الإسلام يشبه المسيحيّة من حيث خروجه من موطنه وتوسّعه في آفاق جديدة. فقد ظهر في جزيرة العرب، ونراه اليوم له أتباع في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا يمثّلون مختلف عناصر البشر، (…)، وقد يكون عدّ المسيحيين أكثر، إلَّا أنَّ في الإسلام خصوصيّة من حيث التوسّع ليست موجودة في المسيحيّة، وهي سرعة انتشار الإسلام.
لقد كانت المسيحيّة بطيئة في الانتشار بالمقارنة بسرعة انتشار الإسلام، سواء في موطنه جزيرة العرب أو خارج جزيرة العرب في آسيا وأفريقيا أو في مناطق أُخرى. فلا مندوحة من التساؤل: ما الذي جعل الإسلام سريع الانتشار إلى هذا الحدّ؟ حتّى أنَّ بعض الفرنجة قد أشار إلى ذلك، ومنه الشاعر الفرنسي المعروف (لامارتين) الذي قال: إذا أخذنا ثلاثة أُمور بنظر الاعتبار، فلا يبلغ أحد ما بلغه نبيّ المسلمين:
الأوّل: فقدان الوسائل المادّيّة؛ فهذا رجل يظهر ويدّعي دعوة بغير أن تكون له أيّ قدرة أو قوَّة، بل إنَّ أقرب أقربائه يناصبونه العداء. إنَّه يقوم بالدعوة بمفرده، ويبدأ من نفسه وتتبعه زوجته، ويؤمن به طفل يعيش معه في بيته (عليّ بن أبي طالب)، ثمّ يؤمن آخرون بالتدريج، ويظلّ يعاني الصعاب والشدائد.
الثاني: سرعة الانتشار وعامل الزمن.
الثالث: عظم الهدف.
فلو أخذنا بنظر الاعتبار عظم الهدف، وفقدان الوسائل، وسرعة انتشاره، على الرغم من الافتقار إلى الوسائل لبلوغ الهدف، فيكون قول “لامارتين” صحيحًا في أنَّه ليس لنبيّ المسلمين نظير في العالَم.
أمّا انتشار المسيحيّة وتقدّمها في العالَم فقد حصل في مئات السنين بعد المسيح.
إنَّنا سنبحث علل هذا التقدّم خلال تقدّمنا في الكلام حول السيرة النبويّة.
إنَّ القرآن يبيّن هذا، ويؤيّده التاريخ أيضًا تأييدًا تامًّا، وذلك أنَّ من أسباب التقدّم هو “السيرة النبويّة” وأسلوب حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأخلاقه وسلوكه وطريقة نشره الدعوة. فهذه كلّها كان لها تأثير كبير في نشر الدعوة. بديهيّ أنَّها لم تكن السبب الوحيد، فالقرآن نفسه الذي هو معجزة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان له تأثيره العميق الجاذب المثير، وكان السبب الأوّل في نفوذ الإسلام وانتشاره في كلّ مكان. فإذا تجاوزنا القرآن، يكون العامل الثاني هو سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشخصيّته وخلقه وسلوكه وأسلوب قيادته وإدارته. وحتّى بعد وفاته ظلّت سيرته التي ذكرها التاريخ بعد ذلك دافعًا مهمًّا في سرعة انتشار الإسلام.
﴿ فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ ﴾.
أي أنَّ أخلاقك عامل جذب المسلمين وجلبهم. وهذا يعني أنَّ من شروط الزعيم القائد الذي يدعو الناس إلى الإسلام أن تكون أخلاقه الخاصّة ليّنة عطوفة.
وينبغي أن أوضح هذا الجانب بعض الشيء لكي أكون قد أجبت عن سؤال قد يدور في أذهان بعضهم فيما يتعلّق بأخلاق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فنحن عندما نقول: إنَّ أخلاقه ليّنة عطوفة، إنَّما نقصد أنَّها كذلك في الأُمور الفرديّة والشخصيّة، لا في المسائل المبدئيّة الكلّيّة التي كان فيها أشدّ ما يكون صلابة. فقد يؤذي بعضهم شخص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقولٍ أو بإهانةٍ أحيانًا، وقد يخالف بعضهم التعاليم الإسلاميّة، بسرقة مثلًا. فما القصد من قولنا: إنَّ النبي كان هيّنًا؟ أيعني ذلك أنَّه إذا شرب أحد الخمر كان النبيّ يغضّ الطّرف عنه، ولا يقيم الحدّ عليه، ولا يعاقبه؟ هذه المخالفة ليست ممَّا يتعلّق بشخص النبيّ نفسه، بل بتعاليم الإسلام، أو إذا سرق أحدهم، فهل كان النبي يتساهل معه ولا يقتصّ منه، أكان الأمر هكذا؟ كلّا، أبدًا؛ ففي الأُمور الشخصيّة والسلوك الفرديّ كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليّنًا متساهلًا، ولكنَّه في الالتزامات والمسؤوليّات الاجتماعيّة كان في منتهى الشدَّة والخشونة.
وإليكم هذا المثال: يزعم أحد اليهود أنَّ النبي مدين له ببعض المال، فيسدّ عليه الطريق مطالبًا إيَّاه بتسديد الدَّين. فيقول له النبي: إنَّ ادعاءك هذا غير صحيح، وإنِّي لست مدينًا لك بشيء، فاتركني أذهب إلى حال سبيلي، ثمّ إنِّي لا أحمل مالًا معي. فيردّ اليهودي: كلّا، لا أدعك تنقل قدمًا عن قدم. كان النبيّ ذاهبًا إلى الصلاة إلّا أنَّ هذا اليهوديّ كان يصرّ على ألّا يدع النبيّ يتحرّك قبل أن يدفع له دَيْنَه. وكلَّما أظهر النبيّ اللّين واللّطف ازداد اليهوديّ فظاظة وخشونة، حتّى يبلغ الأمر بالرجل أن يأخذ بخناق النبيّ ويختطف عباءته من فوق كتفه ويلفّها حول رقبته بشدَّة بحيث يظهر أثرها على رقبته، ويسحبه في الطريق.
