م/ محمود جابر
الزهراء الفرقان الحي
كنا وما زلنا نعترف بعجزنا، عن أن نقترب من نور شمس النهار، وكبد الحقيقة القاصمة، والقاسمة، القاصمة لظهور أهل الباطل، والقاسمة بين أهل الرضوان، وأهل الطغيان، وما زال الشوق الجارف يجرفنى بأن اخط، مستنيرا بملهم الذكرى، وباعث النهضة من (( ناصر الزهراء)) ألتمس الخطى بحثا عن طريق مهاد ..
مفتشا عن مسحة طازجة وفارقة لكل ما اعتدنا سماعه، وقوله لصورتها التى تلمس الندى، بل هى مبعث الندى النقى، الطاهر الزكي سلام الله عليها من يوم خلق الله الخلق إلى يوم يبعثون يوم الفرقان ..
من وجوه المجتمعين المظلومين – منذ عقود طويلة- المحتشدين فى ساحة العشرين معظمين شعائر الله، ومشيعين سر الكون الدفين، يبحثون عن فرقان يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وصاحب سبل السلام داعيا، ومتشح بالسواد، وباكيا حزينا مسهد، قلبه متحير بين حسرات عديدة، حسرة المعلم والمرشد والدليل المفقود، وحسرة الجموع المظلومة، وحسرة تفوق كل السابقات أنها مظلومية سيدة نساء العالمين ..
الجموع التى سجنت، وقُتلت، واستعمرت، واستبيحت بيوتهم وأموالهم وأعراضهم، يعيشون نفس اللحظة ونفس الإحساس يلتمسون ” فرقانا” لا يسوى بين قاتل معتدى والمقتول، ولا بين ظالم ومظلوم، ولا بين السجان والمسجون، ولا بين الخائن والواقفين على التل حتى يتضح الخيط الأسود من الفجر….
وإذا بـ ” الناصر” اليعقوبى يعلنها …. وسط هتاف المجتمعين ” لبيك يا زهراء”…..
وإذا بالمذياع يحُث المجتمعين بالصلاة على محمد استقبلا للناصر وخطابه الفاطمي يوم 3 جمادي الثانية 1428هـ الموافق 19 حزيران 2007 .
فقال …. يوم الزهراء عليها السلام يوم الفرقان.
ولا يمكن لليعقوبى أن يتحدث عن ( فرقان الزهراء) دون أن يتطرق للبديهيات فى مظلومية الزهراء، تلك البديهيات المطموسة التى ارتباط تاريخنا الإسلامي بجملة منها أسهمت إلى حدّ بعيد في دثر الكثير من الحقائق من جهة وتزوير وتلفيق العديد من الحقائق من جهة أخرى، وذلك منذ البدايات الأولى لتدوينه في العصر الأموي حسبما تقتضيه المصلحة للأنظمة السياسية الحاكمة آنذاك وبما يخدم توطيد أركانها في الحكم لأنّها كانت ترى أنّ نشر تلك الحقائق سيؤدّي إلى زعزعة الأوضاع وتأليب الرأي العام، ومن أجل ذلك قامت بالترغيب مرّة عن طريق بذل الأموال والعطايا على المدونين سواء كانوا من نقلة الحديث أم من رواته ، وبالترهيب مرّة أخرى بالحبس والقتل والتشريد، ومن يتتبّع التاريخ الأموي والعبّاسي سيجد أمثلة حيّة على ذلك، وعلى ما قاله (( ناصر الزهراء) فى خطبة التشيع الرمزى الثانية .
ومن الأمور التي لم تزل مثار نقاش وجدل بين علماء المسلمين على مختلف مذاهبهم ومشاربهم الفكرية هي مظلومة الزهراء.
