في يوم الخامس والعشرين من شهر رجب من كل سنة تحيي الملايين من أتباع أهل البيت في أنحاء العالم ذكرى استشهاد الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، فتزحف مئات الألوف على جسره الخالد الذي يحاكي المسير عليه تجديد ظلامته الفجيعة.
فتقيم الملايين المآتم والمواكب لفجيعته، ويبكون لاستشهاده، لأنه الإمام المظلوم المسجون الذي لاقى أنواعاً من الظلم والاضطهاد والاستخفاف من ساجنيه وقاتليه.
ولا مبالغة أن عُدت ظلامة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) في المرتبة الثانية من ظلامات أئمة أهل البيت (ع) من حيث المأساة والفجيعة لما لقيه من أنواع الظلم والتنكيل في حياته وبعد استشهاده.
لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه في مثل هذه المناسبة الأليمة: لماذا تحمل الإمام موسى الكاظم (ع) كل ذلك الظلم والجور الذي لحق به من سياسة بني العباس، بحيث ضحى بعمره بين إقامة جبرية، وزنازين السجون وظُلم المطامير، وتقييد بالسلاسل والحديد، وقتل بالسم، واستخفاف بجنازة، هل كل ذلك من أجل البكاء واللطم والنوح عليه فقط؟!!. والجواب: كلا وألف كلا.
إن تضحية موسى بن جعفر الكاظم (ع) تضحية عظيمة لا يصنعها إلا الصفوة من البشر لأنها تضحية تختزل في جوهرها غايات سامية ورؤى مستقبلية قد يغفل عنها الكثيرون.
إنها تضحية خالدة تأمل من خلالها أن يصنع من شيعته ومحبيه عبر كل الأزمنة علماء لا جهلاء، ونشطاء لا متقاعسين، ومالكين لقلوب سليمة لا عليلة، وعاملين بضمائر حية لا ميتة، كما صنع من مستهتر عاصي كبِشر البغدادي ملاكاً خاشعاً وعالماً زاهداً.
وهي تلك الإرادة الصادقة التي بدلت كيان فتاة منحرفة أُدخلت عليه في السجن لتخرج من عنده بكيان العابدة القانتة!!.
إنها جوهر المعرفة الإلهية وثقافة التغيير الحقيقية التي يُراد أن تسود على هذه المعمورة اختصرها في صبره وسجدته الطويلة، وهي المعرفة والثقافة التي أراد غرسها في نفوس شيعته ومحبيه ليفروا إلى خالقهم، ويتسلحوا بالعلم النافع، ويثبتوا على العقيدة الحقة، ويوالوا أولياء الله، ويعادوا أعدائه، ويهذبوا أخلاقهم، ويرتقوا بذواتهم.
إن الثمن الحقيقي لتضحية الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) الكبرى ليس محصوراً في مآتم تقام على ظلامته، ومواكب تخرج يوم مصيبته، ودموع تسكب على مصيبته، وصرخات تتردد على فجيعته؛ بل في إرادة متجددة يعاهد بها كل شيعة آل محمد إمامهم موسى بن جعفر (ع) من أجل تغيير واقعهم إلى الأفضل، ويرتفعوا إلى الأحسن، ويصلوا إلى الأكمل، ويدركوا أن الله خلقهم ليحيوا وليس ليعيشوا، حينها يمكن أن تصنع تلك الإرادة بشراً مغيرين لأنفسهم، ومؤثرين في غيرهم، وناهضين بمجتمعاتهم، ومحبين لغيرهم، ومحسنين لكل مسيء لهم.
وهذا لا يتم إلا باتخاذ الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) قدوة لهم في حياتهم وأخلاقهم وتعاملاتهم، لأنه الإمام الذي جسد بإيمانه وصبره صوراً كمالية في نشر العلم، والثبات على العقيدة، والذود عن القيم، وتثبيت مكارم الأخلاق، فكان مصداقاً جلياً لقول الله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
فإذا استثمر الشيعة كل إمكانياتهم وقدراتهم من أجل الوفاء بعهودهم مع إمامهم موسى بن جعفر الكاظم (ع) حينها سيكونون قادرين على تغيير واقعهم المتردي، وينهضوا بمجتمعاتهم، ويخلقوا ملايين من أمثال بشر الحافي والفتاة العابدة.
