يقول كثير من علماء الأخلاق، إنّ الخطوة الاُولى لتهذيب الأخلاق والسّير إلى الله، هي “التّوبة”، التّوبة التي تمحو الذّنوب من القلب وتبيّض صفحته وتجعله يتحرك في دائرة النور، وتنقله من دائرة الظّلمة، وتخفف ثقل الذّنوب من خزينته النّفساني، ورصيده الباطني، وتمهّد الطّريق للسّير والسّلوك إلى الله تعالى، في خط الإيمان وتهذيب النّفس.
(فإنّ التّوبة من الذنوب، والرّجوع إلى ستار العُيوب وعلاّم الغيوب، مبدأ طريق السّالكين، ورأس مال الفائزين، وأوّل إقدام المريدين، ومفتاح استقامة المائلين ومطلع الاصطفاء والاجتباء للمقرّبين!).
فالتوبة هي أنّ أغلب بني آدم يتورطون غالباً بالمعاصي، وهي التي هي في الواقع، من ترك الأولى)، وتوبته منها، “وما أجدر بالأولاد الإقتداء بالآباء والأجداد، فلا غرو إن أذنب الآدمي وإجترم، فهي شنشنةٌ يعرفها من أخزم، ومن أشبه أباه، فما ظَلم، ولكنّ الأب إذا جبر بعد كسر، وعمّر بعد أن هدم، فليكن النزوع إليه في كلا طرفي، النّفي والإثبات والوجود والعدم، ولقد قلع آدم سنّ النّدم، وتندّم على ما سبق منه وتقدّم، فمن إتّخذه قدوةً في الذنب دون التّوبة فقد زلّت به القدم، بل التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقرّبين، والتجرُّد للشرّ دون التّلافي، سجيّة الشّياطين، والرّجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشرّ ضرورة الآدميين، فالمتجرّد للخير ملك مقرّب، عند الملك الدّيان، والمتجرّد للشرّ شيطان، والمتلافي للشرّ بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان.
والمصرّ على الطّغيان، مسجّل على نفسه بنسب الشّيطان، فأمّا تصحيح النّسب بالتجرّد لمحض الخير إلى الملائكة، فخارج عن حيّز الإمكان، فإنّ الشرّ معجون مع الخير، في طينة آدم، عجناً محكماً لا يخلّصه إلاّ إلى إحدى النارين: نار الندم أو نار جهنم”1
أو بعبارة اُخرى: إنّ الإنسان غالباً ما يُخطيء، وخصوصاً في بداية سيره إلى الله تعالى، فإذا ما وجد أنّ أبواب العودة موصدةٌ في وجهه، فسيورثه اليأس الكامل، ويبقى يُرواح في مكانه، ولذلك فإنّ التّوبة تعتبر من الاُصول المهمّة في الإسلام، فهي تدعو كلَّ المذنبين إلى العمل لإصلاح أنفسهم، والدّخول في دائرة الرّحمة الإلهيّة، والسّعي لجبران ما مضى.
وقد بيّن الإمام السّجاد عليه السلام، في مناجاته: “مناجاة التائبين” أفضل وأحلى صورة لها، فقال: “إِلَهي أَنْتَ الّذِي فَتَحْتَ لِعبادِكَ باباً إِلى عَفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوبَةَ فَقُلْتَ تُوبُوا إِلى اللهِ تَوبَةً نَصُوحاً، فَما عُذْرُ مِنْ أَغْفَلَ دُخُولَ البابِ بَعْدَ فَتْحِهِ“2.
والجدير بالذكر أنّ الباري تعالى يحبّ التّائبين، لأنّ التّوبة تعتبر الخطوة الاُولى لكي يعيش الإنسان في أجواء السّعادة والحياة الكريمة وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: “إِنّ اللهَ تَعالى أشَدُّ فَرَحاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ، مِنْ رَجُل أَضَلَّ راحِلَتَهُ وَزادَهُ، فِي لَيلَة ظَلْماءَ فَوَجَدها“3.
فهذا الحديث مزج بكنايات خاصة وعبارات جذابة، ليبيّن أنّ التّوبة في الواقع، الزّاد والرّاحلة لعبور الإنسان من وادي الظّلمات، ليصل إلى معدن النّور والرّحمة، ويعيش حالات الكرامة في الصفات الإنسانيّة.
وعلى أيّة حال، فإنّ ما يطرح في مبحث التّوبة اُمورٌ عديدةٌ، أهمّها هي:
1- حقيقة التّوبة.
2- وجوب التّوبة.
3- عمومية التّوبة.
4- أركان التّوبة.
5- قبول التّوبة، هل عقلي أو نقلي.
6- تقسيم التّوبة وتجزئتها.
7- دوام التّوبة.
8- مراتب التّوبة.
9- معطيات وبركات التّوبة.
1- حقيقة التّوبة
“التوبة” في الأصل، هي الرجوع عن الذّنب “هذا إذا ما نسبت للمذنبين”، ولكن الآيات القرآنية والرّوايات نسبتها إلى الباري تعالى، وعليه فيصبح معناها: الرجوع إلى الرّحمة الإلهيّة، تلك الرحمة التي سُلبت من الإنسان إثر إرتكابه للمعصية والذّنب، فبعد عودته لموقع العبودية والعبادة، تمتد إليه الرّحمة الإلهيّة من جديد، وبناءاً على ذلك فإنّ أحد أسماء الباري تعالى، هو (التواب).
