من بين الفروع المختلفة للمذاهب الإسلامية، فقط الشيعة يعتقدون بأن شأن ومقام المرأة ممكن أن يرتقي ويصل لدرجة «العصمة» و«الكمال الانساني».
صحيح ان ابنة أعظم خلق الله (الرسول(ص)) هي مصداق هذه المرأة (ذات العصمة والكمال الانساني)، ولكن المسألة هنا كونها إمرأة وليس رجلاً. وهذا يعني إن إمكانية الوصول للمقامات العالية والحصول عليها لا ينحصر على الرجال بل يمكن للنساء أن ينلن هكذا درجات كذلك. ومن هذا المنطلق كما نعتبر أن «قول» و«فعل» و«إقرار» الأئمة المعصومين عليهم السلام حجّة لنا، كذلك بالنسبة لسيدة نساء العالمين يكون لنا حجّة.
الموضوع الرئيس للبحث في حياة فاطمة(ع) حسب هذا العالم هو في قصر عمرها الشريف. فمن بين كل المعصومين(ع) هي الأقصر عمراً، لذا لا توجد معلومات كثيرة عن حياتها، ولو أن السنوات القليلة التي عاشتها والأحداث التي واجهتها بعد رحيل الرسول (ص) ومحتوى وصيتها وكيفيته وما دار بينها وبين الإمام علي (ع) بعد وفاة الرسول (ص) وخصوصاً حديثه بعد مراسم جنازتها ودفنها، لكفيله أن تفتح أمامنا أبواباً لمسائل كثيرة. ومن هنا نتطرق لبعض من هذه النقاط:
١- عند ظهور الإسلام كانت شبه الجزيرة العربية مجتمعاً ذكورياً -ولازالت كذلك- وهذا ما فرضه المحيط التاريخي والاجتماعي لها. الأرض كانت مقفرة وقاحلة ويسكنها بعض القبائل المختلفة، تلك الأرض القاسية بحد ذاتها كانت تتطلب خشونة العيش، أما العاملان المساعدان كانا الجوع والعطش الدائميْن اللذيْن كانا وليدا البيئة الفقيرة بالماء والأمطار والتضاريس التي يصعب العيش فيها، وذلك أدّى بهم إلى شنّ حروب متواصلة للحصول على المرعى، وإلى غارات دائمة للاستيلاء على أعلاف وأموال القبائل الأخرى. كل تلك العوامل على مر السنين انشأت نوعاً من الثقافة المناهضة للمرأة، فما كان موجوداً كان عبارة عن عنف وحرب وفِرار واغتصاب ونهب، وكل ما سبق يحتاج إلى رجل قوي، قاس، وحذق لا يترك سيفه، وفي ظل هذه الأجواء كانت المرأة عنصرا مزاحما للرجل فليس لها القدرة على القتال أو النهب أو تستطيع أن تشارك في الغارات والأسوأ من كل ذلك كانت تشكل عالة على الرجل حيث كان يخشى عليها من أن تُسبى وتصبح غنيمة للمعتدي.
٢- بنت الرسول (ص) عاشت في مثل هذه الظروف!. كانت في الثامنة من عمرها عندما رحلت من مكة إلى المدينة، وبعد دخول الرسول (ص) للمدينة أصبح هو الشخصية الرئيسية فيها. وتوالت الأحداث. أي أصبح للرسول (ص) سلطة ومكانة أفضل من ذي قبل.
وبعد عام واحد، اقترنت بالإمام علي (ع) وقد كان شاباً مهذباً شريفاً وناضجاً. ولكن هذا الزواج لم يتم بسلاسة، حيث كان هناك الكثير ممن يصرّون على خطبتها طمعاً للمكانة الرفيعة التي كانوا يتنبؤونها لمستقبل النبي(ص). مما جعل النبي(ص) في موقع حرج جداً. كل ذلك كان تحت ناظري هذه الفتاة الصغيرة التي فقدت والدتها العظيمة والحنونة قبل بضعة أعوام.