يومئذ سيكون إمامهم موسى بن جعفر الكاظم (ع) مفتخراً بزائريه ومسروراً بشيعته، لأنهم أصبحوا زيناً له، لا شيناً عليه، ويعلم أن تضحيته الكبرى التي ضحاها من أجلهم أثمرت فيهم.
ترجمانٌ متجددٌ لحقوق الإنسان..
حينما يدقق الإنسان بعين مجردة وأداة منصفة بين فئات المجتمعات البشرية بعيداً عن الميول والتبعية باحثاً عن المصداق الحقيقي للنماذج البشرية الواعية التي تعكس بفكرها ومعرفتها المستنيرة رقي إنسانيتها واحترامها لماهية البشر بعيداً عن المعتقدات والتوجهات.
فبلا شك ستقع عيناه على خليط بشري متنوع حمل لواء العلم والمعرفة دلت علومهم وأخلاقهم على رقي ذواتهم ومستوى سُموِها، فأناروا بآثارهم دروب الإنسانية قاطبة، خاصة ونحن نعيش زمن الحداثة والانفتاح الذي تحتاج فيه المجتمعات البشرية إلى قدوات إنسانية كاملة حملت شعار حقوق الإنسان، وطالبت بحفظ كرامته وصيانة حقوقه، وعملت بكل الوسائل على تنوير عموم المجتمعات البشرية بالمفاهيم الحقوقية والإنسانية.
وحتماً سيظفر الباحث المنصف في سيرة الإنسان البشري على رونق كامل وفريد تكاملت فيه جوانب العلم والأخلاق، وإلمام بالحقوق والواجبات، فجسدوا من خلال علومهم وسلوكهم البعد الإنساني والكمال الحياتي، بل لم يتركوا رافداً من روافد العلم، وجانباً من جوانب الحياة إلا أشبعوه بالعمل والتطبيق قبل الكلام والتنظير، وهم صفوة البشر المتمثلون في النبي محمد (ص) وأهل بيته الطاهرين.
ومن بين تلك الصفوة إمام نحيل الجسم تهزُ الريح القوية قِوامه، وتحد من مِشيته، يختزل بين جنبيه هيبة ربانية وإرادة صلبة لا تلين صنعت من المستحيلات المعاجز العظيمة، وخلق من صبره طريقاً للحياة السامية، وإرادة صلبة للمضي قدماً في مقارعة الظلمِ والظالمين، وصنع من كظم غيظه نوراً وهاجاً، وأملاً متجدداً في نفوس بني عموم البشر، أنه سَمِيِّ نبي الله موسى بن عمران (ع) الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع).
فالسياسة الجائرة لدولة بني العباس سعت إلى تكبيل حرية ذلك الإمام لمجرد أنه إنسان تصدى لسياسة ظلمهم وجورهم، فأمرت بإيداعه السجون والطوامير، وسرعان ما أظهرت تلك السياسة تجردها من مصداقيتها حينما أصرت على سلب حريته، ونقلته من سجن إلى سجن، ومن طامورة إلى طامورة حتى طال به الأمد عشرات السنين بين غياهب السجون، وظُلم المطامير بدون أي تهمة أو جريمة يُدان بها.
ولم يقف سلب الحقوق الإنسانية في سيرة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) إلى هذا الحد ؛ بل تعداه إلى أسوء من ذلك حينما أمر هارون العباسي بوضعه في طامورة تحت الأرض لا يًعرف فيها الليل من النهار، مقيداً بسلاسل ثقيلة في يديه ورجليه حدت من حركته، وأذابت لحمه، ونخرت عظامه!!.
