) الميزان في تفسير القرآن: ج3 في البحث الروائي للآيات 28-32 من سورة آل عمران، نقله عن أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة وابن حبّان وغيرهم من رواة العامة.
([14]) الميزان في تفسير القرآن: ج5/ بحث تأريخي في ذيل الآيات 15-19 من سورة المائدة.
([15]) بحار الأنوار: 2/245.
([16]) كشف الغمة: 2/110.
([17]) وقد أكدت على هذه النقطة لانخداع كثير من السذج بهذه الدعوى وراحوا يصدقونهم بعدم الإيمان بشيء إلا إذا وجد دليل عليه من القرآن وإسقاط الاستدلال بالسنة من الحساب.
([18]) بحار الأنوار: 42/256.
([19]) الخصال: أبواب الأربعين، حديث 19.
([20]) عوالي اللآلي: 4/116.
([21]) الكافي: 2/299.
([22]) نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 1 / 347 . الخطبة (177) وأولها: (انتفعوا ببيان الله واتعظوا بمواعظ الله).
([23]) الكافي: 2/602.
([24]) الكافي: 2/609.
([25]) سنن الدارمي:2/435، كتاب فضائل القرآن، ومثله في كتب الخاصة.
([26]) ذكره في الميزان عن بعض المصادر:ج3، في تفسير الآيات 7-9 من آل عمران.
([27]) الكافي: 2/604.
([28]) شكّل هذا الإلزام حافزاً قوياً لدى الكثيرين للعمل به، جزاهم الله خير جزاء المحسنين.
([29]) الخصال: 2/542 باب (الأربعون).
([30]) الميزان: ج10/في تفسير الآيات من 57-70 من سورة يونس، والمقصود في المتن الآية 57 وهو قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ] .
([31]) وأنت ترى ذلك في السور المكية التي نزلت أولاً كالمدثر والمزمل فإنها ذات إيقاعات سريعة تستعمل حروفاً قوية فيكون تأثيرها بما يشبه الصعقة الكهربائية التي تستعمل لإيقاظ الغافل كما أن مضامينها يتركز على التذكير بالآخرة والموت وأهوال القيامة وعاقبة المكذبين وبيان سنن الله تعالى في الأمم ونحوها من الصعقات.
([32]) من لا يحضره الفقيه: 4/410.
([33]) الكافي: 2/609، باب في قراءته (قراءة القرآن)، ح1.
([34]) الخصال: أبواب الاثنين، حديث 12.
([35]) وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة (وقد تقدم في هذا المجلد).
([36]) تقدم ذكره.
([37]) لذا ورد في الخبر أنه (×) يأتي بإسلام جديد وقرآن جديد وهي لا تعني دلالتها المطابقية لأنه (×) لا يخرج عن دائرة إسلام وقرآن جده (’) وإنما يراد به أنه ينفض الغبار عن القرآن ويزيل عنه ركام السنين ويعيده إلى الحياة من جديد.
([38] ) صدر الكتاب يومئذ بعنوان (شكوى الإمام ×) وجمع مع هذا الكتاب و(شكوى المسجد) في كتاب عنوانه (ثلاثة يشكون).
([39]) الكافي: 1/53، باب (التقليد) حديث 1.
وهذا المصطلح القرآني المهم (العبادة) يحتاج إلى إشباع لعدم وضوحه في أذهان المجتمع فيظنون أن العبادة هي الصلاة أو السجود وليست هي الطاعة لذا لا يجدون قدحاً في دينهم أن يصلوا ويصوموا لله لكن معاملاتهم وسلوكياتهم في الحياة تكون بغير ما أنزل الله وهو معنى خطير يجب إزالة الشبهة عنه لذا ورد عن الإمام الجواد (×) قوله: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان هذا الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس . . .) (تحف العقول: صفحة 336).
([40] ) الكافي: ج7 ص407.
([41]) الرسائل العشرة: الشيخ الطوسي، صفحة 317.
([42]) كامل الزيارات: صفحة 201.
([43]) بحار الأنوار: 76 / 136.
([44]) وسائل الشيعة: كتاب النكاح: أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 28، حديث1.
([45]) بحار الأنوار: 22 / 467.
([46]) الكافي: 5/59، باب: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
([47]) نهج البلاغة: الخطبة (27).
([48] ) والمقصود به هو السيد الشهيد محمد باقر الصدر + ولم يكن سماحة الشيخ يصرّح به جهاراً حيث ألقيت هذه المحاضرات أيام البطش الصدامي ما قبل سنة 2003 حيث كان التصريح والتلميح تهمة كافية لإعدام صاحبها، إلا أن سماحة الشيخ كان يخلل أفكاره ببعض طروحاته ونظرياته & ويتمثل له ويعيش أفكاره ويشير اليه بطريق خفي في الوقت الذي تخلت الكثير من الجهات الدينية عن خط الحماسة والوعي الإسلامي، بل إن السلطات الصدامية أخذت ترفع التقارير المتتالية عن حركة الشيخ الدينية حتّى وصفته بعض التقارير الأمنية والتي عُثر عليها بعد سقوط النظام البعثي بأنّ حركته وخطّته شبيهة بحركة باقر الصدر في الشباب.
([49]) كمال الدين وتمام النعمة: 409.
([50]) الكافي: 1/337.
([51]) الكافي: 1/196.
([52]) عوالي اللآلي: 1 / 267.
([53]) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 15/203.