و”التّوبة” في الحقيقة: هي مشترك لفظي أو معنوي بين الله وعباده، (ولكن إذا ما نُسبت للعبد، تتعدى بكلمة “إلى”، وإذا ما نُسبت للباري تعالى، فهي تتعدى بكلمة “على”)4.
وورد في”المحجّة البيضاء”، عن حقيقة التّوبة فقال: “إعلم أنّ التّوبة عبارةٌ عن معنى ينتظم ويلتئم، من ثلاثة اُمور مرتّبة: علم وحال وفعل، فالعلم أوّل والحال ثان والفعل ثالث، أمّا العلم فهو معرفة عِظم ضرر الذنوب، وكونها حجاباً بين العبد وبين كلّ محبوب، فإذا عرفت ذلك معرفةً محقّقةً بيقين غالب على قلبه، ثار من هذه المعرفة، تألّمٌ للقلب بسبب فوات المحبوب، فإنّ القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألّم، فإن كان فواته بفعله تأسّف على الفعل المفوّت، فيسمّى تألّمه بسبب فعله المفوّت لمحبوبه ندماً، فإذا غلب هذا الألم على القلب وإستولى إنبعث من هذا الألم في القلب، حالةً أخرى تسمّى إرادةً وقصداً إلى فعل له تعلّق بالحال وبالماضي والإستقبال.
فثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب، نار الندم فيتألّم به القلب، حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أن صار محجوباً عن محبوبه”5.
وهو الشّيء الذي يدعوه البعض: بالثّورة الروحيّة والنفسيّة، ويعتبرون التّوبة نوعاً من الإنقلاب الرّوحي، في باطن الإنسان على كلّ شيء، وتحثّه هذه الحالة على إتخاذ موقف جديد، حيال أعماله وبرامجه الآتية، من موقع الوضوح في الرّؤية لعناصر الخير والشرّ.
2- وجوب التّوبة
إتّفق علماء الإسلام على وجوب التّوبة، وكذلك فإنّ القرآن قد صرّح بها في الآية (8) من سورة التّحريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَار﴾.
إنّ كلّ الأنبياء عندما يتقلدّون أعباء الرّسالة، فأوّل شيء يدعون إليه هو التّوبة، لأنّه بدون التّوبة وتنقية القلب، لا يوجد مكان للتّوحيد والفضائل في أجواء النّفس وواقع الإنسان.
فالنّبي هود عليه السلام، أوّل ما دعى قومه: إلى التّوبة والإستغفار، فقال تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اُسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾(هود:52).
وكذلك النّبي صالح عليه السلام، جعل التّوبة أساساً لعمله ودعوته، فقال تعالى: ﴿فَآسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾(هود:61).
ثم النّبيّ شعيب عليه السلام، الذي تحرك في دعوته من هذا المنطلق، فقال تعالى: ﴿وَآسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾(هود:90).
ودعمت الروايات ذلك الأمر، وأكّدت على وجوب التّوبة الفوريّة، ومنها:
1- وصية الإمام علي عليه السلام لإبنه الإمام الحسن عليه السلام:”وَإِنْ قَارَفْتَ سَيِّئَةً فَعَجِّلْ مَحوَها بِالتَّوبَةِ“8.
طبعاً حاشا للإمام أن يقترف الذّنوب، ولكن قصد الإمام علي عليه السلام هنا، تنبيه الآخرين إلى هذا المعنى.
2- قال الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله، لإبن مسعود: “يابنَ مَسْعُودَ لا تُقَدِّمِ الذَّنْبَ وَلا تُؤَخِرِ التَّوبَةَ، وَلَكِنْ قَدِّمِ التَّوبَةَ وَأَخِّرِ الذَّنْب“9
3- وفي حديث آخر، قال الإمام علي عليه السلام: “مُسَوِّفُ نَفْسِهِ بِالتَّوبَةِ مِنْ هُجُومِ الأَجَلَ عَلَى أعْظَمِ الخَطَرِ“8.
4- وقال الإمام الرضا عليه السلام نقلاً عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
“لَيسَ شَيءٌ أَحَبُّ إلَى اللهِ مِنْ مُؤمِن تائِب أو مُؤمِنَة تائِبَة”.
ويمكن أن يكون هذا الحديث دليلا على وجوب التّوبة، لأنّها أحبّ الأشياء إلى الله تعالى في دائرة السّلوك البشري.
مضافاً إلى ذلك، هناك دليلٌ عقلي على وجوب التّوبة، وهو أنّ العقل يحكم، بوجوب دفع الضّرر المحتمل أو المتيقن، وتحضير وسائل للنجاة من العذاب الإلهي، وبما أنّ التّوبة هي أفضل وسيلة للنجاة من العذاب، فلذلك يحكم العقل السليم بوجوبها، فالعاصين أنّى لهم الخلاص، من العذاب الدّنيوي والأخروي، ولمّا يتوبوا بعد؟!
نعم، فإنّ التّوبة واجبةٌ، بدليل القرآن والرّوايات والعقل، إضافةً إلى قبول المسلمين لها أجمع، وبناءً عليه فإنّ الأدلّة الأربعة تحكم بوجوب التّوبة، ووجوبها فوري، وقد تطرق علم الاُصول لهذا الأمر، على أساس أنّ الأوامر كلّها ظاهرةٌ في الوجوب ما لم يثبت العكس.