قراءة في مواقف المرجعية الرشيدة:
سؤال يطرحه الكثير من العراقيين في كل تظاهرة تحدث في العراق . . . وأحببت تسليط الضوء عليه وتقديم إجابة وفق قراءتي الشخصية بعد تسليط الضوء على مواقف وكلمات سابقة للمرجع اليعقوبي . . . وقبل استعراض بعض هذه المواقف سأقوم بشكل مختصر عرض رؤية ومشاريع ومبادرات المرجع اليعقوبي في إصلاح الوضع في العراق:
لقد كان المرجع اليعقوبي من السبّاقين إلى المطالبة بالإصلاح ومكافحة الفساد ومعاقبة المفسدين وعدم التصدي لمواقع المسؤولية إلا لمن كانت له الأهلية من حيث الكفاءة والنزاهة والإخلاص والتفاني في خدمة الناس، وكان سماحته ولازال شديد الوطأة على المسؤولين منذ عدة سنوات ومطالباَ بحق الشعب في حياة حرة كريمة يحترم فيها الإنسان وتوفَّر له حقوقه المكفولة في الشرائع السماوية والدساتير الوضعية، وكان هدفه هو الضغط على المسؤولين ليصححوا ما فسد من أمورهم، وللارتقاء بمستوى الوعي لدى الأمة. وقام سماحته مع المؤمنين بفعاليات عديدة خلال هذه المدة لتأكيد هذه المطالب المشروعة.[1]
وقد ذكر المرجع اليعقوبي عددا من المشاريع التي تعالج أصل المشكلة على عكس الآخرين الذين ينظرون إلى أعراض المشكلة ويضعون حلول ترقيعية أو ترحيل المشاكل والهروب للأمام!
لهذا كان يقول: إن الطريقة الطبيعية كإصلاح أوضاع البلاد أن تبدأ العملية من القاعدة وتتدرج لتفرز في النهاية حكومة صالحة خادمة للشعب، لكن طبيعة التغيير الذي حصل في العراق افرز العكس فأقيمت الحكومة من دون بناء قواعد صحيحة ورصينة لاختيار عناصرها ومن دون بناء ثقافة الاصلاح والعمل من أجل الناس.[2]
وقد طالب سماحته مرارا وتكرارا ومنذ وقت مبكر منذ سنة 2006 بقانون انتخابات عادل يفوز الحاصل على أعلى الأصوات ليفرز شخصيات منتخبة حقيقة من قبل الشعب ويكون ولاؤها للشعب وليس لقادة الكتل السياسية[3] وكذلك اختيار مفوضية مستقلة تشكل من أكاديميين مستقلين[4] وهذا هو المصنع الذي يفرز ممثلين حقيقيين للشعب ولكن الكتل المستكبرة ومن يدعمها أبوا ذلك لأنهم رأوا في هذه المطالب إغلاق للمنافذ التي من خلالها تسرق ثروات البلاد ويسيطر على مقدراته… وهذا ما ينبغي المطالبة به والتركيز عليه قبل المتظاهرين والنخب المثقفة . . .
وأيضا من المقترحات التي قدمها المرجع اليعقوبي أن تكون الكتل المعارضة هي المشرفة على ملف المؤسسات الرقابية ذات الطبيعة المستقلة كهيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية وديوان المفتشين العموميين[5] حتى تستقصي هذه الكتل كل ما تقوم به الكتل المشاركة في الحكومة من فساد إداري ومالي وفي نفس الوقت تخشى الكتل المشاركة في السلطة من هذه المراقبة فتكف عن إساءة استخدام السلطة وتكف عن الفساد . . . ولكن كما قلت هذه المشاريع والمقترحات لا تروق للكتل المستكبرة ومن يدعمها ونجد وسائل الإعلام الحزبية والدولية لا تسلط الضوء على هذه المشاريع والمقترحات لأنها على خلاف رغباتها وقد أوضح المرجع اليعقوبي ذلك بكل صراحة ووضح في لقائه مع رئيس بعثة الامم المتحدة في العراق السيد يان كوبيتش حيث قال ” أن سبب التدهور الحاصل في أوضاع العراق والكوارث التي حلّت به عدم سعي الفاعلين الدوليين والعراقيين لوضع الحلول الاستراتيجية للمشاكل وإنما يكتفون بالمعالجات الآنية الترقيعية التي تحفظ مصالحهم وامتيازاتهم وترحيل المشاكل الى المستقبل فتتراكم وتتعقد حتى اوصلتنا الى حافة الانهيار “[6]
وبناء على هذا التشخيص الدقيق من قبل سماحته قد جاء في بيان له على أثر عدم اصغاء البرلمان لمتطلبات الاصلاح في قانون الانتخابات ” إن وصف هذه الكتل بالكبيرة فيه جناية وحيف على الالفاظ ومعانيها، لأنها ليست كبيرة في أي شيء الا في الفساد والظلم والاستئثار والاستخفاف بالناس ولا تملك أي مؤهلات، وإنما صنعتها ظروف وأرادات نافذة ومؤثرة في الوضع العراقي ومكّنتها من مؤسسات الدولة فصارت تعبث في رقاب الناس وكرامتهم وأموالهم ومقدساتهم.
