إن الإنسان حينما يسير وفق هذه الرؤية ويتبع هذا المنهج من التفكير يحصل على ثمرات عديدة، منها القرب إلى الله تعالى، وراحة البال، والسعادة([4]) وحسن الذكر عند الناس مضافا الى شيء مهم يحسُن الالتفات اليه وهو انه ستتجاوب معه كل عناصر الخير في الكون لأنه محكوم بسنن الهية ثابتة فمن اخذ بها نال كل خيراتها وبركاتها، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف : 96].
منحديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من الطلبة الجامعيين الذي أقاموا العشر الأواخر من شهر رمضان في النجف الأشرف ضمن برامج عبادي توعوي، والتقاهم سماحته يوم الاثنين 27/رمضان/1434هـ الموافق 5/8/2013.وكان عنوان الكلمة
تعاملوا في حياتكم بإيجابية (1)
قال الله تبارك وتعالى مخاطبا نبيه الكريم (9){وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107] وقال تعالى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] والكوثر تعني الخير الكثير، وقال تعالى على لسان زكريا في دعائه لطلب الولد {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم : 6] وقال على لسان عيسى بن مريم {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم : 31] أي كثير البركة و العطاء، ونحو ذلك من الآيات التي ضمت مجموعة من صفات الإنسان الصالح ويجمعها الوصف الذي نطلقه على المؤمن بانه (خَيِّر) وهي من صيغ المبالغة أي لا ترى منه إلا الخير، لذا وصفته بعض الاحاديث الشريفة بانه (الخير منه مأمول والشر منه مأمون).
ووردت احاديث كثيرة تدعوا إلى ان يكون الأنسان مصدر خير وعطاء وعنصرا مثمرا في المجتمع كالاحاديث التي تحث على السعي في قضاء حوائج الناس ومساعدتهم وإدخال السرور([2]) عليهم ورفع الأذى عنهم وفعل المعروف لجميع الناس بغضّ النظر عن الدين أو القومية أو النسب ونحو ذلك وتذكر لهذه الأعمال الإنسانية الصالحة ثوابا عظيما يفوق اكثر العبادات أهمية.
وأكمل الشارع المقدس هذه الصورة الحسنة لسلوك المؤمن فطالبهُ بالعفو والصفح عن إساءة الآخرين، قال تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور : 22] وامر بنسيان إساءة الآخرين وكأنها لم تقع وان يبقى دائما يتذكر إحسان الآخرين اليه بل دعا الى مقابلة السيئة بالحسنة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34] ، كما امر بان يكون على عكس ذلك في العلاقة مع نفسه، وذلك بان يتذكر دائماً أساءته للآخرين حتى يكون رادعا عن تكرارها، وان ينسى إحسانه للآخرين حتى لا يحصل عنده شعور بالعجب والمنّ و التفضّل عليهم فيمنعه ذلك من الاستمرار في فعل المعروف، ففي الحديث الشريف (انسى اثنين : إحسانك إلى الغير وإساءة الغير اليك، واذكر اثنين: أساءتك إلى الغير وإحسان الغير اليك)
وطلب الشارع المقدس أن تختار الأحسن والأفضل للآخرين عندما تكون بين خيارين أو بين موقفين أو سلوكين فأمر بان تحمل فعل أو قول أخيك على سبعين محملاً حسنا، وان كان ظاهره السوء، لكنه مادام يحتمل أن يكون حسناً فلا تقصّر في الأخذ بهذا الاحتمال ، حتى وان تجاوزت السبعين احتمالا، وهو رقم يقال للتعبير عن الكثرة فلا يمنع من الأزيد .
وان يكون هذا هو منهج حياتك بان تفتش عن أحسن ما عند الآخرين فتنظر اليه على أساسه، وان تفتش عن أسوء ما في نفسك فتُقيّمها على أساسه لتكون بين هذا وذلك أنسانا صالحا يسعى نحو الكمال ويحب الخير للناس .
روي أن أخوة يوسف الصديق (عليه السلام) لما تعارفوا معه واعترفوا بجريمتهم تملكهم الحياء مما صنعوا به لكنه خففّ عليهم واعتبرهم أصحاب فضل عليه لانهم عرفّوه الى أهل مصر انه ابن الأنبياء الكرام وكان يُنظر اليه على انه عبد كنعاني أُشتريَ من سوق النخّاسين، فهل يوجد سمو في التعاطي مع الأمور مثل هذا ؟
فيما روي من مواعظ النبي الكريم عيسى (عليه السلام) انه مرَّ هو وأصحابه على جيفة كلب ميت فقال بعضهم ما انتن ريحه وقال الآخر ما اقبح منظره وهكذا، لكن النبي الكريم المتأدب بخلق الله تعالى قال ( ما اشَّد بياض أسنانه)([3]).
إن الإنسان حينما يسير وفق هذه الرؤية ويتبع هذا المنهج من التفكير يحصل على ثمرات عديدة، منها القرب إلى الله تعالى، وراحة البال، والسعادة([4]) وحسن الذكر عند الناس مضافا الى شيء مهم يحسُن الالتفات اليه وهو انه ستتجاوب معه كل عناصر الخير في الكون لأنه محكوم بسنن الهية ثابتة فمن اخذ بها نال كل خيراتها وبركاتها، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف : 96].