3- مع تعزز قوة الإسلام منذ غزوة الخندق فصاعداً وخصوصاً بعد فتح مكّة تغيرت مكانة الرسول(ص) كذلك. منذ ذلك الحين كان صلّى الله عليه وآله وسلم حاكماً في المدينة ولمساحات شاسعة من شبه الجزيرة العربية (لدخولها في الإسلام)، لهذا السبب تعرّض أقاربه وأهل بيته بطريقة غير مباشرة لمشاكل كثيرة. فقد وجّه التوسع المادي والدنيوي الهائليْن للإسلام الكثير من الأنظار إليه، سواءً أنظار المسلمين أنفسهم أو غيرهم ممن اعتنقوا الإسلام متأخراً غالباً بسبب خوفهم أو لمصلحةٍ شخصيّةٍ ما.
والمشاكل المذكورة أعلاه لأسباب مختلفة، غالباً ما كان الإمام علي(ع) يحيط بها علماً. وهذه الأسباب أكثر وأبعد من أن نستطيع حتى أن نشير إليها. وعلى الرغم من أن الإمام علي(ع) كان حريصاً على أن لا يذكرها أمام زوجته أو حتى يتطرق لها، لكنها كانت على دراية بها وتتحملها بكل صبر.
من الطبيعي أن يتأثر محيط النساء في المدينة وخصوصاً النسوة اللاتي حول النبي(ص) بالسياسة الجديدة التي أتى بها، وعلى الرغم من مكانتهن المتدنيّة حتى في الجاهلية، إلا أنه كان لهنّ دورٌ مهم في تغيير مجرى الأمور بتأثيرهنّ على الرجال.
٤- كان عدد كثير من النسوة اللاتي يُحِطن بالنبي (ص) تحت تأثير ذلك المعتقد الخاطىء (الذي يَحِطّ من شأن المرأة، وكُنّ أكثرهنّ في عمر متقدم وغير قادرات على الإنجاب باستثاء ماريا القبطية التي انجبت للرسول (ص) ولده إبراهيم الذي فارق الحياة بعد مدة قصيرة، بذلك جميعهن كنّ بلا ذريّة.
وفي مثل تلك الأوضاع التي كانت فيها بنت الرسول (ص) أصغرهنّ سنّاً، وقز انجبت في فترة وجيزة ولدان وبعد ذلك بنتان، وهذان الولدان كانا قرّة عين رسول الله(ص)، وبغض النظر عن مقاميهما وشأنهما العاليين، كوْن أن النبي(ص) يرزق بحفيدين في ظلّ ظروفه تلك كان حدثاً كبيراً وعظيماً ويبعث السرور في نفس الرسول(ص)، وبذلك من البديهي أن يُكِنّ لهما فيض من الأحاسيس والعواطف الجيّاشة.
وفي ظلّ ذلك الفِكر المنغلق ووفقاً لمجموع خصائص ذلك المجتمع، نتج مجموع من ردود فعل وسلوكيات مختلفة وسلبية خاصةً باتجاه السيدة فاطمة(ع). أما على الرغم من كل ذلك كانت عليها السلام تتحمل وتصبر على كل تلك الاعتراضات والانتقادات اللفظيّة وغير اللفظيّة اللّاذعة، وكانت تعاملهم برحابة صدر وبحكمة. قلّة قليلة من النساء في ذلك المجتمع اللاتي كنّ يُحسِنّ معاملتها، ولكنها ما كانت أبداً تشير إليهنّ أنها ابنة الرسول(ص) أو تُلمّح لنسبها الشريف، فقد كانت هي أسمى من أن تعاملهن بالمثل ومن أن تُبدي أي ردّة فعل باتجاههن.
٥- وبهذا الترتيب واجهت السيدة فاطمة(ع) وبعلها ظروف صعبة في أواخر العمر الشريف للنبي(ص). وهنا أيضاً لم يكن لهما ذنب في خلق المشاكل ومن الأفضل أن نقول أنهما وقعا في شِركِها. وكانت ثقيلة تلك اللحظات الأخيرة من عمر النبي (ص) إلى درجة أن تلك الابتسامة لفاطمة الزهراء(ع) في حال بكائها بقيت محفورة. وعندما سألها الناس عن مغزاها قالت: «بشّرني أبي بأنّي أول من يلتحق به من أهل بيته».
