الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، هو سابع أئمة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتاسع من أعلام الهداية الذي جسد الكمالات النبوية في العلم والهداية والعمل والتربية، وتوسعت بجهوده العلمية الجبارة مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وأتضحت معالمها وأيعنت ثمارها، ولازلنا نتفيّأ ظلالها حتى عصرنا هذا.
1) التخطيط لسجن الإمام عليه السلام:
لسنا الآن بصدد التعرض الى تفاصيل أسباب سجن الإمام من قبل الرشيد. لأن سلوك الإمام وتأثيره في الاُمة كما عرفت كان كافياً لأن يدفع بالرشيد الذي لا يتبنى حكمه على اُصول مشروعة ليخطط لسجن الإمام عليه السلام وبالتالي اغتياله، هذا فضلا عن كون الرشيد قد قطع على نفسه بداية تسلّمه للحكم بأن سوف يستأصل الوجود العلوي فإذا كان هذا شعاره أول الأمر مع كل العلويين فكيف بزعيم العلويين وقائدهم وسيدهم.
وينبغي أن نفرق بين الاسباب الواقعية وبين الاسباب التي كان يتذرع بها الرشيد لتبرير سلوكه العدائي مع الإمام عليه السلام.
لقد أصبح الإمام بعد عقد من حكم الرشيد وجوداً ثقيلا على هارون لقوة تأثيره في الاُمة واتساع الامتداد الشيعي حتى وجدناه يقدر المتطوعين في جيش الإمام بمائة ألف سيف. من هنا ضاق صدره وازعجه انتشار صيت الإمام لأن الناس غدت تتناقل مآثر الإمام وعلمه وأخلاقه.
وكانت حادثة زيارة هارون لقبر الرسول صلى الله عليه وآله ولقاء الإمام به بحيث أغضب الرشيد حتى قال بعدها مخاطباً الرسول صلى الله عليه وآله: “بأبي أنت واُمي إني أعتذر اليك من أمر عزمت عليه، انّي اُريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لأني قد خشيت أن يلقي بين اُمتك حرباً يسفك بها دماءهم”.
وكان للوشاة دورٌ سلبي ضد الإمام عليه السلام فلقد تحرك يحيى بن خالد قبل ذلك ليهيئ مقدمات الاعتقال للإمام فأغرى ابن أخ الإمام محمد بن اسماعيل أو علي بن اسماعيل لغرض الوشاية بالإمام.
لنلاحظ موقف الإمام السامي ازاء تصرف ابن أخيه الشنيع بعد أن استجاب محمد لاغراء يحيى والتقى بالطاغية في بغداد وطعن بالإمام عليه السلام بما يرغب به الرشيد.
عن علي بن جعفر بن محمد عليه السلام قال: جاءني محمد بن اسماعيل بن جعفر يسألني أن أسأل أبا الحسن موسى عليه السلام أن يأذن له في الخروج الى العراق وأن يرضى عنه، ويوصيه بوصية.
قال: فتنحيت حتى دخل المتوضأ وخرج وهو وقت يتهيأ لي أن أخلو به وأكلّمه.
قال: فلما خرج قلت له: إنّ ابن أخيك محمد بن اسماعيل سألك أن تأذن له بالخروج الى العراق، وأن توصيه، فأذن له عليه السلام.
فلمّا رجع الى مجلسه قام محمد بن اسماعيل وقال: يا عمّ أحب أن توصيني.
فقال عليه السلام: أوصيك أن تتقي الله في دمي.
فقال: لعن الله من يسعى في دمك ثم قال: يا عم أوصني فقال عليه السلام: أوصيك أن تتقي الله في دمي.
قال: ثمّ ناوله أبو الحسن صرة فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها محمد، ثم ناوله اُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أعطاه صرة أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده.
فقلت له في ذلك، واستكثرته. فقال: هذا ليكون أوكد لحجتي إذا قطعني ووصلته.
قال: فخرج الى العراق، فلما ورد حضرة هارون أتى باب هارون بثياب طريقه من قبل أن ينزل، واستأذن على هارون، وقال للحاجب: قل لأمير المؤمنين انّ محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد بالباب.
فقال الحاجب: انزل أولا وغيّر ثياب طريقك وعُد لادخلك عليه بغير إذن، فقد نام أمير المؤمنين في هذا الوقت. فقال: أعلم أمير المؤمنين أني حضرت ولم تأذن لي.
فدخل الحاجب وأعلم هارون قول محمد بن اسماعيل، فأمر بدخوله، فدخل وقال: يا أمير المؤمنين خليفتان في الأرض: موسى بن جعفر بالمدينة يُجبى له الخراج، وأنت بالعراق يُجبى لك الخراج؟! فقال: والله؟! فقال: والله!
قال: فأمر له بمائة ألف درهم فلما قبضها وحُمل الى منزله، أخذته الذبحة في جوف ليلته فمات، وحوّل من الغد المال الذي حُمل اليه.
هذه هي بعض الأساليب التي كان قد خطط لها يحيى بايعاز من الرشيد.
وأخيراً تم اعتقال الإمام عليه السلام بسرعة واخفاء وتعمية على الاُمة لئلا تعرف محل سجن الإمام عليه السلام.
