عاصر إمامنا الصادق (ع) عشرة من حكام بني أميّة وكان أولهم عبد الملك بن مروان حيث تزامنت ولادة الإمام عليه السلام أواخر حكمه, أما بقية من عاصرهم (ع) فهم الوليد بن عبد الملك، وسلمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وابراهيم بن الوليد، ومروان الحمار، كما عاصر (ع) اثنين من خلفاء بني العباس هما ابو العباس السفاح وأخوه أبو جعفر المنصور ، وكانت مدة إمامة إمامنا الصادق (عليه السلام) أربع وثلاثين سنة وهي المدة التي عاشها بعد أبيه الإمام الباقر (ع).
عاش الصادق (عليه السلام) مع أبيه وجده إثنتي عشر سنة ومع أبيه بعد جدِّه تسع عشر سنة وبعد أبيه أربع وثلاثين سنة وحين توفي (ع) كان عمره الشريف خمس وستين سنة.
شهد الإمام عليه السلام في العهد الأموي الظلم والقتل والتشريد والسجن والتعذيب الذي كان يمارسه الأمويون ضدّ خصومهم بصورة عامة وضدَّ العلويين بصورة خاصة، فضلا عن التعذيب النفسي الذي كان يقوم به الولاة والمتزلفون للحكام حيث كانوا يجمعون كل من يمت بصلة لأمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام ويضعونهم قريباً من المنبر يوم الجمعة ويقوم الخطيب بسب الإمام علي عليه السلام, واستمر هذا الأمر إلى حكم عمر بن عبد العزيز الذي منع السب.
وقد عاصر إمامنا عليه السلام ثورة زيد بن علي بالكوفة أيام هشام بن عبد الملك وما رافق هذه الثورة من قمع أدى إلى استشهاد زيد ومطاردة العلويين بأشد مما كان من ذي قبل.
كما شهد إمامنا الصادق (ع) في العهد الإنتقالي تحرّك أبي سلمة الخلال وأبي مسلم الخرساني والإطاحة بحكم بني أمية فكان موقفه (ع) تجاه هذه الحركة موقف الرافض؛ لعلمه بعاقبة الأمر.
وفي العهد العباسي قام السفاح بإشخاص إمامنا الصادق عليه السلام من المدينة إلى الهاشمية وإلزامه بالإقامة الجبرية في الكوفة لمدة قصيرة ثم أرجعه إلى المدينة, فالسفاح لم يعلن العداء لولد علي عليه السلام عند وصوله للسلطة, بل كان يتظاهر بالولاء لهم إذ أنه يعلم أن الثورة ضد الأمويين إنّما نجحت تحت لواء شعار الولاء لآل محمد وعليّ – صلوات الله عليهم أجمعين – وكان ذلك سبباً في إشخاصه الإمام الصادق عليه السلام وإلزامه بالأقامة الجبرية.
لم تدُم أيّام السفاح إلّا نحو أربع سنوات ثم جاء المنصور واشتدّ الأمر على العلويين فاُخذوا واُبعدوا عن الكوفة وسجنوا في سجن مظلم حتى مات بعضهم فيه وبقيت جثثهم في السجن حتى مرض بعضهم من ذلك فعمد المنصور إلى هدم السجن على باقيهم.
شهد الإمام ذلك كله ولاقى من المنصور أذىً كثيراً وكان الوشاة يحيطون به من كل جانب وينقلون إلى المنصور من التهم ما هو بريء منها, فيزداد الطاغي بذلك غيظاً على الإمام (ع) ومن نماذج ما لاقاه إمامنا الصادق عليه السلام من أنواع الظلم، ما رواه الشيخ المفيد وغيره: (من أن داود بن علي بن عبد الله بن عباس قتل المُعلّى بن خنيس مولى الإمام (ع) وأخذ ماله فدخل عليه (ع) وهو يجهر وراءه فقال له: قتلت مولاي وأخذت مالي، أما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب، أما والله لأدعونَّ عليك الله، فقال له داود: أتهدِّدُنا بدعائك.. كالمستهزئ بقوله، فرجع أبو عبد الله إلى داره فلم يزل ليله كله قائماً وقاعداً حتى إذا كان السَّحر سُمِع وهو يقول بمناجاته: يا ذا القوة القوية، يا ذا المحال الشديد، ويا ذا العزة التي كل خلقك لها دليل، إكفني هذا الطاغية وانتقم لي منه، فما كان إلا ساعة حتى ارتفعت الأصوات بالصياح وقيل قد مات داود بن علي الساعة.
ومن ذلك – أيضا – ما رواه الكليني باسناده عن المفضّل بن عمر قال: وجّه أبو جعفر المنصور الحسين بن زيد وهو واليه على الحرمين: أن احرق على جعفر بن محمد داره فألقى النار في دار أبي عبد الله فأخذت النار في الباب والدهليز فخرج أبو عبد الله (ع) يتخطّى النار فيها ويقول: أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل الله.
هذا وقد اتسّعت الحركة العلمية في أيام الإمام الصادق عليه السلام حيث تزعّمَ الحركة الفكرية والعلمية مع ما لاقاه من الأذى وما شاهده من الظلم تجاه أهل بيته وسائر العلويين فكان (عليه السلام) الذروة العليا في علم الفقه حيث أتيحت له بعض الفرص لإظهار هذا العلم لم يقدر مثلها لغيره من الائمة (عليهم السلام) فتربّى على يديه جمع غفير من الفقهاء الإماميين فضلاً عن فقهاء المذاهب الإسلامية الأربعة أمثال أبي حنيفة, ومالك بن أنس, وسفيان الثوري, وسفيان بن عيينة, وحفص بن غياث, وشعبة بن الحجاج, وابن جريج, وروح ابن القاسم, وسليمان بن بلال, وإسماعيل بن جابر, وحاتم بن إسماعيل, وعبد العزيز بن المختار, ووهب بن خالد, وإبراهيم بن طهمان, وأشخاص آخرين لا يسعنا ذكرهم في هذه العجالة.
وتربّى على يدي إمامنا الصادق (ع) جماعة امتازوا وتميّزوا في علم الكلام وتفوّقوا على من سواهم أمثال: مؤمن الطاق, وهشام بن الحكم, وهشام بن سالم, وحمران بن أعين, والطيار, وغيره..
هذا ولم ينحصر الدور القيادي للأمام الصادق عليه السلام في علمي الفقه والكلام بل شمل مختلف العلوم أيضاً كالتفسير والسيرة وآداب اللغة والعلوم الغريبة, وكان له تلاميذ مختصون بهذه العلوم.
توفي إمامنا الصادق عليه السلام في الخامس والعشرين من شوال سنة مائة وثمان وأربعين ودفن بالبقيع بجوار أبيه وجده الحسن صلوات الله عليهم أجمعين. وروى المسعودي في مروج الذهب: أن الإمام عليه السلام قد دُسّ إليه سماً, كما ورد في الصواعق المحرقة ومناقب آل أبي طالب.
وختاماً نشير إلى فطنة الإمام عليه السلام وحكمته بما سيجري من بعده على وصيه الإمام موسى الكاظم عليه السلام, فقد روى ثقة الإسلام الشيخ الكليني رحمه الله وغيره عن أبي أيوب النحوي أنه قال: بعث إليَّ أبو جعفر المنصور في جوفِ الليل فأتيته فدخلت عليه وهو جالس على كرسي وبين يديه شمعة وفي يده كتاب فلما سلمت عليه رمى الكتاب إليّ وهو يبكي فقال لي: هذا كتاب محمد بن سلمان يخبرنا أنّ جعفر بن محمد مات, فاِنا لله وإنا إليه راجعون – ثلاثاً – وأين مثل جعفر؟ ثم قال: اكتب, قال: فكتبت صدر الكتاب, ثم قال: اكتب إنْ كان أوصى إلى رجل واحد بعينه فقدّمه واضرب عنقه, قال: فرجع إليه الجواب: إنه قد أوصى إلى خمسةٍ وأحدهم أبو جعفر المنصور, ومحمد بن سليمان, وعبد الله, وموسى, وحميدة.
فسلام على الصادق جعفر يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا.
السيد مهدي الجابري