من مبادئ الإسلام في التعايش السلمي.
أدب من آداب القرآن واخلاقه ونموذج راقي للسلام والتعايش الذي تنشده البشرية اليوم وكل يوم ذكره الله تعالى ضمن قصة ابني آدم هابيل وقابيل، قال الله تبارك وتعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27) والنبأ: الخبر ذو الفائدة العظيمة الذي يفيد العلم، وهو هنا يتعلق بواقعة حدثت لابني آدم في بداية وجود البشر على الأرض وفيها الكثير من المواعظ والعبر، والقربان ما يتقرَّب به إلى الله تعالى، ولم تذكر الآيات الكريمة كيفية حصول العلم بالقبول وعدمه، لكن الروايات دلتّ على ان علامة القبول تن تأكله النار.
وتفيد صحيحة ابي حمزة في الكافي عن الامام الباقر (عليه السلام) (ان آدم أمر قابيل وهابيل ان يقرّبا قرباناً وكان هابيل صاحب غنم وكان قابيل صاحب زرع فقرّب هابيل كبشاً وقرّب قابيل من زرعه ما لم يُنقَّ، وكان كبش هابيل من أفضل غنمه وكان زرع قابيل غير نقي فتُقبّل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل وكان القربان اذا قُبِل تأكله النار)[2] .
فالأمر بتقديم القربان كان من النبي آدم (عليه السلام) كجزء من تربيتهما وتعويدهما على الطاعة والأعمال الصالحة، أو لمعرفة المستحق لوراثة ابيهما معنوياً وفي سؤال وُجِّه إلى الامام الصادق (عليه السلام) (ففيم قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية)[3].
ويظهر من بعض الآيات الشريفة ان هذه التي كانت علامة القبول هي ايضا علامة استحقاق تحمل الرسالة الإلهية، قال تعالى (الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران:183).
فالآية الكريمة تشير الى ان السر في القبول وعدمه هو إخلاص النية لله تبارك وتعالى وتنقية العمل وإحسانه المعبّر عنه بالتقوى فذكرت الآية معياراً عاماً للقبول (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27) وذكره هابيل بأدب ولم يقل لأخيه انك لست من المتقين، وبدلاً من ان يذعن قابيل للحقيقة، ويسعى لإصلاح حاله ويعالج سبب عدم القبول ويعود إلى طاعة ربِّه فأنه حسد أخاه حسداً شديداً وأصدر قراره بقتل أخيه لكن أخاه الصالح هابيل المتأدِّب بآداب الله تعالى قابل أخاه بموقف إنساني نبيل كان كافياً لردع أخيه عن فكرته السيئة فرفض ان يتصرف نفس التصرف ولا يقدم على قتل أخيه وان كان أخوه عازماً على قتله، لأنه لا يفعل الا ما فيه رضا الله تبارك وتعالى ولا يستفزّه خطأ الآخر فيدفعه لارتكاب خطأ مماثل (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8).
في بعض قصص الأنبياء انه اتي له بأسرى في نهاية معركة انتصر فيها فقال بعض أصحابه اقتلهم فامتنع النبي المنتصر فقيل له انهم يقتلون أسرانا فقابلهم بالمثل، قال: انهم ليسوا قدوة لنا، وقد سجّل القران الكريم زجره عن مثل هذا السلوك بقوله إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } [النساء : 140]
وفي سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه أخبر ان عبد الرحمن بن ملجم سيقتله فقيل له: لم لا تقتله قال (عليه السلام): لا يجوز القصاص قبل الجناية.
وهذا المبدأ شاهد على سمو القانون الاسلامي وتفوقه على القوانين الوضعية التي تجيز ما يسمى بالضربة الاستباقية أي ضرب الخصم اذا علم أو ظنّ بانه يستهدفه او لردعه عن التفكير بذلك.
ويجب الالتفات الى ان هابيل انما امتنع عن خصوص مد يده لقتل أخيه ابتداءاً ولمجرد الضربة الاستباقية اما بسط يده في الدفاع عن نفسه فهذا حق مشروع له بل يجب عليه ان لا يمكّن خصمه من نفسه، لذلك فان قتل هابيل كان اغتيالاً، في تفسير العياشي بسنده عن ابي جعفر (عليه السلام) قال (لما قرب ابن آدم القربان فتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر، قال: تُقبِّل من هابيل ولم يُتقبَّل من قابيل، دخله من ذلك حسد شديد وبغى على هابيل، ولم يزل يرصده ويتبع خلوته حتى ظفر به متنحياً من آدم فوثب عليه وقتله) .
