بعدما وردني طلب الأختين : الفاضلة العامرية و أختي (مناجاة التائبين) أن أستمر في توثيق و أرشفة و عرض مسار مرجعية الشّيخ اليعقوبي خلال حقبة ما بعد سقوط النّظام البائد ، فرأيت أن أكتب بواعث البوح بهذه التناهيد بعد كل هذه السّنين الطّويلة و الأعوام المديدة ، فأقول :
إنني حرصت حرصاً شديداً على تلخيص حقبة مرجعية الشّيخ اليعقوبي في طورها المستور ، غير المعلن ، و الذي أمتدّ قرابة أربع سنوات و شهرين من استشهاد السّيد الصّدر (شباط 1999م إلى سقوط النّظام البائد نيسان 2003م) ، في تناهيد دار أبي الأرقم ، و أقصد بدار أبي الأرقم جامعة الصّدر الدينيّة في النّجف الأشرف ، و التي كانت تتكوّن من مدرستين دينيتين (مدرسة الإمام المهدي ، و مدرسة البغدادي) خارج النّجف القديمة (الولاية) في ساحة ثورة العشرين .
جاء هذا الحرص إيماناً منّي بضرورة أن يكون المرء شاهد عدل في الحياة الدّنيا أمام محكمة التّاريخ في القضايا التي غلّفها ركام التزييف ، وجنها التّحريف لتكون هذه الشّهادة كاشفة لأبعاد شخصيّة المرجع الشّيخ اليعقوبي في أعقد المراحل و الأدوار و أصعب الظّروف ، و أحلك الأجواء التي مرّ بها شيعة العراق عموماً ، و الصّدريون خصوصاً ، و لكي يتعرّف المجتمع بكل انتماءاته و طبقاته و فئاته حراك هذا الرّجل يوم كان العراق مرجل يغلي بالأحداث السّاخنة بعد تصفية السّيد الصّدر الثاني ” قدس سره الشريف “.
و سبحان الله ففي الوقت الذي اختطّ السّيد الصّدر الثّاني لنفسه التقيّة الشديدة المكثّفة جداً منهجاً له بعد تصفية أستاذه السّيد الصّدر الأول ، حتى صار ثوبه و دثاره ترى أن الشّيخ اليعقوبي لم ينهج نفس الأسلوب ، خاصة مع تغير مسارات السّياسة الأمريكية المؤثّرة على الدّول عموماً ، و العراق خصوصاً ، فكأن سماحته أدرك أن التقيّة باتت ثوباً و غطاءً ممزّقاً لا يحجب من تزملَ به عن أعين البعث و أجهزته القمعيّة ، فاختار سماحته النّزال المعلن ، و لكن ممزوج بالتّؤدة و الحكمة ، فدار سماحته مكتب السّيد الشّهيد بلطفٍ خفي ، مثلما قاد دار أبي الأرقم بأسلوب جميلٍ سوي .
و تأتي كتابة التناهيد أيضاً في إطار رد بعض الجميل والفضل ، الذي يطوّق عنق كاتبها ، و الذي أسداه لنا سماحته في كل موطن و موقف وقفه معنا في أيام دراستنا و عملنا الدّؤوب ، وقت ذاك ، سواء كان كلمة حانية أو دفتراً كبيراً (سجل) ، أخاله الآن بين ناظري . قد سطّرت على أديمه حروف فقه المرأة المسلمة ، جاءني به الشّيخ محمد حسين مع أقلام ، و قال لي هذه من الشّيخ اليعقوبي ، لأنّك تكتب و تؤلف أو منحه لي مجموعة كتب هدية لكوني الأول على مرحلتي أو اصطحابي معه إلى داره لتناول الفطور في إحدى ليالي شهر رمضان ، و كان أمامه الطّرشي المدبّس مفاكهاً أياي بدعابته اللطيفة : (نحن غير مشمولين بفتوى السّيد الصّدر) ، أو عرضه جهاز كومبيوتر ، و كان باهض الثّمن في حينه، حينما كنت قد نقلت لبيته كارتونة تحتوي نسخ كثيرة من كتابي (شباب في مقبر الجنس) ، فقال : أن الحاسوب ينفعك في الكتابة، و لكن لم استلم الكومبيوتر فقد قرن الحياء بالحرمان ، كما يقول مولانا أمير المؤمنين ، و حال سقوط النظام بيني وبين نحلة الشّيخ حفظه الله ..