قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ): ” إنّ أوّل شخص يدخل عليّ الجنة فاطمة بنت محمد”.. هکذا طوت الزهراء فاطمة (عليه السلام ) صفحة الحياة لتبدأ مرحلة الخلود.
لم تبق سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ابنة اعظم نبيّ وزوجة أول إمام وأم اينع بزغتين في تأريخ الامام عليها السلام، بعد ابيها صلى الله عليه وآله وسلم سوى شهور معدودة قضتها بالبكاء والنحيب والانين حتى عُدت من البكائين ولم تر ضاحكة قط.
وكان لبكائها اسباب ودوافع كثيرة، أهمها انحراف المسلمين عن الطريق المستقيم وانزلاقهم في مهاو تؤدي الى الاختلاف والفرقة وانهيار الامة الإسلامية بالتدريج. والزهراء التي عاشت الدعوة الإسلامية ايام ابيها صلى الله عليه وآله وسلم وضحت من أجلها بكل نفيس كانت تتوقع انتصار الإسلام وتشييد صرح العدل في ربوع الدنيا كلها، ولكن غصب الخلافة والاحداث التي تلتها هدم صرح آمالها وأدخل الحزن على قلبها وروحها الطاهرة، فقد تحملت همّا ثقيلا فوق همّها وحزنها على النبيّ الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولاشك ان رحيل سيدة نساء العالمين سلام الله عليها، كانت في السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية الشريفة، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حج حجة الوداع في السنة العاشرة وتوفي في أوائل السنة الحادية عشرة، واتفق المؤرخون على ان السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) عاشت بعد ابيها اقل من سنة، علما بأنها كانت في ريعان شبابها كما كانت في اتم الصحة في حياة ابيها، نعم اختلفوا في يوم وشهر رحيلها اختلافا شديدا. فلقد روي انها عاشت بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة اشهر وقيل خمسة وتسعين يوما وقيل خمسة وسبعين يوما او اقل من ذلك.
وعن أنس، قال: لما فرغنا من دفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اتيت إلى فاطمة عليها السلام فقالت: كيف طاوعتكم انفسكم ان تهيلوا التراب على وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ثم بكت.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام ): وحزنت فاطمة عليها السلام حزنا شديدا أثر على صحتها والمرّة الوحيدة التي ابتسمت فيها بعد رحيل ابيها (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما نظرت الى اسماء بنت عميس وهي على فراش الموت وبعد ان لبست ملابس الموت، فابتسمت ونظرت إلى نعشها الذي عُمل لها قبل وفاتها وقالت: “سترتموني ستركم الله”.
أنتشر خبر مرض السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، في المدينة المنورة وسمع الناس به ولم تكن السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) تشكو من داء عضال غير ماحدث لها من احداث مؤلمة بعد رحيل سيد الكونين (صلى الله عليه وآله وسلم ). كل هذه الامور ساهمت في تدهور صحتها وقعودها عن ممارسة اعمالها وكان زوجها العطوف الامام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام )، هو الذي يتولى تمريضها، وتعينه على ذلك أسماء بن عميس. جاءت نسوة من اهل المدينة لعيادتها وخطبت فيهن تلك الخطبة الشهيرة التي قالت (سلام الله عليها) في جواب نساء المهاجرين والانصار حين قلن: كيف أصبحتِ من علَّتك يا بنت رسول الله؟! فحمدتْ الله وصَلّت على أبيها (عليها السلام) ثمّ قالت: «أَصحبتُ واللهِ عائفةً لدنياكنَّ، قاليةً لرجالكنَّ، لَفظتُهم بعد أن عجمتهم، وشَنأتهم بعد أن سَبَرتهم فقِبحاً لفلول الحدِّ، واللعب بعد الجدّ، وقرع الصفاة، وصدع القناة، وخَطَل الآراء، وزَلَل الأهواء، و(لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) لا جرم لقد قلَّدتهم رِبقتها، وحملتهم أوقتها، وشننت عليهم عارها. فجدعاً وعقراً وبُعداً للقوم الظالمين».