ونقول كما قالت العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين علي (عليهما السلام) ليزيد الطاغية (وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلا، وأيٌّكم شرُّ مكاناً وأضلُ سبيلا) “[7]
وفي كلمته هذه إشارات واضحة للجهات الداخلية والخارجية التي مكنّت ودعمت الكتل المستكبرة في السيطرة على مقاليد الحكم ومقدرات البلد.
وجاء في بيان له أصدره عقب قيام عادل عبد المهدي بتشكيل كابينته الحكومية والتصويت عليها حيث قال:
” لقد كان للشعب بصيص أمل في الحكومة الجديدة بأن تكون حكومة وطنية توفر له الأمن والخدمات والاقتصاد المزدهر، لكنه اليوم بعد اعلان هويات أعضائها فقدَ هذا الأمل حيث ضمّت الحكومة بعض من اتُهِموا بالإرهاب والفساد وتزوير الشهادات والعضوية في قيادة البعث المُنحل والانتماء الى الجنسية الأجنبية، فكيف نتوقع تحقق تلك الأهداف من أمثالهم ؟
وبعد أن وصف سماحته حالة الشعب وهو يرى تشكيل هذ
صبري الناصري, [١٠.١٠.١٩ ١٥:٢٩]
ه الحكومة وما تحتويه من سلبيات كثيرة وجه مطالبته للبرلمان والحكومة بالتصحيح ثم قال:
ونحمّل لجنة التفاوض التي كانت تقسّم الحصص الوزارية على الكتل السياسية وتُمليها على رئيس الوزراء والجهات الموجّهة لتلك اللجنة مسؤولية تسليم مقدرات العراق والعراقيين ومقدساتهم بأيدي من ثبتت فيهم هذه التهم، فإن افظع الخيانة خيانة الأمة.
ونطالبهم بالمبادرة لتصحيح الأخطاء قبل ان يستفحل الخطر ويستعصي على الحل، ولات حين مندم.[8]
وكان سماحته دقيقا في مطالبته ومخلصا في دعوته للتصحيح ومصيبا باستشرافه …
والآن أذكر بعض مواقف المرجع اليعقوبي من بعض التظاهرات لنستخلص موقفه من كل تظاهرة تحدث:
1- في تظاهرات شباط 2011 كان موقف المرجع مع التظاهرات ولكن موقفه تغير فيما بعد نتيجة لتغير أهداف التظاهرات وذلك لعدة أسباب ذكرها في استفتاء وجه له:
أننا لا نعلم الجهات التي تقف وراءها، ومن الذي سيتولى تنظيمها ؟ ومن الذي يتعهد بتوجيه المتظاهرين وضبط حركتهم حتى لا تتعرض مؤسسات الدولة التي هي ملك الشعب والممتلكات الخاصة إلى التخريب والاعتداء ؟ بل وجدنا بعض الشعارات المغرضة التي تخدم اجندات غريبة عن الواقع، هذا إذا أردنا عدم التصديق بما يقال من وجود مخربين ومندسين يريدون استغلال التظاهرة لإحداث الفتنه والفوضى والتخريب .
