تزخر أرض العراق بعشرات المراقد المتناثرة هنا وهناك لعديد من الشخصيات الإسلامية التي أثّرت تأثيراً ملموساً في مجريات الأحداث التي احتفظ التاريخ بجزء منها، وترك الجزء الأكبر بين الإهمال والتلفيق حتى صارت الحادثة التاريخية تظهر بصور مختلفة، والسبب يعود لمن كتب التاريخ ودون مفرداته الذي كانت أمانته مقياساً لمدى نقله الصادق للأحداث.
على كل حال فقد أصبحت مراقد هذه الشخصيات معالم مهمة ومحطات نيرة تزدحم بالزائرين الذين يقصدونها لا يقدسون أجساداً، بل ليأخذوا من سيرة الأفذاذ دروساً في حياتهم ويقتبسوا نوراً من حياتهم المليئة بالمواقف النبيلة والبطولات التي مازالت تشع متألقة محفورة في جبين الدهر.
وبمرور الزمان وتوالي الأيام تتعرض تلك المراقد عادة إلى التآكل والاندثار، فلا بد من جهة تتبنى عمليات الإعمار وتواكب فعاليات الصيانة فتصلح هنا وتنشئ هناك وهكذا، وهذه الجهة إما أن تكون المحسنين من أبناء المنطقة نفسها، أو ممن يتبرع من تلقاء نفسه كما هو الحال أيام العهد البائد الذي شنّ حرباً لا هوادة فيها ضد المراقد ومن يعمّرها وحتى من يرتادها أو تكون الدولة ممثلة بمؤسسات الوقف والمزارات هي الجهة المبادرة لهذا العمل.
ولكن تبقى هناك مزارات لا تكاد تصلها حملات الإعمار مطلقاً، منها مزار الشهيد زيد بن صوحان العبدي في محافظة البصرة، شهيد العقيدة الذي بذل نفسه الزكية ثمناً للدفاع عن الخط الإسلامي المحمدي الأصيل المتمثل بخط الإمام علي(ع).
ونحن ننقل من مرقده صورة واضحة عن حالته المثيرة للاستغراب من حيث عدم الاهتمام، وقبل ذلك نعرض لسيرته العطرة كما ذكرتها المصادر التاريخية.
حياة زيد بن صوحان
لم يذكر المؤرخون تفاصيل كثيرة عن حياة زيد بن صوحان، فلم نعرف والده صوحان العبدي ووضعه العام، كما لا نعرف شيئاً عن محل وتاريخ ولادته وكأن نقطة البداية التي انطلق منها التاريخ في عرض حياته كانت من تنويه النبي باسمه.
أما نسبه فهو زيد بن صوحان بن حجر بن الحارث بن الهجرس بن صبرة بن حدرجان بن عساس بن ليث بن حداد بن ظالم بن ذهل بن عجل بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن ربيعة(1).
ولزيد من الأخوة، صعصة وسيحان، وصعصعة كان سيد بني عبد القيس في الكوفة(2).
اشتهر زيد بكنيته المعروفة وهي (أبو سليمان)(3)، ولم يذكر المؤرخون عقباً لزيد سوى ما أورده ابن أبي الحديد عند ترجمة إحدى الشخصيات قائلاً: (جعفر بن محمد الصوحاني، ومن ولد زيد بن صوحان العبدي)(4).
أدرك زيد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولكنه لم يصحبه، أي لم يلتقِ به لذا فقد عده جملة من الرجاليين تابعياً، ولكنه يروي عن الإمام علي(عليه السلام)، وقد جاء زيد مع الكوفيين عندما وفدوا على عمر بن الخطاب أيام خلافته(5).
نزل الكوفة بصحبة أخويه وسكنها والظاهر أن سكناهم كانت في محلة بني عبد القيس عند مسجد السهلة واليوم يوجد مسجدان، أحدهما ينسب لصعصعة والآخر ينسب لزيد وفيهما من الأذكار والصلوات والأعمال في الكتب المختصة بالأدعية.
