الـ 8 من شوال يصادف ذكرى مريرة على قلوب أحبة أهل بيت النبوة عليهم السلام، ألا وهو يوم ذكرى هدم قبور أئمة البقيع عليهم السلام على أيدي الطغاة الذين لم يراعوا حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي رحاب هذه الذكرى لنقف قليلا في رحاب البقيع الغرقد..
يعد البقيع في أرض المدينة المنورة مدفناً لعدد من عظماء المسلمين وأئمتهم وأعلام الأنصار والمهاجرين، وكان النبي صلى الله عليه وآله يقصد البقيع يؤمّه كلما مات أحد من الصحابة ليصلي عليه ويحضر دفنه، وقد يزور البقيع في أوقات أخرى ليناجي الأموات من أصحابه.
وحدّث محمد بن عيسى بن خالد عن عوسجة قال: كنت أدعو ليلة الى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي الباب، فمرّ بي جعفر بن محمد ـ يعني الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام، فقال لي: أعن أثرٍ وقفت هاهنا؟ قلت: لا، قال: هذا موقف نبي الله بالليل إذا جاء يستغفر لأهل البقيع.
لذلك كبر شأن البقيع وكثر رواده بقصد الدعاء والاستغفار أو التسلية، طبقاً للحديث الوارد: إذا ضاقت الصدور فعليكم بزيارة القبور، حتى أصبح ملتقى الجماعات، وأشبه ما يكون بالمنتدى والمجلس العام، والظاهر أنّ هذه المقبرة ظلّت عامرة بأضرحتها وابنيتها الضخمة والقبب القائمة على مدافن المشاهير والأعلام، حتى جاء ذلك اليوم الأسود!
لماذا هدم الوهابيون قبور البقيع الغرقد؟
يعتقد الوهابيون ـ على خلاف جمهور المسلمين ـ أن زيارة وتعظيم قبور الأنبياء وأئمة أهل البيت عبادة لأصحاب هذه القبور وشرك بالله، يستحق معظمها القتل وإهدار الدم!
ولم يتحفظ الوهابيون في تبيان آرائهم، بل شرعوا بتطبيقها على الجمهور الأعظم من المسلمين بقوة الحديد والنار، فكانت المجازر التي لم تسلم منها بقعة في العالم الإسلامي طالتها أيديهم، من العراق والشام وحتى البحر العربي جنوباً والأحمر والخليج غرباً وشرقا.
ولقد انصبّ الحقد الوهابي في كل مكان سيطروا عليه، على هدم قبور الصحابة وخيرة التابعين وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله الذين طهّرهم الله من الرجس تطهيرا.
وكانت المدينتان المقدستان مكة والمدينة ـ ولكثرة ما بهما من آثار دينية ـ من أكثر المدن تعرضاً لهذه المحنة العصيبة، التي أدمت قلوب المسلمين وقطعتهم عن تراثهم وماضيهم التليد. وكان من ذلك هدم البقيع الغرقد بما فيه من قباب طاهرة لذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته وخيرة أصحابه وزوجاته وكبار شخصيات المسلمين.
الوهابيون قد قدموا إلى تهديم قبور البقيع مرتين في التاريخ المشؤوم:
الوهابيون وكما هو معروف قد ورثوا الحقد الدفين ضد الحضارة الإسلامية من أسلافهم الطغاة والخوارج الجهلاء، فكانوا المثال الصادق للجهل والظلم والفساد، فقاموا بتهديم قبور بقيع الغرقد مرتين:
الأولى عام 1220 هـ، كانت الجريمة التي لاتنسى عند قيام الدولة السعودية الأولى، حيث قام آل سعود بأول هدم للبقيع، وذلك عام 1220 هـ، وعندما سقطت الدولة على يد العثمانيين أعاد المسلمون بناءَها على أحسن هيئة من تبرعات المسلمين، فبنيت القبب والمساجد بشكل فنيّ رائع، حيث عادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين بعد أن ولّى خط الوهابيين لحينٍ من الوقت.
الثاني عام 1344هـ، حيث عاود الوهابيون هجومهم على المدينة المنورة مرة أخرى في عام 1344هـ، وذلك بعد قيام دولتهم الثالثة، وقاموا بتهديم المشاهد المقدسة للائمة الأطهار عليهم السلام وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله بعد تعريضها للإهانة والتحقير بفتوىً من وعّاظهم.
فأصبح البقيع وذلك المزار المهيب قاعاً صفصفا، لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلا عن أن تعرف صاحبه.
إن خفاء تاريخ البقيع والجهل بحاله للناشئة والشباب في هذه العصور المتأخرة، ناشئ من قلة المصادر أولاً، والتعتيم الإعلامي السعودي والغربي عليه، بحيث يقلل من أهميته أو تزول أهميته بالمرة.
روى الطبراني في الكبير ومحمد بن سنجر في مسنده وابن شبّة في أخبار المدينة عن أم قيس بنت محصن ـ وهي أخت عُكاشة ـ أنها خرجت مع النبي صلّى الله عليه وآله إلى البقيع، فقال: يُحشر من هذه المقبرة سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وكأنّ وجوههم القمر ليلة البدر، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، وأنا؟ فقال: وأنت، فقام آخر فقال: يا رسول الله، وأنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة، قال: قلت لها: لِمَ لم يقل للآخر؟ قالت: أراه كان منافقاً.
وروى ابن شبّة عن أبي موهبة مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: أهبَّني رسول الله من جوف الليل، فقال: إني أُمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي، فانطلقتُ معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنَ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلَتِ الفتنُ كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى، ثم استغفر لهم طويلاً، ثم قال: يا أبا موهبة، إني قد أوتيتُ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، فخُيرت بين ذلك وبين لقاء ربي ثم الجنة، قلت: بأبي وأمي، خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: لا والله يا أبا موهبة، لقد اخترت لقاء ربي ثم الجنة. ثم رجع رسول الله، فبدأ به وجعه الذي قبض فيه.