وقد نهانا الأئمة المعصومون (عليهم السلام) أن ندخل في كل أمر مريب بقولهم المشهور ( دع ما يريبك إلى مالا يريبك ). وهذا النهي يجعلنا لا نتحمل مسؤولية المشاركة في خصوص مظاهرات يوم الجمعة التي لا نعلم لها أصلا إلا دعوات انتشرت عبر المواقع الفيسبوك وتويترز التي رأيناها كيف وجَّهت الأحداث الأخيرة في عدة دول.[9]
فموقفه هذا كان بخصوص مظاهرات يوم الجمعة مع ذكر الأسباب التي دعته لاتخاذ هذا الموقف منها .
2- موقفه من التظاهرات في بعض الدول الإسلامية في آذار 2011
قدم لسماحته استفتاء حول المشاركة في التظاهرات في بعض الدول الإسلامية
السؤال: يعيش العالم الإسلامي والعربي حالة المطالبة بحقوقه المشروعة مما يضطر الشباب إلى الخروج والتظاهر مطالبين بحقوقهم المسلوبة فهل يجوز شرعاً هذا الخروج في الحالات التالية:
أ- إذا كان يحتمل الضرر كأن يُجرح أو يُسجن.
ب- إذا كان يطمئن بحصول الضرر المذكور.
مع ملاحظة أن التظاهر حتى السلمي ممنوعٌ في قوانين بعض هذه البلاد.
جاء في جوابه:
المطالبة بالحقوق الإنسانية مشروع لكل البشر وأقرّته الشرائع السماوية، لكن آليات ووسائل هذه المطالبة تختلف بحسب الزمان والمكان والظروف والإمكانيات المتيسرة، لذا فإننا نوكل أمر النظر في التفاصيل إلى علماء وعقلاء القوم في كل بلد بحسب ما يناسبه، والرجوع إلى المرجع العارف بملابسات الزمان والمكان في تحديد الأطر العامة والمطالب المشروعة في ضوء ما تقتضيه مصلحة تلك البلاد وشعبها وما يحقق لهم الحياة الكريمة، والله المستعان.[10]
3- موقفه من تظاهرات سنة 2015 كان موقف المرجع اليعقوبي ناصحا ومكملا حيث دعا إلى وجود قيادة وطنية واعية موحدة للمظاهرات حيث دعا سماحته النخب المثقفة والاكاديميين من اساتذة الجامعات وغيرهم الى ان يأخذوا دوراً واضحاً ومحوريـاً في التظاهرات التي تشهدها البلاد لتوحيد المطالب ووضعها على طاولة المفاوضات باتجاه بلورة مشروع وطني اصلاحي واضح المعالم، ولضبط بوصلة حركة الجماهير وحماية المظاهرات من الانحراف واختراق المندسين وخاطفي الانجازات.[11]
وذكر أسباب دعوته لوجود قيادة وطنية واعية وبعد ذلك ذكر أهم المطالب وحذر من ركوب موجة التظاهرات من عدة أصناف منهم الساسة الفاسدين . . . وقد حصل ما حذر منه !
ومما تقدم يمكننا استنتاج ما يلي:
أ- إن المرجع اليعقوبي مع المطالبة بالحقوق المشروعة وكيف لا يكون كذلك وهو أول من دعا إلى ذلك .
ب- لابد من الرجوع إلى المرجع العارف بملابسات الزمان والمكان في تحديد الأطر العامة والمطالب المشروعة في ضوء ما تقتضيه مصلحة تلك البلاد وشعبها وما يحقق لهم الحياة الكريمة.
ومما يجدر ذكره في هذه النقطة أن المرجع اليعقوبي سبق وأن صحح إساءة استخدام عبارة السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره): لا تقولوا قولا ولا تفعلوا فعلا الا بعد مراجعة الحوزة الشريفة. حيث أوضح سماحته أن المرجعية تريد من المؤمنين التطبيق وفق الخطوط العريضة التي تذكرها في خطاباته وكلماتها … وحذر من خطورة جعل هذه العبارة الخاصة بالرجوع للمرجعية شماعة لتعليق التقاعس.[12]
ج- ولكن ينبغي أن لا تكون هذه التظاهرات محركة من جهات خارجية أو داخلية لأجل جني مكاسب شخصية وحزبية أو المحافظة عليها فلقد شاهدنا كثير من التظاهرات حركتها أو قادتها بعض الكتل السياسية أو جهات خارجية وانتهت بعد أن نالت ما تريد فكانت المغارم على المواطن والمغانم للكتل السياسية والجهات الخارجية.