2) اعتقال الإمام عليه السلام:
وبعد زيارة الرشيد لقبر الرسول صلى الله عليه وآله ولقائه بالإمام عليه السلام أمر الطاغية هارون باعتقال الإمام عليه السلام وفعلا اُلقي القبض على الإمام وهو قائم يصلي عند رأس جدّه النبي صلى الله عليه وآله ولم يمهلوه لإتمامها.
فحمل وقيّد فشكى الإمام لجدّه الرسول صلى الله عليه وآله قائلا: “اليك أشكو يا رسول الله” وبعد اعتقال الإمام غدت الناس تتحدث فيما بينها باستنكار هذا الحدث المهم، فتألمت الاُمة كثيراً فلم يبق قلب الاّ وتصدّع من الأسى والحزن فخافت السلطات أن يكون اعتقال الإمام محفزاً للثورة عليها.فحمل جملين، واحداً الى البصرة والثاني الى الكوفة لغرض الايهام على الناس، أي: لئلاّ يعرف محل حمل الإمام في أيّهما.
3) الإمام عليه السلام في سجن البصرة:
كان المأمور بحراسة الإمام عليه السلام أثناء الطريق من المدينة الى البصرة حسان السروي وقبل أن يصل الى البصرة تشرّف بالمثول بين يديه عبدالله ابن مرحوم الازدي فدفع له الإمام كتباً وأمره بايصالها الى وليّ عهده الإمام الرضا وعرّفه بأنه الإمام من بعده وسارت القافلة تطوي البيداء حتى وصلت البصرة، وأخذ حسّان الإمام ودفعه الى عيسى بن أبي جعفر فحبسه في بيت من بيوت المحبس وأقفل عليه أبواب السجن فكان لا يفتحها الاّ في حالتين: احداهما في خروجه للطهور، والاُخرى لادخال الطعام له عليه السلام .
4) نشاطه عليه السلام في داخل السجن:
فلقد انقطع عليه السلام الى الله في عبادته فكان يصوم النهار ويقوم الليل وكان يقضي وقته في الصلاة والسجود والدعاء، ولم يضجر ولم يسأم من السجن واعتبر التفرّغ للعبادة من أعظم النعم، وكان يقول في دعائه:”اللهم انك تعلم اني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد.ولمّا شاع خبر اعتقال الإمام في البصرة وعلم الناس بمكانه هبّت اليه العلماء وغيرهم لغرض الاتّصال به من طريق خفيّ فاتصل به ياسين الزيات الضرير البصري وروى عنه.
5) دعاء الإمام عليه السلام واطلاق سراحه:
ولمّا طالت مدة الحبس على الإمام عليه السلام وهو رهين السجون، قام في غلس الليل البهيم فجدّد طهوره وصلى لربه أربع ركعات وأخذ يدعو بهذا الدعاء:”يا سيدي: نجّني من حبس هارون، وخلّصني من يده، يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين، ويا مخلّص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم، ويامخلّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويامخلّص الروح من بيت الاحشاء والامعاء، خلصني من يد هارون”.
واستجاب الله دعاء العبد الصالح فأنقذه من سجن الطاغية هارون وأطلقه في غلس الليل.
لقد مكث الإمام عليه السلام في سجن الفضل مدة طويلة من الزمن لم يعيّنها لنا التاريخ.
وبقي عليه السلام بعد إطلاق سراحه في بغداد لم يخرج منها الى يثرب وكان يدخل على الرشيد في كل اسبوع مرة يوم الخميس.
6) الاعتقال الثاني للإمام عليه السلام:
ولمّا شاع ذكر الإمام عليه السلام وانتشرت فضائله ومآثره في بغداد، ضاق الرشيد من ذلك ذرعاً، وخاف منه فاعتقله ثانية فاودعه في بيت الفضل بن يحيى.ولمارأى الفضل عبادة الإمام عليه السلام واقباله على الله وانشغاله بذكره أكبر الإمام، ولم يضيّق عليه وكان في كل يوم يبعث اليه بمائدة فاخرة من الطعام، وقد رأى عليه السلام من السعة في سجن الفضل ما لم يرها في بقية السجون.
ولمّا أوعز الرشيد للفضل باغتيال الإمام عليه السلام امتنع ولم يجبه الى ذلك وخاف من الله لأنه كان ممّن يذهب الى الإمامة ويدين بها، وهذا هو الذي سبب تنكيل الرشيد بالفضل واتهام البرامكة بالتشيع.
7) تشييع الإمام عليه السلام ودفنه:
وبعد الغسل هرعت جماهير بغداد الى تشييع الإمام فكان يوماً مشهوداً لم تر مثله في أيّامها فقد خرج البر والفاجر لتشييع جثمان الإمام عليه السلام والفوز بحمل جثمانه، وسارت المواكب وهي تجوب شوارع بغداد وتردد أهازيج الحزن واللوعة، متّجهة نحو باب التبن يتقدمهم سليمان حافياً حاسراً متسلّباً مشقوق الجيب الى مقابر قريش، وحفر له قبر فيها وأنزله سليمان بن أبي جعفر.
وبعد الفراغ من الدفن أقبلت الناس تعزّيه بالمصاب الأليم1.
8) المصادر:
1-موسوعة اعلام الهداية سيرة الامام الكاظم.