من أهم مميزات السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) والتي تنبئ عن فضلها ومقامها وعظمتها أن نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد انحصر فيها، وامتد منها، ولم يقتصر هذا الامتداد على الاتساع والامتداد الجسمي فقط، بل كان امتداداً معنوياً وروحياً وفكرياً وأخلاقياً لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وامتداداً لرسالة الإسلام وأصوله الاعتقادية وفروعه التشريعية، فقد تولد من هذا النسل المبارك الأئمة الطاهرون، والعلماء الربانيون ممن حملوا راية الإسلام، والدفاع عن مبادئه وقيمه وأخلاقه وآدابه.
وقد أشارت سورة الكوثر إلى هذا المعنى، وقد ورد في كتب الحديث والتفاسير أن المقصود بالكوثر في السورة هي السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ويقوي هذا الرأي سبب نزول السورة، والآية الأخيرة منها.
فالمشركون والكفار والمنافقون وصفوا النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه أبتر بعد وفاة أولاده الذكور، والأبتر هو الشخص الذي لا ابن له، لكن الله تعالى رد عليهم بأن عدو النبي (صلى الله عليه وآله) هو الأبتر، وهو الذي سينتهي ذكره وأثره، أما رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد انتشرت ذريته المباركة في كل أصقاع الدنيا.
وقد أشار الفخر الرازي في تفسيره إلى هذا المعنى بعد استعراضه لمجموعة من الأقوال في معنى الكوثر قال ما نصه: «والقول الثالث: الكوثر أولاده. لأن هذه السورة إنما نزلت رداً على من عابه (صلى الله عليه وآله) بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان.
(ثم قال): فانظر، كم قتل من أهل البيت؟! ثم العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثم انظر كم كان فيهم الأكابر من العلماء [الأئمة] كالباقر والصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام) والنفس الزكية وأمثالهم»[1].
فالسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي كوثر الخير والبركة، فقد انتشر نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) منها، وخرج من هذه الذرية الطاهرة الكثير من الأئمة والعلماء والقادة والفقهاء والرواة… وغيرهم الكثير.
سبب نزول سورة الكوثر
ذكر المفسر المعروف الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي أن سورة الكوثر نزلت في العاص بن وائل السهميّ وذلك أنّه رأى رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم وتحدّثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد فلمّا دخل العاص قالوا: من الَّذي كنت تتحدّث معه؟
قال: ذلك الأبتر!
وكان قد توفّي قبل ذلك عبد اللَّه بن رسول اللَّه وهو من خديجة وكانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر، فسمّته قريش عند موت ابنه (صلى الله عليه وآله) أبتر، وصنبوراً، عن ابن عبّاس [2].
وسبب نزول السورة يؤكد أن المقصود من الكوثر هي السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كما أشارت لذلك بعض الروايات، فهي كوثر الخير والبركة والذرية الطاهرة.
ثم إن الكوثر في اللغة من الكثرة وهو الشيء الذي من شأنه الكثرة، والكوثر الخير الكثير[3].
ومما لا شك فيه أن المقصود من الكوثر هنا كثرة النسل ودوامه واستمراره، حيث استمر نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ابنته الكريمة والفاضلة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام).
الزواج وبقاء النسل البشري
من أهم أهداف الزواج الرئيسة والمهمة والضرورية هو بقاء النوع البشري واستمراره، إذ أن الوسيلة الطبيعية والشرعية الوحيدة للتكاثر والتناسل هو التناكح بين الرجل والمرأة، قال تعالى: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾[4] فهذه الآية الكريمة تشير إلى السنة التكوينية الإلهية في التكاثر والتناسل والتوالد الناتجة من العلاقة الزوجية بين الزوج وزوجته.
ويحث نبينا الكريم أمته على التكاثر والتوالد، حيث يقول (صلى الله عليه وآله): «تَناكَحُوا تَكثُرُوا فإنّي اُباهِي بِكُمُ الامَمَ يَومَ القِيامَةِ حَتَّى بِالسِّقْطِ»[5]، ويقول (صلى الله عليه وآله): «النِّكاحُ سُنَّتِي، فَمَن لَم يَعمَلْ بِسُنَّتِي فَلَيسَ مِنّي، وتَزَوَّجُوا فإنّي مُكاثِرٌ بِكُمُ الامَمَ»[6]، وعنه (صلى الله عليه وآله) قال: «النِّكاحُ سُنَّتِي، فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيسَ مِنّي»[7].
وحفظ النوع البشري وضمان استمراره من أسمى الأهداف؛ لأن النوع البشري سيد المخلوقات، فالإنسان هو أشرف الموجودات الكونية، بل إن كل الكائنات الأخرى، وكل ما في هذا الوجود إنما هو من أجل الإنسان، الذي كرّمه الخالق -تبارك وتعالى- وفضله على سائر المخلوقات الأخرى، ولا معنى للحياة الحقيقية من دون وجود الإنسان، ولا ضمان لوجود الإنسان إلا من خلال التوالد الطبيعي الحاصل من الزواج الشرعي.
الذرية المباركة والذرية الشيطانية
كما توجد ذرية مباركة وطاهرة وناشرة للخيرات والبركات، توجد ذرية فاسدة وشيطانية وناشرة للشر والفساد، وكما توجد ذرية تنشر العلم والمعرفة وتفيد البشرية، توجد ذرية جاهلة تنشر الجهل وتضر بالمجتمع.
فكم استفاد المجتمع الإنساني من ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما قدموه من علوم ومعارف أفادت الأمة، وساهمت في بناء الحضارة الإنسانية.
ويوجد في المقابل من أضر بالأمة، وساهم في نشر المظالم والفاسد، وقضى على العلماء والحكماء؛ والتاريخ مليء بذلك.
تكثير النسل المبارك
التشجيع على الزواج المبكر والنوعي مهم وضروري للقضاء على العنوسة، والتقليل من المفاسد، وتكثير النسل الصالح، فبعض الأسر يجب تكثيرها كالأسر العلمية، والأسر المباركة، والأسر المتميزة، وبعض الأسر وجودها مضر بالمجتمع والأمة.
وتوجد ظاهرة في الوقت المعاصر وهي أن بعض الأزواج عازفون عن الإنجاب تحت حجج مختلفة، ودعاوى متنوعة، وهذا أمر خاطئ لأنه سيحول المجتمع مع مرور الزمن إلى مجتمع يمر بمرحلة الشيخوخة كما هو موجود الآن في بعض المجتمعات الأوروبية التي تعاني من قلة الإنجاب، وبالتالي عدم وجود الشباب.
إن تكثير النسل المؤمن فيه صلاح للمجتمع حتى يخرج من بينهم من يتميز بالعلم والفكر ويساهم في بناء الأمة والحضارة.