ومن يقرأ هذه الفترة الحرجة من تاريخ المسلمين فإنّه سيرى بوضوح تزوير الحقائق، حيث نجد عدّة تيّارات متمثّلة بمدوّني الحديث والمؤرّخين وعلماء الرجال ومن يسير في ركابهم ممّن دوّنوا تلك المرحلة ، فالبعض حاول أن يطمس الأحداث ولم يتعرّض لها لا من قريب ولا من بعيد، كما أنّ البعض الآخر كان يزيّف ويحذف حسبما تشتهيه رغبته أو مصلحته ، في الحين الذي كان يحاول بعض المؤرّخين تزويق الأحداث وتبرئة ساحة البعض بإيجاد الأعذار الواهية التي لا تتناسب مع سوء الأفعال .
وهذا ما رآه اليعقوبى واضحاً وجليّاً ومن هنا طرح موضوع خطبتها التي ألقتها على المهاجرين والأنصار، وما جاء فيها من الأدلّة الدامغة ما لا سبيل إلى إنكاره أو ردّه .
ومن يقرأ بتمعّن وتفحّص مفردات الخطبة سيجد ضالّته التي ينشدها بعيداً عن التعصّب المذهبي .
وعليه طرح اليعقوبى أمرين مهمّين تاركا للسامع والقارئ حرّية الحكم بما ذكرته كتب الصحاح والتواريخ .
فاليعقوبى بدأ بما جاء فى صحاح السنة والشيعة وما أجمعت عليه الأمة جميعا من حديث النبى .
فقد تواترت في كتب الصحاح عدد غير قليل من الأحاديث في مناقب وفضائل الزهراء(عليها السلام)، ومن يحاول الرجوع إليها سيجد أحاديث مسندة لا غبار عليها معتبرة مأخوذ بها ، منها قوله (صلى الله عليه وآله) : «فاطمة بضعة منّي يؤذيني من آذاها»صحيح مسلم 4/1903 ، مسند أبي عوانة 3/70 ، المعجم الكبير 22/405 ، وذكرته مصادر أخرى .
، وحديث آخر عن الرسول(صلى الله عليه وآله) : «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني»صحيح البخاري 3/1361 ، السنن الكبرى للبيهقي 5/97 ، المعجم الكبير 22/404 ، فضائل الصحابة للنسائي 1/78 ، وذكرته مصادر أخرى .
ومن هذا المنطلق فقد عالجة خطبة اليعقوبى أمرين :
أولاً : بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وانقلاب الموازين السياسية في سقيفة بني ساعدة وما جرى من الخلاف بين المهاجرين والأنصار حول الخلافة ومن يتولاّها، فقد احتجّ كلا الطرفين على الآخر بأدلّة ترجّح كفّته، وكانت نهاية المطاف انتخاب أبي بكر خليفة للمسلمين، في حين اتّخذ عدد من المهاجرين والأنصار موقفاً معارضاً من هذه البيعة ، لأنّهم وجدوا الأحقّية للإمام علىّ (عليه السلام) في تولّي هذا المركز الحسّاس، سواء في ما جاء عن الرسول(صلى الله عليه وآله) من أحاديث ترجّح كفّته، أو في ما يمتلكه من المهارات القيادية والمميّزات الأخرى التي كانت ترشّحه لهذا المنصب .
وعليه كانت البدايات الأولى لهذه المطالبة تتمثّل بالصدّيقة الطاهرة فاطمة(عليها السلام) عندما جاءت إلى الخليفة الأوّل مطالبة بإرثها من النبى(صلى الله عليه وآله)، فذكر لها الخليفة أنّه سمع منه (صلى الله عليه وآله)، «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه صدقة»، وقد احتجّت عليه الزهراء(عليها السلام) بما جاء في القرآن الكريم من آيات المواريث، ثمّ إنّها احتجّت عليه بقولها : «من يرثك ، قال : أهلي وولدي ، فقالت : فمالي لا أرث النبيّ»، وفي حديث آخر : «فما لك ترث النبيّ دوني»، وهذا دليل لا يقبل المناقشة .