وبذلك يكون قوله تعالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم : 7] على القاعدة الطبيعية- كما يقال – وليس بالجعل التشريعي لزيادة النعم مقابل الشكر، وإنما هي حالة تكوينية طبيعية فان الإنسان الشاكر يكون جزءا منسجماً مع الكون فيحظى ببركات القوانين الإلهية التي تنظم حركة الكون .
وهذا ما يعترف به غير الموحدين أيضا فانهم يقولون إن الإنسان يجب أن يكون ممتنا شاكرا للكون – بحسب تعبيرهم لانهم لا يعتقدون بوجود الله سبحانه – على نعمه لكي يحصل الإنسان على المزيد من النعم وغيرها مما تستحق أن يسعى اليها الإنسان.
هذا المنهج والسلوك الذي أسس له الشارع المقدّس اصبح اليوم من اهم قضايا علم الاجتماع والتنمية البشرية التي يهتم بها العالم المتحضر فتؤلف الكتب وتعقد الندوات وتقدّم البرامج التلفزيونية التي تتحدث عن (( أهمية التفكير الإيجابي )) وتوصلوا فيها إلى جملة من النتائج التي بيّنها الشارع المقدس .
ونُقل لي أنّ من الكتب الواسعة الانتشار في هذا المجال كتاب (السر) ومما جاء فيه (( إن للأفكار قوة مغناطيسية ولها تردد وعندها قدرة على الأرسال و الاستقبال مثل الموجات الكهرومغناطيسية ويتم أرسال الأفكار هذه إلى الكون فتنجذب لها مغناطيسياً كل الأشياء التي تشبهها ثم ترجع ثانياً إلى المصدر الذي هو نفس الشخص، وان الإنسان اذا كان إيجابيا فانه يجذب كل خير اليه)).
إن الشارع المقدس علَّم الإنسان أن يكون تفكيره إيجابيا في كل حالاته حتى عندما يشتد عليه البلاء من خلال إعطائه ثقافة إيجابية توجه سلوكه فانه وعده بالأجر العظيم اذا صبر واحتسب وأن هذا البلاء كفارة لذنوبه التي اجترحها وبذلك يكون فرصة للإنسان حتى يراجع نفسه ويحاسبها ويصلح أخطاءه، ووعده بالفرج وزوال البلاء مع ثبات الأجر، { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [البقرة : 155، 156]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق : 2، 3] وبذلك يكون الإنسان سعيداً وهو في اشدَّ حالات البلاء كالذي مرّ به الأنبياء و الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين .
خذ مثلاً ما جرى في واقعة كربلاء التي مثلّت اشرس جريمة عبر التاريخ لكن أصحاب الأمام الحسين (عليه السلام) كانوا فرحين سعداء لانهم نظروا إلى صورتها الأخرى المتمثلة فيما اعدَّ لهم من الكرامة والمقام المحمود عنده تبارك وتعالى والبركات العظيمة التي تثمرها إلى نهاية الدنيا.
وحينما حاول ابن زياد أن يظهر حقده وسمومه على عقائل النبوة وخاطب العقيلة زينب شامتاً (أرايت صنع الله بأخيك والعتاة المردة من أهل بيتك) قالت (ع) (ما رأيت إلا جميلاً أولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يأبن مرجانة ) فوصفت ما حصل بانه جميل .
والإمام الكاظم (عليه السلام) في قعر السجون المظلمة والتعذيب وقيود الحديد لكنه كان يرى الجانب الآخر من الصورة ويقول في مناجاته (الهي طالما سألتك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت فلك الحمد) .
وهكذا النبي الكريم يوسف (عليه السلام) يقول {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [يوسف : 33] فالسجن مع عذابه ومشقته وضيقه يرى (عليه السلام) فيه الصورة الأخرى وهي نجاته من مكائد النسوة وفخوخ الشيطان لإيقاعه في معصية الله تعالى والأمثلة كثيرة .
أما من يتعامل مع الأمور و الأحداث بسلبية فانه يكون في شقاء وتعاسة ويكون عيشه منكدا ونحو الأسوأ من دون ان يغيِّر في الواقع شيئاً لان الأحداث جارية شاء أم أبى عن أمير المؤمنين عليه (عليه السلام) قال ( إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت ماجور، وان جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور)([5])
حكي إن مكتشف الكهرباء اجرى 2000 تجربة على نماذج المصباح الكهربائي قبل أن يصل إلى مراده فسخروا منه وانك أتعبت نفسك وخسرت الكثير في أجراء هذه التجارب الفاشلة فقال : ليس الأمر كذلك فقد استفدت معلومة وهي أن هذه الألفي طريقة للعمل غير منتجة.