ذكرت المصادر أن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) كان في مسير له إذ هوّم فجعل يقول زيد وما زيد، جندب وما جندب، فسُئل(صلى الله عليه وآله) عن ذلك فقال رجلان من أمتي، أما أحدهما فتسبقه يده إلى الجنة ثم يتبعها سائر جسده. . . إلى آخر الحديث)(6)، وقد أشار(صلى الله عليه وآله) إلى ما حدث فعلاً فقد قُطعت يد زيد في معركة وتبعها سائر جسده في معركة الجمل.
اختلف المؤرخون أيضاً في تحديد المعركة التي قطعت بها يد زيد فمنهم من قال إنها قطعت في معركة اليرموك(7)، ومنهم قال قطعت في معركة جلولاء سنة 16هـ(8)، ومنهم من قال في معركة القادسية(9)، إلا أن الأعم الأغلب حدد معركة نهاوند عام 20هـ(10)، أيام خلافة عمر بن الخطاب.
زيد في كلمات الأعلام
قال عقيل بن أبي طالب(رضي الله عنه): (أما زيد وعبد الله أخوه فإنهما نهران جاريان يصب بهما الخلجان ويغاث بهما اللهفان، رجلا جدٍ لا لعب معه)(11)، من قول عقيل هذا يتبين أن لزيد أخاً ثالثاً يدعى عبد الله إلا أن المؤرخون وأرباب السير لم يشيروا إليه.
قال صعصعة لأبن عباس، واصفاً أخاه زيد: (كان والله يا بن عباس عظيم المروة، شريف الأخوة، جليل الخطر، بعيد الأثر، كميش(12) العروة، أليف البدوة، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الدهر، ذاكر الله في طرفي النهار، وزلفى من الليل، الجوع والشبع عنده سيان، لا ينافس في الدنيا، وأقل في أصحابه من ينافس فيها، يطيل السكوت ويحفظ الكلام وإن ينطق نطق بمقام من يهرب منه الدعار الأشرار، ويألفه الأحرار الأخيار، فقال ابن عباس: ما ظنك برجل من أهل الجنة، رحم الله زيداً)(13).
قال ابن العماد الحنبلي: (من خواص علي الصلحاء الأتقياء)(14).
قال اليافعي: (كان من سادة التابعين صواماً قواماً)(15).
قال الخطيب البغدادي: (كان يقوم الليل ويصوم النهار وإذا كانت ليلة الجمعة أحياها)(16).
حادثة استشهاده
التحق زيد وأخواه سيحان وصعصعة بجيش الإمام علي(عليه السلام) المتوجه إلى البصرة لمواجهة الحركة التي تبناها كل من طلحة بن عبيد الله التيمي والزبير بن العوام، متخذين من الثأر لمقتل عثمان شعاراً وهما بذلك يخرجان على إمام زمانهما الذي بايعاه خليفة لرسول الله يأتمرون بأمره وينتهيان عما ينهى، ولكن الدنيا حليت في عينيهما ووجدا علياً يسير وفق مبدأ العدالة في الحكم بين الرعية فلم يرق ذلك لهما ثم ما برحا أن أخرجا عائشة معهما فكانت واقعة الجمل، الفتنة التي أصابت المسلمين وفتت في عضد الأمة.
كانت راية الإمام علي بيد سيحان، الأخ الأكبر لزيد وكان خطيباً مصقعاً ولما قتل أخذ الراية زيد وأبلى بلاءً حسناً ثم استشهد على يد عمرو بن يثربي الضبي(17) الذي قتل أخاه سيحان من قبل، ولما أثخن بالجراح مشى لمصرعه الإمام علي(عليه السلام) فقال له (رحمك الله يا زيد كنت خفيف المؤنة عظيم المعونة، فرفع زيد رأسه وقال: وأنت جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين، فو الله ما علمتك إلا بالله عليماً، وفي أم الكتاب علياً حكيماً والله في صدرك عظيماً،والله ما قاتلت معك عن جهل، ولكني سمعت حذيفة بن اليمان يقول: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: علي أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره مخذول من خذله، ألا وإن الحق معه، يتبعه، ألا فميلوا معه)(18)،
وكان استشهاده في اليوم التاسع عشر من شهر جمادى الأولى، أي بعد تسعة أيام، أو بعد أربعة أيام إذا اعتمدنا على رواية تاريخ ابن خياط كون واقعة الجمل حدثت في النصف من الشهر سنة 36هـ..