والأمر الآخر المرتبط بهذا الموضوع أنّها بعد ذلك طالبته بفدك التي أنحلها الرسول(صلى الله عليه وآله) للزهراء بعدما نزلت الآية : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)الإسراء 17، حيث دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) فاطمة فأعطاها فدك، إلاّ أنّ الخليفة رفض ادّعاءها وطالبها بالشهود، فأتت بالإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وأمّ أيمن، فردّت شهادتهما، وعلّل ذلك الأمر أحد شيوخ ابن أبي الحديد المعتزلي إذ سأله فقال : «أكانت فاطمة صادقة في دعواها؟ قال : نعم ، قال له ـ ابن أبي الحديد ـ فلم لم يدفع لها أبو بكر فدكاً وهي عنده صادقة؟ فتبسّم ، ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرّد دعواها لجأت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكنه حينئذ الاعتذار بشيء ، لأنّه يكون قد سجّل على نفسه بأنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة وشهود ، قلت : ولهذا استباح أبو بكر شهادة عليّ بن أبي طالب لفاطمة بالنحلة وإلاّ فإنّ يهود خيبر على لؤمهم وإنّ عليّاً دمّرهم لينزّهونه عن شهادة الزور، وبهذا أيضاً لا بسواه استنوق الجمل فاعتبر ذات اليد متصرّفة مدّعية فطالبها بالبيّنة ، إنّما هي عليه ، الأمر الذي علمنا دبّر بليل»شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16/283.
وقد علّق ابن كثير على هذه الحادثة بقوله : «واحتاج عليّ أن يراعي خاطرها بعض الشيء»، وهذا ما أكّده محمود أبو ريّة بقوله : «بقي أمر لابدّ أن نقول كلمة صريحة : ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة (رضي الله عنها) بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) وما فعل معها في ميراث أبيها ، لأنّها إذا سلّمنا بأنّ خبر الآحاد الظنّي يخصّص الكتاب القطعي ، وأنّه قد تبيّن أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد قال : إنّه لا يورث ، وأنّه لا تخصيص في عموم هذا الخبر ، فإنّ أبا بكر كان سعيه أن يعطي فاطمة (رضي الله عنها) بعض تركة أبيها(صلى الله عليه وآله) كأن يخصّها بفدك ، وهذا من حقّه الذي لا يعارضه فيه أحد ، إذ يجوز للخليفة أن يخصّ من شاء بما شاء . . . . وقد خصّ هو نفسه الزبير بن العوّام ـ وكان صهره على أسماء أمّ عبد الله ـ ومحمّد بن سلمة وغيرهما ببعض متروكات النبىّ(صلى الله عليه وآله) ، على أنّ فدكاً التي منعها أبو بكر لم تلبث أن أقطعها الخليفة عثمان لمروان».
لذا كان على الخليفة الأوّل كما أشار السيّد شرف الدين : «أن يتّخذ طريق الحكمة في معالجة هذا الموضع ، ولو فعل ذلك لكان أحمد في العقبى، وأبعد عن مظانّ الندم ، وأنأى عن مواقف اللوم ، وأجمع لشمل الأمّة ، وأهل له بالخصوص».
إلاّ أنّ هذا الأمر كان مرتبطاً ارتباطاً كلّيّاً بمقدّرات الخلافة والحكم وفي حالة الإقرار بأمر سينتهي به الحال إلى فقدان الكلّ، ولم يقف الحال عند هذا فحسب بل ترتّب عليه تركات وعواقب وخيمة متمثّلة بانقسام المسلمين إلى فئات ومذاهب وما تمخّض عنه من صراعات فكرية وعقائدية لا تنتهي إلى يوم القيامة .
وعند قراءتنا لمسيرة الأحداث بعد ذلك نرى عمق الخلاف الذي أصبح بين الزهراء والخليفة ، حيث تشير الروايات بدقّة إلى ما سار إليه الأمر وما نجم عنه : «فغضبت بنت رسول الله وهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت».
وفي رواية أخرى قالت للشيخين : «لا أكلّمهما أبداً فماتت ولا تكلّمهما».