د- لابد من وجود قيادة وطنية واعية للتظاهرات حتى تكون المطالب واعية تستهدف معالجة أصل المشكلة وليس معالجة بعض أعراض المشكلة وأيضا لأجل ضبط حركة الجماهير وعدم انحرا
صبري الناصري, [١٠.١٠.١٩ ١٥:٢٩]
ف التظاهرات وحماية أرواح المتظاهرين والممتلكات العامة والخاصة.
ومما تقدم أعتقد أن الصورة أصبحت واضحة . . .
وفي الختام أسجل استغرابي أن جميع التظاهرات لم ترفع فيها مطالب تعالج أصل المشكلة وهذا يرجع لاحتمالين:
الاحتمال الأول: عدم وعي المتظاهرين لأصل المشكلة فضلا عن حلها ولهذا السبب لا نرى مطالب تعالج العلة .
الاحتمال الثاني: أن المحركين للتظاهرات سواء جهات خارجية أو داخلية نفعية لا تريد طرح الحلول لأصل المشكلة العراقية لأن ذلك يضر بمصالحها لهذا نرى في كل تظاهرة ترفع مطالبات لحل بعض أعراض المشكلة أو ترفع مطالب غير واقعية لأجل تحقيق أهدافها ومصالحها من خلال ضغطها على الجهات الحكومية مع عدم إلفات نظر المتظاهرين للمطالب المهمة التي تعالج أصل المشكلة . . . لهذا لا نرى تحسن كبير رغم الحجم الكبير لبعض التظاهرات . . . ولم نر مطالب تعالج العلة . . .
لذا علينا تطبيق النقاط الأربعة التي تم استنتاجها من مواقف المرجعية الرشيدة وتوعية الناس اتجاهها ( ففي كلمة لسماحته سنة 2003 جاء فيها: لابد من توعية وتثقيف الجماهير حتى تعرف ماذا يحصل وبماذا تطالب . . . أما اذا الجماهير لا تعرف شكو ماكو وتخرج في تظاهرات فإنها سوف لا ذات قيمة ولا تؤثر كما يراد لها )[13]
واستمرار حالة رفض الواقع الفاسد لأجل الوصول إلى حل المشكلة العراقية وإلا سنبقى نراوح في مكاننا بل ربما سنتراجع والعياذ بالله . . .
—————————————————————————————————
الهوامشـــــــــــــــــ
[1] يمكن معرفة تفاصيل أكثر من خلال الاطلاع على فهرس كتاب خطاب المرحلة الذي صدر منه إلى الآن أحد عشر جزءا.
[2] خطاب المرحلة ج5 ص431. تاريخ الكلمة 12 شباط 2008م.
[3] المرجع اليعقوبي، 2006 ، لقاء مع وفد المجلس البلدي لقضاء الرميثة. (تسجيل فيديوي). خطاب المرحلة ج5 ص109 وص154. تاريخ المشروع 26 نيسان 2007 بعنوان (المشروع الوطني للإصلاح السياسي). وتاريخ اللقاء 8 /حزيران /2007 بعنوان (لا بد من إصلاح فوري في العملية السياسية). وخطاب المرحلة ج10 ص377.
[4] خطاب المرحلة ج9 ص347. وج10 ص374.
[5] خطاب المرحلة ج5 ص449 تاريخه 4 حزيران 2008. خطاب المرحلة ج9 ص191. تاريخه 8 تشرين الثاني 2014.
[6] خطاب المرحلة ج10 ص376.
[7] نشرة الصادقين العدد (176) الصادر بتاريخ 15 ذو القعدة 1438هـ الموافق 7 أيلول 2017م.
[8] نشرة الصادقين العدد (186) الصادر بتاريخ 14 ربيع الأول 1440هـ الموافق 22 تشرين الثاني 2018م.
[9] خطاب المرحلة ج7 ص412.
[10] خطاب المرحلةج7 ص413.
[11] خطاب المرحلة ج9 ص346.
[12] من كلمة له ألقاها في وفد جامعة الصدر الدينية فرع الحلة، بتاريخ 29 ذ.ح 1424هـ الموافق 21 شباط 2004م. (تسجيل فيديوي).
[13] كلمة سماحته في وفد أهالي الشعلة في تشرين الثاني 2003م (تسجيل فيديوي).