تقول احدى النساء أنها كانت أما لطفلين ثم حصلت مشاكل مع زوجها وانفصلت عنه وكانت تشعر بضيق وحزن ومتعبة نفسيا وغاضبة على زوجها لأنه تركها وترك مسؤولية إعالة الأطفال على عاتقها حيث كانت مسؤولة عن دفع إيجار المنزل وفواتير الكهرباء والماء وغيرها وكانت الديون تتراكم عليها فبسبب كل تلك الضغوط كانت تشعر بالحقد والكره الشديد تجاه زوجها وبسبب الضغوط النفسية اصبح ذلك يؤثر على عملها فكانت ترتكب أخطاء في العمل وتتأخر في إنجاز ما هو مطلوب منها في العمل لأنها محطمة ولا تستطيع العمل بكفاءة عالية لإنجاز الأعمال المطلوب منها في وظيفتها ولكنها عندما قرات كتاب السر بدأت تغير طريقة تفكيرها وبدأت تنظر إلى الجوانب الإيجابية الموجودة في حياتها حيث قالت إن الجانب الإيجابي الذي أستفدته من زواجي هو الحصول على طفلين جميلين وانها سعيدة بهم وبوجودهم بحياتها ولا تتحمل فكره فقدانهم أو عدم وجودهم بحياتها فعندما بدأت تركز على الأمور الإيجابية والنعم الموجودة عندها في حياتها أصبحت اكثر راحة وأصبحت ممتنة لله وشاكرة لله على النعم الذي انعمها عليها وأصبحت مشاعرها إيجابية وبالتالي تركيزها وكفاءتها في عملها اصبح افضل وإنتاجها في العمل اصبح اكثر وبالتالي بداء راتبها يزداد وبدأت تستطيع تسديد الفواتير ….
ولكي يكون الإنسان معطاءاً محّبا للخير صبوراً عند الشدائد متفائلا عليه ان يصلح عقائده وتصوراته ونظرته للحياة أولا لأنها هي التي توجّه سلوكه، لذا ينبغي ان يلتفت إلى أمور:
1-إن كل ما حوله هو خلق الله وان الناس عيال الله تعالى ، عن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الخلقُ كُلُّهم عِيالُ الله عزَّ وجلَّ، فأَحَبُّ خلقِه إليه أنفعُهم لعِيالِه ))([6]) وفي دعاء الإمام السجاد(عليه السلام) برواية أبي حمزة الثمالي ( والخلق كلهم عيالك) فلابد أن يكون كريماً معهم رحيماً بهم محبّا لهم مهما كانوا.
2-إن ما يجري هو بقضاء الله وقدره {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 51] وما دام الله مولانا وهو الذي يتولى أمورنا فلا يختار لنا إلا خيرا ولكننا قد لا نفهم ذلك {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة : 216] فلابد من التسليم له و الرضا به لان الاعتراض و السخط له عواقب وخيمة في الدنيا و الآخرة.
3-إن الله تعالى يقول (انا عند ظن عبدي بي ان ظن خيرا فله، وان ظن شراً فله)([7]) فمن يكون ظنه حسناً ويبحث عن الأمور الحسنة في الحياة فانه سيتحقق له ذلك بأذن الله تعالى
4-إن الدنيا زائلة ولا يستحق أي شيء فيها أن يكون محط الاهتمام إلا ما يقرّب إلى الله تعالى وينفع في الآخرة
5-إن من ينظر إلى الجوانب الإيجابية الحسنة للأمور وان لم تكن كذلك حقيقة يكون سعيدا مرتاح البال وكفى بذلك ثمرة طيبة فالسعادة ليست في تحقيق كل ما تتمنى وتريد بل في كونك في طريق الوصول اليها وفي أجواء العمل من اجل تحقيقها.
6- أما من ينظر إلى الأمور بسلبية فانه يكون في تعاسة وشقاء من دون أن يتغير حاله إلى الأفضل بل إلى الأسوأ.
([1]) حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من الطلبة الجامعيين الذي أقاموا العشر الأواخر من شهر رمضان في النجف الأشرف ضمن برامج عبادي توعوي، والتقاهم سماحته يوم الاثنين 27/رمضان/1434هـ الموافق 5/8/2013.
([2]) اذكر حديثا واحدا عن أمير المؤمنين (ع) قال: (فوالذي وسع سمعه الأصوات ، ما من احد أودع قلبا سرورا ألا وخلق الله له من ذلك السرور لطفا، فاذا نزلت به نائبة جرى اليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه ، كما تطرد غريبة الابل ) (نهج البلاغة/ الحكمة 257)
([3]) حلية الأولياء لابي نعيم الأصبهاني
([4]) واذكر حديثاً واحداً في ذلك باختصار وهو قول أمير المؤمنين (ع) ( السرور يبُسُط النفس ويثير النشاط، الغمّ يقبِضُ النفس ويطوي الانبساط) (غرر الحكم:2203و2024)
([5]) ميزان الحكمة : 5/26
([6]) أخرجه البزار (2/398/ح1949 ـ كشف الأستار ـ و البيهقي في شعب الايمان (6/6/42-43 ح 7446-7447)
([7]) الترغيب والترهيب – صفحة او الرقم :4/215