ولم يقف الأمر عند هذا فحسب بل إنّها أوصت الإمام علىّ ع قبيل وفاتها أن يدفنها ليلاً وأن لا يحضرها الشيخين ، حيث ذكر أنّها : «دفنت فاطمة ليلاً ولم يشعر أبو بكر حتّى دفنت وصلّى عليها علىّ»، وعلّل ذلك ابن حجر أنّه : «كان ذلك بوصيّة منها».
وفي رواية عن عائشة : «فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منه شيئاً، واستأثر لبيت المال لكلّ ما تركه النبىّ من بلغة العيش لا يبقي ولا يذر شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت وعاشت بعد النبيّ ستّة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها زوجها عليّ ليلاً ولم يؤذن بها أبو بكر . . . .».
وهذا أمر بديهيّ ولا يحتاج إلى تعليق أو تبيان ، لأنّ دفن الليل وعدم حضور الشيخين دليل على أنّها ماتت وهي غضبى عليهما.
ثانياً : ومن الأمور الأخرى التي لم تزل مثار جدل ونقاش بين المسلمين حول مدى صحّة الأقوال التي ذكرت هجوم القوم ـ ممثّلاً بالخليفة الثاني ومن جاء معه ـ على بيت فاطمة وحجّته .
فقد ذهب عدد غير قليل من المصادر إلى أنّ بيت الزهراء كشف وذلك بناءً على ما ذكره الخليفة الأوّل على نفسه في الساعات الأخيرة من حياته ، حيث قال : «أما إنّي لا آسي على شيء إلاّ على ثلاث فعلتهنّ ووددت أني لم أفعلهن ، وثلاث لم أفعلهنّ وددت أني فعلتهنّ ، وثلاث وددت أنّي سألت رسول الله(صلى الله عليه وآله) عنهنّ ، فأمّا الثلاث التي لم أفعلهنّ ، أنّي لم أكشف بيت فاطمة وتركته وأن أغلق على الحرب ، وددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة قدّمت الأمر في عنق أحد الرجلين أبو عبيدة أو عمر».
وأشارت مصادر أخرى إلى مهاجمة بيت الزهراء(عليها السلام) بعد أن أمتنع الإمام وعدد من المهاجرين عن المبايعة ، حيث ذكروا أنّه أراد أن يحرق عليهم البيت، بينما يذكر الطبري : «أتى عمر منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال والله لأحرّقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة»، بينما يذكر ابن قتيبة : «أنّ أبا بكر تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند عليٍّ (كرّم الله وجهه) ، فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم وهم في دار عليّ : فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده ، لتخرجنّ أو لأحرّقنّها على من فيها ، فقيل له يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة؟ فقال وإن . . .».
ولم تقف الروايات عند هذه المأساة فحسب ، بل ذكرت أنّ الزهراء(عليها السلام) قد تعرّضت إلى الضرب، وأكّدت بعضها على مهاجمتهم البيت وإسقاط جنينها المحسن.
وبناءً على ما تقدّم هناك سائل يسأل : هل كان فعل الخليفة الأوّل والثاني يتناسب مع حبيبة النبى (صلى الله عليه وآله)؟
ولكن لا أقول أكثر ممّا قالته مولاتنا فاطمة الزهراء(عليها السلام) : «فنعم الحكم الله والزعيم محمّد(صلى الله عليه وآله) والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ولكلّ نبأ مستقرّ» .
وتحاول اليوم بعض الأبواق والمنصات المأجورة برفض هذه الروايات وإطلاق دعوات معروفة أغراضها وأهدافها ومن يختفي وراءها ويساندها ، بيد أن هذا التشيع الرمزى السنوى الذى أطع به ناصر الزهراء اليعقوبى فضح كل هذا وأعاد إلقاء الضوء على هذه المظلمة.