ثم قال زيد لمن حوله: (لا تغسلوا عني دماً، ولا تنزعوا عني ثوباً فإني رجل مخاصم أحاج يوم القيامة من قتلني)(19).
ولما دفنوا زيداً دفنوا أخاه سيحان معه في قبر واحد ودفنوا معه مصحفه كما أوصى ثم وقف الشاعر مؤبناً شهداء الواقعة قائلاً(20):
يـا قـاتَـلَ اللهُ أقـوامـاً هــم قــتلـوا يـوم الخــريبـة علبــاءاً وحســانـا
وابن المثنى أصاب السيف مقتله وخيـر قـراءهم زيـد بن صوحـانـا
موقع حرب الجمل
ذكرت الروايات أن علياً(عليه السلام) سار من منطقة تدعى الزاوية، بينما تحرك طلحة والزبير من منطقة تدعى الفرضة، فالتقوا عند قصر عبيد الله بن زياد(21)، بالخُريبة. والخُريبة محلة من محال البصرة وسميت بالخُريبة لأن المرزبان كان قد ابتنى بها قصراً وخرّب بعده فلما نزل المسلمون البصرة ابتنوا عدة أبنية فسموه المنطقة بالخُريبة، وقيل بنيت البصرة إلى جانب مدينة عتيقة من مدن الفرس خرّبها المثنى بشنّ المعارك عليها، فلما قدم العرب البصرة سموها الخريبة ونزلها عتبة بن غزوان مؤسس البصرة بأصحابه، وتسمى الخُريبة أيضاً بـ(البصرة الصغرى)(22).
المرقـد اليــوم
يقع المرقد في ناحية السيبة، التي تبعد مسافة 55كم جنوبي مدينة البصرة، وتقع شمال قضاء الفاو، وقد أشار الشيخ محمد حرز الدين إلى هذا الموقع محدداً إياه بقوله: (مرقده –أي زيد- في البصرة عليه قبة صغيرة قديمة البناء تشاهد على يمين الذاهب إلى السيبة في قرية (كوت الزين))، ثم يضيف قائلاً: (وقد سألنا بعض البصريين فأجبناهم بأن مرقده لا ريب فيه ولا إشكال)(23).
المتأمل في كلام الشيخ حرز الدين يلاحظ قوة الجزم في تحديد المكان بقوله لا ريب فيه ولا إشكال، ولكنه رحمه الله لم يسعفنا بالدليل أو المصدر الذي اتكأ عليه في تحديد الموقع دون غيره، كما لم يذكر لنا عن تاريخ المرقد شيئاً، ولا عن عمارته ومن أول من بناه أو سعى إلى تعيين مرقده بهذه الكيفية،
ولكن يمكن الركون إلى صحة ما ذهب إليه الشيخ فهو محقق في هذا المجال، ولم يدعّ في كتابه أن كل ما ذكره من مراقد صحيح النسبة إلى ما اشتهرت به عن أصحابها، فهناك العديد من المراقد قال عنها إنها مجهولة الحال، أو تحت التحقيق، وإن أبدى رأياً فيقول والله أعلم.