واستعمال القران الكريم لمفردة التطويع، يكشف عن ان هذا الفعل الشنيع ما كان مستساغاً في أول الأمر لأنه خلاف الفطرة وحكم العقل بقبح الظلم والعدوان، ولازالت البشرية في أول تكونّها ولم ينتشر الفساد في الأرض فاستمر الشيطان في تزيين القتل واستثارة الحسد في نفسه الأمارة بالسوء حتى انقاد لهواه مما يبيّن خطورة رذيلة الحسد وأمثاله من الدوافع الذاتية السيئة على سلوك الفرد بغضّ النظر عن تأثير البيئة الاجتماعية إذ لم يتشكل يومئذٍ مجتمع بعد، ونفّذ قابيل ما تأمره به نفسه (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة:30).
ولا يخفى ما في كلمة (فَطَوَّعَتْ) من دلالة على المحاولات المتكررة والضاغطة لدفعه إلى تنفيذ الجريمة ولو أغلق على نفسه باب التفكير فيها لما وصل إلى هذه النتيجة، وهذا هو الحال في فعل المعاصي خصوصاً الكبائر فأنه لا يفعلها بمجرد خطورها على ذهنه ولكن استجابته لعملية الدعوة المتكررة والتزيين تجعله يستسلم لفعلها ففي رواية الكافي المتقدمة (ان ابليس أتاه فقال له: يا قابيل قد تُقبِّل قربان هابيل ولم يُتقبَّل قربانك وإنك إن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك ويقولون: نحن أبناء الذي تُقبِّل قربانه، فاقتله كي لا يكون له عقب يفتخرون على عقبك فقتله).
وهذه اللطيفة القرانية نور آخر نقتبسه من الآية الكريمة حاصله: ان الايمان ليس مجرد عقيدة نظرية وإنما هو سلوك والتزام بما يريده الله تعالى وتحكيم شريعته في الحياة، حيث كشفت الاخبار أن إيمان قابيل كان نظرياً فقط.
(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) لأنه خسر نفسه حيث أوردها النار بهذا الأثم العظيم وتحمل أثم أخيه[6]، وخسر أخاه الصالح المحبّ له الشفيق عليه، وخسر دنياه لأن حياته أصبحت منكّدة كئيبة (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (المائدة:31)، وخسر كرامته وسمعته الاجتماعية.
والاية الكريمة تشخّص مشكلة خطيرة وبلاءاً عظيماً يتعرض له الصالحون والمصلحون عند ما يناصبهم العداء ويكيد لهم من لا يرونه عدواً لهم ويتورعون عن القيام بفعل يشبه ما يريد فعله الخصوم ونتيجة ذلك أن يتلقى العدوان بنفس صابرة مطمئنة ويدافع عن نفسه بما يتيسّر له.
وفي الحديث الشريف عن الامام الصادق (عليه السلام) (لا ينفك المؤمن من خصال اربع جارٍ يؤذيه وشيطان يغويه ومنافق يقفو أثره ومؤمن يحسده، ثم قال (عليه السلام) اما انه أشدّهم عليه، قلت: كيف ذاك؟ قال: انه يقول فيه القول فيصدق عليه)[7] .
فالخصم إذن مؤمن لا تستطيع ان تؤذيه او تعتدي عليه لكنه يحسد ويبغي ويفتري ويشوِّه الصورة ويسقط السمعة والكرامة ولا تستطيع أن تقابله بالمثل.
وقد ابتلي أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا البلاء فقد بغى عليه وقاتله مسلمون مقربون إليه يحرص كل الحرص على اكرامهم، وكان (عليه السلام) يمنع أصحابه من أن يبدأوا خصومهم بالقتال، وإنما يقاتلون دفاعاً عن انفسهم.
ومن خطاب الامام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء لأهل الكوفة (سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم، وحششتم ــ أي اوقدتم ــ علينا ناراً اقتدحناها على عدِّونا وعدوّكم فأصبحتم أولياء لأعدائكم على اوليائكم)[8] فهؤلاء الرجال والسلاح الذي بأيديهم هم لنا ويجب ان يكونوا من جند الإسلام لأنهم مسلمون بحسب الظاهر، لذا كان (عليه السلام) يمنع أصحابه من ان يبدأوهم بقتال ولم يقاتلوا الا دفاعاً عن انفسهم.