خطبة الزهراء :
وخطبة الزهراء التى تعرض لها ناصر الزهراء اليعقوبى فى خطبته التى نحن بصددها، والتى تعرضت تلك الخطبة لعملية تزوير بالغ ونحن نعرض الحدث والخطبة بطولها للكل قارىء له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد …
لمّا بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتّى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار فضرب بينهم وبينها ريطة بيضاء قبطية ثمّ أنّتْ أنّةً أجهش القوم لها بالبكاء ثمّ أمهلت طويلاً حتّى سكنوا من فورهم ثمّ قالت :
ابتدىء بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد ، الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر بما ألهم ، والثناء بما قدّم ، من عموم نعم ابتدأها ، وسبوغ الآء أسداها، وتمام منن والاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في الفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيئته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلاّ تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريّته، وإعزازاً لدعوته، ثمّ جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، زيادة لعباده من نقمته، وحياشة لهم إلى جنّته، وأشهد أنّ أبي محمّداً عبده ورسوله اختاره قبل أن يجتبله واصطفاه قبل أن يبتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله بمآل الأمور، وأحاطه بحوادث الدهور، ومعرفة منه بمواقع المقدور ابتعثه إتماماً لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير رحمته، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عابدة لأوثانها، عكفاً على نيرانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي ظلمها، وفرّج عن القلوب بهمها، وجلا عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، وأنقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم، ثمّ قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار بمحمّد عن تعب هذه الدار، موضوعاً عنه أعباء الأوزار، محفوفاً بالملائكة ورضوان الربّ الغفّار، وجوار الملك الجبّار، فصلّى الله على أبي نبيّه، وأمينه بالوحي وخيرته في الخلق ورضيّه، ورحمة الله وبركاته .
ثمّ التفتت إلى أهل المجلس وقالت :
وأنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة كتاب الله ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغائه إلى الأمم حولكم، لله فيكم عهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب الله بيّنة بصائره، منكشفة سرائره متجلّية ظواهره، قائد إلى الرضوان أتباعه، ومؤدٍّ إلى النجاة استماعه، فيه بيان حجج الله النيرة، ومواعظه المكرّرة، ومحارمه المحذورة، وأحكامه الكافية، وبيّناته الجالية، وجمله الشافية، وشرائحه المكتوبة، ورخصه الموهوبة، ففرض الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر، والزكاة تزييداً لكم في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحجّ تشييداً للدين، والعدل تنسّكاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة، والبرّ بالوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدل، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكائيل والموازين تغييراً للبخسة واجتناب قذف المحصنات حجاباً من اللعنة، والانتهاء عن شرب الخمور تنزيهاً من الرجس، ومجانبة السرقة إيجاباً للعفّة، والتنزّه عن أكل أموال الأيتام والاستيثار بفيئهم إجارة من الظلم، والعدل في الأحكام إيناساً للرعية، والتبرّي من صفة الشرك إخلاصاً له للربوبيته، فاتّقوا الله حقّ تقاته، وأطيعوا فيما أمركم به ، فإنّما (يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)، فاحمدوا الله الذي بعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته ومحلّ قدسه، ونحن حجّته في غيبته، ونحن ورثة أنبيائه .
