و كان سماحته يجيد استثمار الظروف و محاولة استثمارها في مشروعه الرّسالي فأثنى سماحته ذات مرّة على موقف الحكومة حيال ما عرف وقتذاك بالحملة الإيمانيّة التي كان الطّاغوت يهدف من خلالها أن يلعب آخر الأوراق التي بقيت في حوزته ، و هذا الأمر نبّه عليه السّيد الصّدر الأول بفكره الثّاقب و النّير ، حيث كان يقول إنّ الطّاغوت في آخر أطواره يلبس ثوب الدّين ، و يتظاهر به، و هو ما حدث فعلاً حيث أعفى النظام التّجار عن الضّرائب بشرط بناء المساجد و كتب القرآن بدمه ، غير ملتفت إلى الخطأ الفادح و المخالفة الشّرعيّة ، حيث نجاسة دم الإنسان من أوضح الواضحات !!
و حينما علّقت إيران بأن حوزة قم أصبحت أكثر ثقافة من مدرسة النّجف ، كان ذلك قد استفزّ سلطة البعث ، فكان لقناة الجزيرة (و يومئذ لم يكن هناك ستلايت) حراك بهذا الاتجاه ، يتمثّل بتسليط الأضواء على حوزة النّجف ، و دورها العلمي ، و معرفة ردود علماء النّجف على مقالة إيران ، و لكن كان موقف المرجعيّات يومئذٍ هو رفض المقابلة أو الإدلاء بأي رأي حول الموضوع أعلاه خلافاً للشّيخ اليعقوبي ، فإنه وجد من المصلحة التعريف بحوزة النّجف عامة و بالنّشاط المرتبط بمرجعيّته غير المعلنة ، و كان من المقرر أن يكون اللقاء في مسجد الرّأس الشّريف بجوار صحن أمير المؤمنين ” عليه السلام ” حيث مقر مكتب السّيد الشّهيد الجديد ، و لكن السّيد مقتدى حينما علم بالأمر ، عمل على إغلاق المسجد ، فكان البديل هو دار أبي الأرقم (جامعة الصّدر الدّينية) ، و حينما أبدى المسؤول على البرنامج استغرابه من رفض سائر العلماء للبرنامج ، اندفع سماحته يذكّر المبررات التي تقف وراء رفضهم ، فكان هذا درساً مهمّا في صون العلماء من النّقد و إيجاد المبرر و العذر لما يبدو مخالفاً للأمر الصالح .. و الدّرس الآخر أن المقدّم طلب من الشّيخ أن يجلس و يتحدّث لنا لمجرّد التّصوير ، و هنا قال الشّيخ لا ينبغي ذلك ، لأنّه يكون تمثيلاً و غير واقعي و ليكن بدلاً من ذلك أن أجيب على أسئلة الطًلبة ، و بالفعل بدأ الطّلبة يوجهون الاسئلة و الشّيخ يجيب بشكل حقيقي و فعلي و قناة الجزيرة تصوّر مشهد الشّيخ مع طلبته .
و كان خلال اللقاء ذكر سماحته أن النّجف ما زالت معقل العلم و حاضرة الإسلام و اطلع المقدّم على إنجازات جامعة الصّدر باعتبارها واحدة من غصان الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف ، و من بين الكتب التي عرضها كتاب (القول الفصل في أحكام الخل) و الذي يتضمّن مسائل من علوم الكيمياء و كتاب (الرّياضيات للفقيه) و الذي يسخّر الرّياضيات للمطالب الفقهية ذات العلاقة بهذا العلم .
السّيد أحمد الجيزاني:
و تجدر الإشارة أن الشّيخ أحمد الشّيباني ، و كان تابعاً لمشروع الشّيخ اليعقوبي في أول الأمر ، و لكنّه وجد في قضيّة لقاء قناة الجزيرة ، مهرباً و طريقاً لشد الرّحال بعيداً عن مشروع الشّيخ ، فذهب لسماحة الشّيخ كالمستغرب و المستشكل من قبول الشّيخ بهذا اللقاء مع جهة قطرية !! فكان سماحته فطناً يعدّ لكل حادثة حديثاً و لكل مقامٍ مقال ، فقال سماحته للشّيخ أحمد الشّيباني : إنّ السّيد الشّهيد محمد باقر الصّدر أراد أن يشتري نصف ساعة في راديو مونتكارلوا ، و هو جواب مفحم ، كما ترى فإنّ قناة الجزيرة مسلمة على أي حال ، بينما راديو مونت كارلو فهي إذاعة تصدح و تبث برامجها من أرض الكفر و طبعاً كان السّيد الشّهيد الصّدر الأول يهدف إلى إيصال صوت الإسلام الأصيل (التّشيع) بعيداً ، و يعمل على غزو الكافرين في عقر دارهم و مغادرة أسوار النّجف و أزقتها الضّيقة و سراديبها العميقة ، و إنهاء حالة العزلة و التّقوقع بين الدّرس و التّدريس ، فإنّ خير وسيلة للدّفاع الهجوم كما يقولون .