ما من صفةٍ كريمةٍ أو نزعةٍ شريفةٍ يفتخر بها الإنسان، ويسمو بها على غيره من الكائنات الحية إلاّ وهي من عناصر عقيلة بني هاشم، وسيدة النساء زينب عليها السّلام، فقد تحلّت بجميع الفضائل التي وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، وأبيها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، واُمّها سيدة نساء العالمين عليها السّلام، وأخويها الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقد ورثت خصائصهم، وحكت مميزاتهم، وشابهتهم في سموّ ذاتهم ومكارم أخلاقهم.
لقد كانت حفيدة الرسول بحكم مواريثها وخصائصها أعظم وأجلّ سيدة في دنيا الإسلام، فقد أقامت صروح العدل، وشيّدت معالم الحق، وأبرزت قيم الإسلام ومبادئه على حقيقتها النازلة من ربّ العالمين، فقد جاهدت هي واُمّها زهراء الرسول كأعظم ما يكون الجهاد، ووقفتا بصلابة لا يعرف لها مثيل أمام التيارات الحزبية التي حاولت بجميع ما تملك من وسائل القوة أن تلقي الستار على قادة الاُمّة وهداتها الواقعيين، الذين أقامهم الرسول صلّى الله عليه وآله أعلاماً لاُمّته، وخزنة لحكمته وعلومه، فقد أظهرت زهراء الرسول بقوة وصلابة عن حقّ سيّد العترة الإمام أمير المؤمنين، رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام، فناهضت حكومة أبي بكر في خطابها التأريخي الخالد، وسائر مواقفها المشرّفة التي وضعت فيها الأساس المشرق لمبادئ شيعة أهل البيت، فهي المؤسِّسة الاُولى بعد أبيها صلّى الله عليه وآله لمذهب أهل البيتعليهم السّلام، وكذلك وقفت ابنتها العقلية أمام الحكم الاُموي الأسود الذي استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره، وإقصاء أهل البيتعليهم السّلام عن واقعهم الاجتماعي والسياسي، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامي، فوقفت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله مع أخيها أبي الأحرار في خندق واحد، فحطّم أخوها بشهادته وهي بخطبها في أروقة بلاط الحكم الاُموي، ذلك الكابوس المظلم الذي كان جاثماً على رقاب المسلمين.
وعلى أي حال، فإنا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسية لحفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله، وما تتمتّع به من القابليات الفذة، التي جعلتها في طليعة نساء المسلمين، وفيما يلي ذلك:
الإيمان الوثيق
وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم واُمم الأرض، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم.
لقد تغذت حفيدة الرسول بجوهر الإيمان وواقع الإسلام، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتى صار ذلك من مقوماتها وذاتياتها، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة.
إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الاُسرة النبوية ومن أبرز خصائصهم، ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين في دعائه:عبدتك لا طمعاً في جنتك، ولا خوفاً، من نارك، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.
وهو القائل:لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً.
أما سيّد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السّلام، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص، وذاب في محبته وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وأخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه، كل ذلك في سبيل الله تعالى، فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجدين صرعى، ونظر إلى حرائر النبوة وعقائل الوحي، وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة، لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة، قال: لك العتبى يا ربّ إنّ كان يرضيك هذا، فهذا إلى رضاك قليل، ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه، قال:هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله1.
أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له!
أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله!
وكانت حفيدة الرسول زينب سلام الله عليها كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله، فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك، هو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها، وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه:اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان2.
إنّ الإنسانية تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها.
لقد تضرعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله.
فأيّ إيمان يماثل هذا الإيمان؟!
وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يضارع هذا التبتّل؟!
لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبوية، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للاُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا.
ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول، ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله.
لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان، فقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال، فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله من حُلي وما عندهنّ من أمتعة وهن يعجن بالبكاء لا يعرفن ماذا يجري عليهن من الأسر والذلّ إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله وهي تؤدي صلاة الشكر لله على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها.
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه.
الصبر
من النزعات الفذة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب عليها السّلام هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا، فرزئت بجدّها الرسول صلّى الله عليه وآله الذي كان يحدب عليها، ويفيض عليها بحنانه وعطفه، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها وأمّها بعد وفاة جدّها، فقد اُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي صلّى الله عليه وآله، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلّا أنّها خلدت إلى الصبر، وتوالت بعد ذلك عليها المصائب، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكيعليه السّلام قد غدر به أهل الكوفة، حتى أضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألد، ولم تمض سنين يسيرة حتى اغتاله بالسمّ وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدة السمّ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
وكان من أقسى ما تجرعتّه من المحن والمصائب يوم الطف، فقد رأت شقيقها الإمام الحسين عليه السّلام قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويين صرعى قد حصدتهم سيوف الاُمويين، وشاهدت الأطفال الرضع يذبحون أمامها.
إن أي واحدة من رزايا سيدة النساء زينب لو ابتلي بها أيّ إنسان مهما تذرّع بالصبر وقوة النفس لأوهنت قواه، واستسلم للضعف النفسي، وما تمكن على مقاومة الأحداث، ولكنّها سلام الله عليها قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى وصابرة على بلائه، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون﴾َ 3، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب﴾ٍ 4، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾َ 5، لقد صبرت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله وأظهرت التجلّد وقوة النفس أمام أعداء الله، وقاومتهم بصلابة وشموخ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيدة مثلها في قوة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب.
يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها
كـــم شـــــاهدت مــــصائباً مهولـة أمـــــراً تــــــهون دونــــــه المنايامجـــــزرين فـــــي صــــــعيد واحد وهــــــي لـــــذوبان الفـــــلا تـبـاحوجثــــــثـاً أكفـــــانهـا الــــــــرمـال وصبــــــية بـــــعد أبيــــهم أيتمـواوصنـــــعه مــــــــا شاء فـي أخيها وقوفـها بــــــين يــــــدي يــــــزيد | لله صــــــبر زيـــــنب العقــــــيلــــةرأت مـــــن الخــــطوب والــــرزايارأت كـــــرام قـــــومها الأمــــــاجدتســـــفي عــــلى جـسومـها الرياحرأت رؤوســـــاً بــــالقـنا تـــــشـالرأت وضيـــــعـاً بـــــــالسهـام يفطمرأت شـــــماتـة العـــــــدو فـــــيـهاوإن مــــن أدهــــى الخطوب السود |
وقال السيّد حسن البغدادي
فــيـك الـــرزايا وكل الصـبر قـد جمعـا في قلب أقوى جبال الأرض لانصدعـا تـــفـطّـرت للـــــذي لاقـــــــيـته جـزعـاّ | ـــا قـــــلب زينب ما لاقيت من محـنلـــو كــان مـا فيك من صبر ومن محنيكــــــفيك صـــــبراً قلوب الناس كلـهم |
لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كل كائن حي.
العزة والكرامة
من أبرز الصفات النفسية الماثلة في شخصية سيدة النساء زينب عليها السّلام هي: العزة والكرامة، فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذة، فقد حُملت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبية ومعها بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم، فترفعت العقيلة أن تطلب من أولئك الممسوخين – من شرطة ابن مرجانة- شيئاً من الطعام لهم، ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة، وعلمن النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوة سارعن إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع، فانبرت السيّدة زينب مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلة:الصدقة محرّمة علينا أهل البيت….
ولما سمع أطفال أهل البيت من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام، وأخذ بعضهم يقول لبعض: إن عمتّنا تقول: الصدقة حرام علينا أهل البيت.
أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله.
ولمّا سُيِّرت سبايا أهل البيت من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيّدة زينب طيلة الطريق أيّ شيء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها، فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من أولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب.
لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة والشرف والإباء، فلم تخضع لأي أحدٍ مهما قست الأيام وتلبدت الظروف، إنها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى.
الشجاعة
ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من الاُسرة النبوية الكريمة، فالإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله، وهو القائل:لو تضافرت العرب على قتالي لما وليت عنها، وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة، فجندل الأبطال، وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده، فهو معجزة الإسلام الكبرى، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسينعليه السّلام مضرب المثل في بسالته وشجاعته، فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوة بأسه، فقد وقف يوم العاشر من المحرم موقفاً لم يقفه أي أحدٍ من أبطال العالم، فإنه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر، فكان يزداد انطلاقا وبشراً كلما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً، فإنه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره – وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً- فحمل عليهم وحده وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب – على حد تعبير بعض الرواة- وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كل جانب، لم يوهن له ركن، ولم تضعف له عزيمة.
يقول العلوي السيّد حيدر
ولكن كل عضو في الروع منــه جموععزمه حـــــــد ســــــــيفه مــــطــبـوع مهرهــــــا الموت والخضـاب النجــيع | فـــــتــــــلـقى الجـــــــــــمـوع فــــــرداًرمــــــحـه مـــــن بـــــنانه وكــــأن منزوّج الســــــــــيف بـــــــالنفوس ولكن |
ولما سقط سلام الله عليه على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الاُموي من الإجهاز عليه خوفاً ورعباً منه، يقول السيّد حيدر:
يخــــتطف الــــــرعب ألـــــــوانـها صــــريعاً يجـــــبّن شـــــجعانـــــها | عفـــــــيراً متـــــى عـــاينته الكمـاةفـــــما أجـــــلت الحـــرب عن مثله |
وتمثلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وألوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيّدة زينب سلام الله عليها، فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابي المجرم سليل الأدعياء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً:الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وكذّب اُحدوثتكم…
فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ، وَطَهَّرَنَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَاجِرُ، وَهُوَ غَيْرُنا، وَهُوَ غَيرنَا يَا بْنَ مَرْجَانَة..6.
لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمض من السلاح، وهي والمخدرات من آل محمّد في قيد الأسر، وقد رفعت فوق رؤوسهن رؤوس حماتهن، وشهرت عليهن سيوف الملحدين.
لقد أنزلت العقيلة – بهذه الكلمات- الطاغية من عرشه إلى قبره، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم، وأنّ أخاها هو المنتصر، ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله صلّى الله عليه وآله، قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك..؟7.
وانطلقت عقيلة بن هاشم ببسالة وصمود، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة: ما رَأَيْتُ إِلاّ جَميلاً، هؤُلاءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتَحَاحُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلجُ يَوْمَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ اُمُّكَ يَا بْنَ مَرْجَانَةَ...
أرأيتم هذا التبكيت الموجع؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية؟ فقد سجلت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزاً للمسلمين ومجداً خالداً للاُسرة النبوية.
أما موقفها في بلاط يزيد، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الاُموي، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة في البحوث الآتية.
الزهد في الدنيا
ومن عناصر سيدة النساء زينب عليها السّلام: الزهد في الدنيا، قد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها، ومقتدية باُمّها سيّدة نساء العالمين زهراء الرسول، فقد كانت فيما رواه المؤرّخون لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل وجلد شاه، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل، وتطحن بيدها الشعير، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا، وقد تأثرت عقيلة الرسول صلّى الله عليه وآله بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين عليه السّلام8. وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار، فقد علمت أنه سيستشهد في كربلاء أخبرها بذلك أبوها، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها، وما يجري عليها بالذات من الأسر والذل، لقد قدّمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى.