من أهم دروس الحج درس صناعة التاريخ :
فالتاريخ تارة يكون تاريخا جامدا غير قابل للصناعة والانطباق على الحاضر والمستقبل وأخرى يكون كذلك !!
وتاريخ الحج هو تاريخ صناعي بامتياز وينطبق على الواقع والمستقبل !! وقصة إبراهيم عليه السلام في الحج من المهم جدا اسقاطها على واقعنا في سائر اتجاهات الحياة !!
فالله المتعال أراد من إبراهيم عليه السلام حينما أمره بذبح ولده اسماعيل عليه السلام أن يصل إلى مرحلة نفسية مضحية كأنه ذبحه فعليا وأراد من إسماعيل عليه السلام أن يصل إلى مرحلة نفسية كأنه المذبوح فعلا ؛ وأراد من هاجر أن تصل لى مرحلة نفسية كأن ولدها مذبوح فعلا ؛ مع انه بالاصل كان ارادته قائمة على اساس ان هذا الثلاثي المقدس اي ابرإاهيم واسماعيل وهاجر عليهم السلام والرضوان إذا وصل إلى مرحلة نفسية كأن الذبح تحقق فلا يريد لاسماعيل عليه السلام في الواقع الخارجي ان يذبح !! فلما وصل الثلاثي المقدس إلى حالة نفسية كأن الذبح قد تحقق !! افتدى الله المتعال الذبيح البشري بذبيح بهائمي!!
وهكذا نحن في حياتنا فإن الكثير من المخاطر والموعودات المستقبلية قد لا تتحقق ولكننا في تفاعلنا النفسي معها قد نأخذ الثواب وقد نسقط في الامتحان النفسي مع أن أيا منها لم يتحقق !! فيمكن ان يقول احدهم لام ما : مات ابنك !! فاسترجعت وصبرت واحسنت العزاء وبعد ذلك تبين انه لم يمت فهنا هي تأخذ اجر الاحتساب عند الله المتعال حتى لو لم يمت ابنها لانها عاشت موت ابنها فعليا في نفسها !!.
وأيضا من الصناعة التاريخية للحج الإبراهيمي نستفيد عدم المبالاة في الغربة والوحشة طالما ان الله المتعال هو انيسنا وجليسنا وهذا ما فعله ابراهيم عليه السلام حينما اسكن عائلته بواد غير ذي زرع !!
ومن الصناعة التاريخية للحج الابراهيمي نستفيد الاخلاص في العمل حتى لو كان مؤلما !! فلا نسمح للشياطين ووساوس النفس بأن تفسد اخلاصنا في العمل !! لاحظ كيف رجم الثلاثي المقدس الشيطان ثلاث مرات لانه اراد ان يستثير عاطفتهم بشأن ذبح اسماعيل عليه السلام فرجموه لكي يكون عملهم خالصا !!
ومن الصناعة التاريخية للحج الابراهيمي ان يتعلم الانسان ان لا يترك السعي وان لا يخضع للياس حتى لو كانت كل الظروف سوداء !! وهذا ما يعرف علميا بعدم تعميم الفشل !! فعليك السعي وعلى الله التدبير !! فهاجر بالرغم من كل جفاف الارض لم تترك السعي بحثا عن الماء !! حتى اثمر الله المتعال سعيها وانبع لها ماء زمزم !!
ومن الصناعة التاريخية للحج الابراهيمي ان يعيش الانسان حالة ترك الدنيا بالكفن تماما كما يترك الحاج كل شيء ويذهب الى الحاج بثوبي الاحرام !!
ومن الصناعة التاريخية للحج الابراهيمي ان يتذكر الوقوف بين يدي الله المتعال تماما كما يقف وقوف عرفة !! وان يتذكر النشور كما يفعل في النفر !! وان يترك المحرمات كما يترك الحاج بعض الممنوعات في الحج !!وان يلبي لله المتعال وبستجيب له في سائر تقلبات حياته وافعاله وجوارحه وماله ونفسه كما في التلبية في الحج !!وان يكون مؤثرا مضحيا كما في التضحية !!وهذا هو فعل وتطبيق المجاهدين ضد اسرائيل والتكفيريين !!
ولا ننسى ما فعله الامام الحسين عليه السلام في اليوم الثامن من ذي الحجة حيث قطع حجه ومضى الى الجهاد في سبيل الله المتعال حفاظا على الاسلام كله والذي منه مناسك الحاج !! ليعطينا درسا مهما قوامه ان الجهاد في سبيل الله هو افضل العبادات لا سيما اذا كان الحفاظ على العبادات متوقفا عليه !!
ولا ننسى أن الحج يشكل أكبر مؤتمر إسلامي وأعظم تجمع توحيدي إيماني لكي يتسنى للامة أن تعيش الوحدة الاسلامية وتقارع الاعداء !! ولكن الاستكبار عبر أدواته حولوا الحج الذي هو اكبر مؤتمر للوحدة الاسلامية الى اكبر ممزق للامة !! وافرغوا الحرم المكي من قوته وقوة منبره وحولوه الى منبر لتمزيق وتضعيف المسلمين واحداث الشلل في قدراتهم !! العجيب في الامر تدمير كل ما يذكر بالرسول صلى الله عليه واله وسلم واهل البيت الاطهار والصحابة الاخيار !! ورفع كل بنيان يذكر بامريكا وبريطانيا واشباههما !! فبالإمكان لفاسق من الفساق شرب الخمر بناطحة سحاب مشرفة على الكعبة والاستهزاء بما يفعله المسلمون من طواف وصلاة في الكعبة !!! وكأن بناء ناطحات سحاب لم تشبع منها مناطق اخرى !! ولو تم جعل مكة مدينة مقدسة كاملة الذاكرة التاريخية حيث تذكرنا بكل فعل فعله الرسول صلى الله عليه واله وسلم وأهل البيت الاطهار والصحابة الاخيار ؛ لكانت مكة من اعظم مدن العالم من حيث التاثير ودخول البشرية في هذا الدين الحنيف !! ولكن للاسف تم تحويل كل معالم الاسلام التاريخية الى مراحيض ومواقف للسيارات ومطاعم اجنبية ومبان اجنبية بحيث تشعر ان الكعبة الشريفة محاصرة وتنتظر من يخنقها!!
بقلم : توفيق حسن علوية كاتب وباحث من لبنان