كما أيد الرأي القائل بصحة نسبة القبر إلى زيد بن صوحان الخطيب السيد علي الهاشمي في أثناء حديثه عن أخيه سيحان قائلا: (لم يعرف قبر لسيحان ولا لغيره من قتلى الطرفين، وفي سنة 1343هجـ، صار طريقي من أبي الخصيب إلى الفاو فمررنا على قبة عالية مائلة إلى الانهدام على ربوة بالقرب من ناحية السيبة فقيل لي هذا قبر أحد قواد جيش علي(عليه السلام)، قُتل في واقعة الجمل، ولعله قبر أحد الأخوين إما سيحان وإما زيد، وقبر زيد أقرب أن يكون لن بالقرب منه مكان يقال له الزيادية كما أن في ذلك الصقع ناحية يقال لها سيحان والله أعلم)(24)،
ونلاحظ من كلام السيد الهاشمي أنه لم يشر إلى دفن الأخوين سوية بالرغم من ورود أكثر الروايات حول هذا الشأن.
المهم في الأمر إثبات أن الخريبة التي دارت عليه رحى واقعة الجمل هي ناحية السيبة الحالية التي تضم القرى التالية سيحان والمطوعة وكوت بندر وكوت الزين، ولكن بتفحص المنطقة التي يتواجد بها المرقد نلاحظ ما يشير إلى امتداد بين المنطقتين بحسب ما يلي:
نلاحظ كون المرقد يقع في ارض جرداء خالية من الزرع والكلأ وهي على هذا الحال من عهود بعيدة فلم تُسكن ولم تُزرع، بمعنى أنها قابلة لتكون ميداناً للقتال من حيث فسحة المجال خصوصاً للعمليات العسكرية.
نلاحظ وجود أحجار قديمة وبقايا قطع أثرية مكسرة مندثرة هنا وهناك، قد تعود لقصور كانت عامرة إلا أنها خُرّبت.
وصـف المرقـد
لم يزدد المرقد في عمارته أو تشييده شيئاً على ما ذكره الشيخ حرز الدين، وكأن التاريخ وقف منذ عرض حرز الدين وليومنا هذا، والذي يثير التساؤل هو لماذا هذا التجاهل وعدم الاهتمام من قبل البصريين عموماً، وإدارة الوقف وممثلية المزارات بتشييد هذا المرقد؟،
وإذا سلمنا بأن الفترة التي تزامنت مع حكم الطغاة كانت فترة لم تلق فيها أغلب المراقد أدنى رعاية واهتمام، فلماذا اليوم بقي هذا المرقد على حالته البائسة وهو لرجل جمع من الصفات ما أهلته ليعد من طليعة أصحاب الإمام علي(عليه السلام)؟
نأمل أن تقود أسئلتنا هذه إلى معرفة السبب أو تحفيز المحسنين أصحاب المآثر لمد يد الخير وتحصيل الأجر في إعمار هذا المرقد.
عموماً يمكن الوصول إلى المرقد بواسطة طريق ترابي متفرع من الشارع الرئيسي الذي يربط مدينة أبي الخصيب بالفاو، وهو عبارة عن غرفة مستطيلة مبنية بالطابوق، ويظهر تآكله في جدران الغرفة، تبلغ مساحتها حوالي 30متراً مربعاً تقريباً، يطل في وسط واجهة الغرفة، باب حديدي أخضر اللون يعلوه قطعة خشبية مصبوغة باللون الأبيض كُتب عليها: (مرقد الصحابي زيد بن صوحان العبدي)،
ويتقدم الواجهة إيوان قوسي معقود بالطابوق المتآكل القديم، تفتح الغرفة على باحة مفروشة بحصائر وفرش بالية يتوسطها القبر وهو عبارة عن دكة ترتفع عن الأرض حوالي ربع متر ويبلغ طولها حوالي 3. 5م وعرضها 1. 5م، مغطاة بسجاجيد صلاة، تنتصب فوق الغرفة قبة وهي كما وصفها حرز الدين تبدو عليها آثار القِدَم، يبلغ قطرها حوالي5م وارتفاعها 2. 5 متر مبينة بالطابوق ومكسوة بالجص الذي لم يبق منه سوى مساحات محدودة على وجه القبة.