ثمّ قالت :
أنا فاطمة بنت محمّد أقول عوداً على بدء، وما أقول ذلك سرفاً ولا شططاً، فاسمعوا إليّ بأسماع واعية وقلوب راعية، (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)، فإنْ تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، فبلّغ الرسالة، صادعاً بالنذارة، مائلاً عن سنن المشركين، آخذاً بأكظامهم، يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، يهشم الأصنام، ويفلق الهام، حتّى انهزم الجمع وولّوا الدبر، حتّى تعرّى الليل عن صبحه، وأسفر الحقّ عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وتمّت كلمة الإخلاص، وكنتم على شفا حفرة من النار نهزة الطامع، ومذقة الشارب، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق وتقتاتون الورق، أذلّة خاسئين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم، حتّى أنقذكم الله برسوله بعد اللتيّا والتي، وبعد أن مُنِي بُهَمُ الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلّما أوقدوا للحرب ناراً أطفأها الله، أو نجم قرن للشيطان، أو فغرت فاغرة للمشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتّى يطأ صماخها بأخمصه، ويطفئ عادية لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، وأنتم في رفاهية آمنون فاكهون وادعون، حتّى إذا اختار الله لنبيّه دار الأنبياء، ظهرت حسيكة النفاق وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين، وهدر فنيق المبطلين، يخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه صارخاً بكم، فدعاكم وألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرّة فيه ملاحظين، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين، فهيهات وأنّى بكم وكيف تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم وزواجره بيّنة وشواهده لائحة وأوامره واضحة، رغبة عنه تريدون، أم بغيره تحكمون، بئس للظالمين بدلاً، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ثمّ لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها، ويسلس قيادها، ثمّ أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها، تُسرّون حَسواً في ارتغاء، وتمشون لأهله، وولده في الخمر والضرّاء، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى، ووخز السنان في الحشا، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا أفحكم الجاهلية تبغون (ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْم يُوقِنُونَ).
يابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئاً فريّا، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله والزعيم محمّد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكل نبأ مستقرّ (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ).
قال :
ثمّ التفتت إلى قبر أبيها فتمثّلت بقول هند بنت أثاثة :
قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثةٌ *** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبُ
أبدت رجال لنا فحوى صدورهم ** لما قضيت وحالت دونك الترب
تجهّمتنا رجال واستخفّ بنا *** إذ غبت عنّا فنحن اليوم نغتصب
قال : ولم ير النّاس أكثر باك ولا باكية منهم يومئذ ثمّ عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت :
يا معشر البقية وأعضاد الملّة وحضنة الإسلام ما هذه الفترة عن نصرتي، والونية عن معونتي، والغمزة في حقّي، والسنة عن ظلامتي، أما كان رسول الله يقول : «المرء يحفظ في ولده» سرعان ما أحدثتم، وعجلان ما آتيتم، ألآن مات رسول الله، أمتّم دينه وها إنّ موته لعمري خطب جليل، استوسع وهيه، واستنهر فتقه، وفقد راتقه، واظلمّت الأرض له، وخشعت الجبال، وأكدت الآمال، وأضيع بعده الحريم، وهتكت الحرمة، وأزيلت المصونة، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته، وأنبأكم بها قبل وفاته فقال (وما مُحمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَد خَلَتْ مِن قَبلِه الرُّسُل أفإن ماتَ أو قُتِل انقلَبتم على أعقابكم ومَن ينقلب عَلى عَقبيه فَلن يضُرّ اللهَ شيئاً وسَيَجزي اللهُ الشاكرينَ).
إيهاً بني قيلة، أُهتضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع تبلغكم الدّعوة ويشملكمالصوت وفيكم العدّة والعدد، ولكم الدار والجُنن، وانتم نخبة الله التي انتخب، وخيرته التي اختار، باديتم العرب، وبادهتم الأمور، وكافحتم إليهم، حتّى دارت بكم رحى الإسلام ودرّ حلبه، وخبت نيران الحرب، وسكنت فورة الشرك، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين، أفتأخّرتم بعد الإقدام ونكصتم بعد الشدّة، وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكصوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم، فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا إيمان لهم لعلّهم ينتهون، ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض وركنتم إلى الدّعة، فجحدتم الذي وعيتم، ودسعتم الذي سوّغتم، وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغنيّ حميد .
ألا وقد قلت لكم ما قد قلت على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم وخور القنا وضعف اليقين، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر ناقبة الخفّ، باقية العار، موسومة الشعار، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطّلعُ على الأفئدة، فبعين الله ما تعملون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ)…..
وفى الختام… وما زال حبل الحديث موصولا مع الناصر اليعقوبى عن فرقان الزهراء ع…