ولو أننا لا يجب أن نقارن تلك الشخصيات العظيمة بعامّة الناس، لكن إذا وُجِدت إمرأة شابة وذات أربعة أبناء وزوج لا مثيل له أن تفرح بخبر وفاتها؛ حقاً شيء مثير للدهشة، وعلى أي حال كان واضحاً أن ما ستواجهه لا يطاق ولديها يقين بذلك. وبوادر تلك المحن والمصائب ظاهرت في نهاية حياة الرسول (ص).
٦- ولو أن بداية تاريخ الإسلام قد خُطّ بصورة تبين أنها كانت بجهود ذكورية بحتة، وذِكر دور المرأة فيه كان مهمّشاً، ولكن مقارنةً بتاريخ شبه الجزيرة العربية في عصر الجاهلية وبتاريخ الحضارات الأخرى، تم نقل مواقف كثيرة في التاريخ الإسلامي عن دور المرأة وحضورها.
النقطة المهمة هنا هي أن كل الأحداث والمواقف المنقولة لدى كل المذاهب الإسلامية والمرتبطة ببنت رسول الله(ص) راعى فيها الرواة الجانب الأخلاقي الرفيع وأبرزوا فيه الاحترام العظيم لها بعيداً عن أي نوع من أنواع الحيلة والحقد والحسد والضغينة والانتقام، ولم يتم ذِكر أي شيء متعلق بالجانب الخصوصي للمرأة ولا يجب أن يعرفه الرجال، في الأحاديث المتواترة عنها، وكل ما نُقل يتّسم بالعفّة، العفّة في الحديث، العفّة مع أهل بيتها، العفّة في روتين حياتها اليوميّ، والعفّة في تعاملها مع كل النساء والرجال الذين كانوا يؤذونها بشتّى الطرق وتضطر للاحتكاك بهم.
والأهم أنها في خضم تلك الظروف المتقلبة من شدّة ورخاء حافظت على شخصية المرأة المثالية (الصحيحة)، حتى عندما اشتدت الأوضاع واضطرت لإظهار الحقيقة والاعتراض بالخروج وإلقاء خطابها أمام الملأ لم تكن لتأخذ مأخذ الرجال. وهنا نقف عند أهم نقطة تاريخية تحمل رسالة في غاية الأهمية وهي أن المرأة يجب أن تكون على طبيعتها الفطرية وأن تبقى إمرأة مهما تغيرت الظروف، وحتى عندما تريد أن تبدي وجهة نظرها وتثبت شخصها لا يجب عليها بأن تلبس ثوب الرجال (أي تتصرف كرجل)، بل عليها أن تحافظ على «أنوثتها المثالية» وتتشكل في إطاره. وأنه لخطأ كبير أن ترى في جزء من «أنوثتها المثالية» أنها يجب أن تتشبه بالرجل في تصرفاته وأفعاله وأن تشعر بأنها يجب أن تتأطر في إطار «الرجولة».
وفي الواقع أحد مشاكل عالمنا ومجتمعنا الحالي يرجع لهذا السبب. وقضيتنا هنا ليست قضية كيفية وصول المرأة لإطار «الأنوثة المثالية»، ولكن القضية هي مفهوم هذه «الأنوثة المثالية» ما هي وكيف يجب أن تكون! في حال أن طرق الوصول للإطار الرجولي مختلفة ومتفاوتة عن تلك التي تؤدي لبلوغ «الأنوثة المثالية» والبقاء أنثى.
ليس ممكناً ولا يجب علينا أن نُنكر أن المجتمع الحالي متفاوت في هذه القضية عن ذي قبل، أما يجب نشر الوعي حول الهدف الذي يتم السعي له، هل يجب على المرأة لاثبات شخصها وحضورها أن تصبح رجلاً؟ أم تبقى إمرأة؟ إذا تم قبول إجابة هذا السؤال وهو صلب القضية نستطيع حينها أن نصل لمراتب أفضل فيما يخص النضج الفكري لهذه المسألة