تُظهر الزهراء (عليها السلام) نفرتها وانزعاجها الشديدين ممّن ينتهز الفرصة؛ ليسترزق منها مؤنة يومه، أي من المهاجرين والأنصار؛ لأنّهم سكتوا ـ ليس سكوتهم فحسب ـ بل على موافقتهم للإنحرافات التي حدثت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأنذرتهم بأن يحذروا هذا الامتحان الإلهي العظيم. تذكّرهم بجهادهم الرائع في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ثمَّ تشبّههم بالسيوف المثلومة، التي فقدت قدرتها في صدِّ الأعداء ودحرهم، وبالرماح التي تهشّمت فأصبحت غير مفيدة لأي شيء. توبّخ ابنة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بشدة أولئك الذين سخروا من مبادئ الإسلام، وجعلوها عرضةً لأهوائهم، ومن ثمَّ وجهت لومها وتحقيرها إلى مَن وَهنَ عزمهم، وفقدوا قدراتهم في اتخاذ قرار ضد الانحرافات التي حدثت. في نهاية هذا القسم تقوم بإنذارهم، بأنّ مسؤولية غصب الخلافة ستُثقل كاهلهم إلى الأبد، وستبقى جباههم موسومة بوصمة العار التي جاءت نتيجةً لسكوتهم، كما أنّ التاريخ الإسلامي سيسجّل هذه الحادثة المؤلمة بمنتهى الأسف. نعم، فالكثير منهم لم يخرجوا من الامتحان منتصرين، ولم تكن وجوههم مستبشرة، وكم كان حسناً لو تبيّنت «حقائق الأمور» للعيان، حتى تسودَّ وجوه «الغشاشين»، وكم كان لطيفاً لو أُقيمت مناقل النار؛ ليفضح «مدلوك الذهب، وسوار الفضة» باطنه، ويتبيّن للناس حقيقته؛ ليُميزوه عن الذهب الخالص. وقال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها عليها السلام على رجالهن فجاء اليها قوم من وجوه المهاجرين والانصار معتذرين وقالوا: ياسيدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الامر من قبل ان نبرم العهد ونحكم العقد، لما عدلنا الى غيره، فقالت: «إليكم عني! فلا عُذر بعد تعذيركم ولا أمر بعد تقصيركم».
وقيل انه بعد الإنتهاء من مراسم الدفن السري والسريع والمختصر، فعندما هدأت الاصوات ونامت العيون ومضی شطرا من الليل تقدم أمير المؤمنين علي (عليه السلام )، والعباس والفضل بن العباس ورابع يحملون ذلك الجسد النحيف وشيعها الحسن والحسين وعقيل وسلمان وابوذر والمقداد وبريدة وعمار. ولما انتهت مراسم الدفن في البقيع بسرعة خوفا من انکشاف امره وهجوم الحاقدين والحساد عليهم، نفض الإمام يده من تراب القبر، هاجت به الاحزان لفقد بضعة الرسول وازدحمت في نفسه الهموم، وعظم عليه الفراق وکبر عليه الموقف، فحوَل وجهه الی قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليبثه الشکوی معبرا عما في نفسه من حبَ لها ووفاء لابيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحزن لفراقها ولوعة مما جری عليه وعليها.
وقد قال الإمام زين العابدين (عليه السلام ): لما قبضت فاطمة (عليها السلام) دفنها أمير المؤمنين (عليه السلام ) سرّاً، وعفى على موضع قبرها، ثمّ قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ قال: «السلام عليك يا رسول الله عنّي، والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، وعفا عن سيّدة نساء العالمين تجلّدي، إلاّ أنّ في التأسّي لي بسنّتك في فرقتك موضع تعزّ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت نفسك بين نحري وصدري. بلى، وفي كتاب الله لي أنعم القبول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قد استرجعت الوديعة، وأُخذت الرهينة، واختلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء. يا رسول الله، أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهّد، وهمّ لا يبرح من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، كمد مقيّح، وهمّ مهيّج، سرعان ما فرّق بيننا، وإلى الله أشكو، وستنبّئك ابنتك بتظافر أُمّتك على هضمها، فاحفها السؤال، واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها، لم تجد إلى بثّه سبيلاً، وستقول ويحكم الله، وهو خير الحاكمين.
والسلام عليكما سلام مودّع، لا قال ولا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أُقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصابرين، واهاً واهاً، والصبر أيمن وأجمل، ولولا غلبة المستولين لجعلت المقام واللبث لزاماً معكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية.
فبعين الله تدفن ابنتك سرّاً، وتهضم حقّها، ويمنع إرثها، ولم يتباعد العهد، ولم يخلق منك الذكر، وإلى الله يارسول الله المشتكى، وفيك يارسول الله أحسن العزاء، صلّى الله عليك وعليها السلام والرضوان».
هکذا طوت الزهراء فاطمة سلام الله عليها صفحة الحياة لتبدأ مرحلة الخلود في عالم الفردوس ولتحيا ابدا في ضمير التاريخ ودنيا الإسلام مثلا أعلی وقدوة حسنة شامخة تتطلع اليها الانظار وتسمو في رحابها النفوس.