شجاعة الاختيار:
لا ينبغي الاعتقاد بأن الشجاعة لها ميدان واحد ولون واحد وشكل واحد ومظهر واحد بل لها مديات مختلفة وحالات متعددة, وقد برهن على ذلك علي فتى محمد في مواطن كثيرة ومواقف مثيرة .. فشجاعة الاختيار هي لون مهم وصعب التحصيل ذاك الذي حازه أولياء الله وهم يندفعون دون تردد ملتحقين بدعوات ترفرف إلى جانبها أجنحة الموت وتنكيل الأعداء, واستهجان الخصوم, وسخرية الأدنين, وهجر الأوطان, وفقد الأحباب, فساروا وسط أمواج متلاطمة لا يأبهون بشيء (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي) ..
ليس أمرا سهلا أن يجد الفرد نفسه متمردا في نظر الغير على ثوابت أهل الأرض وأعرافهم الراسخة وتقاليدهم المتجذرة جيلا بعد جيل, وليس من السهل أن يعلن اعتقادا جديدا يتقاطع ودين قومه ويهزء بطقوسهم ويسعى لتغيير عاداتهم وتقاليدهم التي شبوا وشابوا عليها قرونا كثيرة !!
فهل من السهل أن يخطئ الفرد أبناء مجتمعه جميعا دفعة واحدة ويصفهم بالجهل والخرافة ويسفه أحلامهم ويصف آبائهم بأنهم ماتوا على انحراف وضلالة ؟ ثم يأخذ على عاتقه أن يزيل جهلهم ويأخذ بأيديهم إلى حيث يعتقد ويؤمن ويرفع من قدرهم ويجمع نسيجهم المتهري وينفخ في أجسادهم الخاوية روح الحنيفية بعدما غادرت أم القرى لسنين طويلة إلا من بيوت قلائل ..
كم يخفي الفرد منا تصورات ووجهات نظر ومعلومات وهواجسا وميولا ورغبات حتى لا يكتوي بنار المخالفة والخصومة ولا يقع في شراك الملامة والتثريب وحتى لا يصير خلف قضبان التهمة والتنكيل وربما حبيس العزلة والاكتئاب وغرضا لسهام التجريح والانتقاد..
ولكن فتى محمد لم يأبه بعقائد قريش وأصنام قومه وربما كان يذكرهم بسوء فهو لم يعرف ربا من حجر سواء تلك التي نال منها جده الخليل أو ذاك الذي ظل واجما والفأس على عاتقه بعد تحطيم الآخرين, نعم لم يعفر علي جبينه ساجداً بين يدي الله والعزة في يوم من الأيام ولم يطأطأ برأسه يوما خشوعا وبخوعا أمام أساف ونائلة وكيف ذلك وهو (علي) الذي لا يعرف الخضوع إلا حينما يسجد لرب محمد الأعلى وحده لا شريك له ..
وهو منذ اليوم الأول الذي ولد فيه وجد نفسه ضيفا في بيت الله وخرج من الكعبة ليجد نفسه في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وليسير خلف خطاه ويقتفي أثره وليكون علي ظل محمد حيث لم يكن لمحمد ظلا! وكان علي يسمع همهمة جبرئيل هناك في أعلى الغار ويأنس بترانيم الوحي ثم يعود ليكون أحد جناحيه ساجدا راكعا خلف معلمه محمد في وسط المسجد الحرام إنها شجاعة الاختيار ..
لعلي إقران من بني عمومته ومن بني هاشم وهم مقربون نسبا لرسول الله ولكنهم آثروا عداء النبي على مشايعته ومبايعته ومرافقته ومؤازرته, بل نصبوا له العداء وحاربوه وقاتلوه وهجوه بشعرهم ! ألم يكن عقيل بن أبي طالب ابن عم رسول الله؟ ولكنه خرج محاربا لرسول الله في بدر !! وهكذا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الذي كان يهجوه بشعره !! ودونك أيضا ابن عمته زهير بن أبي أمية (شقيق أم سلمه) الذي كان يهجوه بشعره !!
ألم يتنصر عبيد الله بن جحش ابن عمته (أميمه) تاركا الإسلام في الحبشة !! أما علي فكان شجاعا في معرفة الحق شجاعا في اختيار الحق شجاعا في إعلانه والدعوة إليه شجاعا في الثبات والموت عليه ..
علي هو من أعطى درسا للإنسانية جميعا أن ينبذوا الباطل وان كثر مريدوه ويختاروا الحق بشجاعة وبصيرة وإن قلَ مناصروه : (لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه) وكأنه يترجم لنا قوله تعالى : ( واكثرهم للحق كارهون) وقوله سبحانه : ( وان تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) ..
السيد أحمد الجيزاني شوال 1440 حزيران 2019