وكانت أبشع صور الاضطهاد والظلم والاجترار على المبادئ الإنسانية في سياسة هارون العباسي المقيتة حينما عمد إلى إزهاق روح ذلك المسجون عنوة وعمداً بدس الِسُم النقيع له في طعامه، وهو لازال أسير السجون مكبلاً بالسلاسل في يديه ورجليه!!.
وجاءت نهاية فصول الدراما الدامية لظلامة الإمام موسى الكاظم (ع) في قلب كل من رأى أو تصور ذلك المشهد الإنساني المفجع حينما أصدرت حكومة بني العباس مرسومها بإخراج جثمانه النحيف على لوح خشبي يحمله أربعة من العبيد السود بعد أن لُف بعباءة سوداء، وصوت خشخشة الحديد لايزال يُسمع من رجليه ويديه!!.
وأمرت حكومة الجور برمي جنازته على جسرٍ الرصافة ببغداد من أجل الفرجة والسخرية، ومناديهم ينادي عليها بذل الاستخفاف: هذا إمام الرافضة قد مات حتف أنفه فانظروا إليه، وكل ذلك في قانون وسياسة سلاطين أدعوا أنهم حاملين لواء الإسلام وناشريه في قارات العالم!!.
لذلك لم تكن ظلامة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) إلا عنواناً صارخاً، وصورة متجددة في تاريخ بني البشر من أجل المناداة بحقوق الإنسان المنتهكة والمسلوبة، فكانت صور سلب الحقوق والتعدي على الحريات البشرية على مر العصور تترجمها صور ظلامة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) المغيب في قعر السجون، وظُلم المطامير.
فحرِي بمن يرفع لواء المطالبة بحفظ حقوق الإنسان والحريات من منظمات وأفراد في أنحاء العالم أن يقرأ ويتأمل في سيرة الإمام موسى الكاظم (ع) ليدرك تماماً ويقيناً أن ابن جعفر ترجم بصبره وسلبِ حريته أحقية الإنسان في المطالبة بعيشة حرة كريمة.
إن المتبحر في قراءة حياة هذا الإمام المظلوم يخلص إلى نتيجة مفادها: أن موسى بن جعفر الكاظم (ع) ترجمان متجدد لحقوق الإنسان المسلوبة، يستطيع كل إنسان على وجه الأرض من خلال سيرته العطرة وظلامته الخاصة أن يتعرف على أدواره الكاملة، ويؤدي واجباته المفترضة، ويُعطى بموجبها حقوقه المشروعة.
ويقيناً نقول: أن من يريد أن يستشعر معنى الكرامة الإنسانية برمتها، خاصة لمن سُلِب أو أنتهك منه حق من حقوقه الإنسانية، فليجرب أن يطأ جسراً خالداً أسسهُ موسى بن جعفر(ع) ليستلهم من روحه المتفانية، وصبره العظيم، وذوده عن الحق فيضاً من فيوضات الكرامة والعزة الإنسانية الكاملة. نعم والله، يا موسى جعفر: ستظل روحك الخالدة نبراساً إنسانياً يستضاء بها في حياة بني البشر قاطبة، وستظل ترجماناً لا ولن يتكرر في قاموس حقوق الإنسان المسلوبة، والعجيب في ترجمانك الصامت هو سر سجدتك الطويلة التي حارت فيها عقول البشر في معرفة أسرارها وترجمة دلالاتها.
والأعجب من كل ذلك كله أن روحك الخالدة وترجمانك لازال يتجدد في ذكرى يوم استشهادك، في صور ظلامات متجددة، ودراما مفجعة دامية يُريد أعداء الإنسانية تغييبها عن وسائل الإعلام، لكن إرادة الله أبت أن تبقي صورتك ناصعة لا يشوبها تشويه أو يعتريها نقصان.
معلنة للعالم بأسره: أن صور ظلامة موسى بن جعفر الكاظم (ع) صور لا تمحى من ذاكرة الإنسانية برمتها، ومصداقاً تاماً لنور الله الذي لا يطفئ أبداً الذي قال عنه جل شأنه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون. صدق الله العلي العظيم.