وإذ يستبطئ المصلّون قدوم النبيّ، يقومون للبحث عنه، فيرون المشهد المذكور، ويحاولون التدخّل، إلّا أنَّ النبيّ يمنعهم من ذلك، ويزداد في ملاينة اليهوديّ وملاطفته حتّى يحمله على النطق بالشهادتين، ويعترف له بالنبوّة، ويقول: إنَّ تحمُّلك هذا لا يقدر عليه الناس العاديّون، بل هو من شيم الأنبياء.
وثمّة مثال آخر عند دخول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مكّة، والظاهر أنَّه كان عند فتح مكّة؛ امرأة من أشراف قريش ترتكب جريمة السرقة، والإسلام يقضي بقطع يد السارق. وقد ثبتت السرقة على المرأة واعترفت هي بها، فكان لا مندوحة من إنزال القصاص بها. وهنا تبدأ الوساطات بالعمل ويتقدّم الوجهاء بالتوصية والرجاء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألّا يقيم الحدّ عليها، فهي ابنة فلان وهو شخص محترم، وإنَّ إنزال القصاص بابنته سوف يهدر كرامة القبيلة كلّها.
فيردّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليهم: لن يكون هذا أبدًا، فكيف يمكن أن أتغاضى عن إقامة حدود الإسلام؟! فلو لم تكن هذه المرأة من النخبة، ولو لم يكن لها قبيلة وعشيرة، لكنتم جميعًا تطالبونني بإنزال القصاص بها، فالفقير الذي قد يسرق لفقره يجب أن ينال العقاب، ولكنّ هذه المرأة ذات الأصل الشريف ينبغي أن تُعفى من العقاب لأنَّ ذلك يهين كرامة أهلها. لا، لا يمكن تعطيل حدود الله!
ورفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوساطات والشفاعات. إنَّه لم يكن يلين مطلقًا في قضايا المبدأ، ولكنَّه على العكس من ذلك كان في منتهى اللّين والتعطّف في القضايا الخاصّة، كثير العفو فيها.
كذلك كان الإمام عليّ عليه السلام، فهو في المسائل المبدئيّة العامّة لم يكن يتقبّل أدنى تراجع عن الحقّ، على العكس منه في المسائل الفرديّة حيث كان متعاطفًا بشوشًا، بخلاف أصحاب التديُّن الظاهريّ الذين يريدون ثمن تديُّنهم من الآخرين، فأنت لا ترى على وجوههم سوى التقطيب والعبوس، وإنَّه ليعسر عليك أن تعثر على البسمة على وجه أحدهم، وكأنَّ من لوازم التقوى والتقدُّس أن يكون المرء عبوسًا قمطريرًا. فلماذا، مع أنَّ “المؤمن بِشره في وجهه وحزنه في قلبه”؟
إنّ على المؤمن أن يخفي كلّ أحزانه، دنيويّة كانت أم أخرويّة، فرديّة أم اجتماعيّة، في قلبه، وأن يواجه الناس بوجه بشوش باسم.
كان عليّ عليه السلام يواجه الناس بوجه بشوش وملامح متفتّحة، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يمازح الناس دون الوصول إلى الباطل؛ مثلما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل إنَّ من المعايب التي ألصقوها بعليّ عليه السلام كخليفة (لأنَّهم لم يستطيعوا أن يلصقوا به عيبًا حقيقيًّا) هو أنَّه ضاحك الوجه ينزع إلى المزاح، وإنَّ من يكون خليفة المسلمين يجب أن يكون عبوس الوجه، مقطّبًا يخافه الناس كلَّما نظروا إليه.
فإذا كان هذا المنطق سليمًا فلماذا لم يكن رسول الله كذلك؟ وهو الذي قال فيه الله سبحانه:
﴿ فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ ﴾.
إذًا فالأسلوب المنطقيّ الذي يرتضيه الإسلام للزعامة والقيادة هو اللّين وحسن الخلق، لا العبوس وخشونة الطبع.
كان عليّ عليه السلام في المسائل الخاصّة ليّنًا، حسن الخلق، ضاحكًا، مازحًا، ولكنَّه في المسائل العامّة الكلّيّة المبدئيّة كان جادًّا صلبًا لا ينثني عن الحقّ قيد شعرة.
هذا أخوه عقيل، يأتيه ويطلب منه أن يرى أطفاله وقد اكفهرّت وجوههم من الجوع، وأنَّه مدين وجائع ويريد عونًا منه، فيقول له الإمام: سأعطيك من نصيبي من بيت المال. فيقول عقيل: وكم هو نصيبك حتّى تستطيع أن تعينني منه! قل لهم أن يعطوني من بيت المال.
هنا يأمر الإمام أن يحموا حديدة ويضعوها أمام عقيل. ولمّا كان عقيل كفيفًا فقد ظنّ أنَّه كيس من النقود، ولكنَّه ما إن يمسّها حتّى تحترق أصابعه، ويقول عقيل نفسه: فصدر منِّي خُوار كخُوار الثور من شدّة الألم. وعندئذٍ خاطبه الإمام قائلًا: “ثكلتك أمّك يا عقيل، أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبَّارها لغضبه؟”2. إنَّ عليًا الذي كان بشوشًا مازحًا في الأُمور الخاصّة وليّنًا فيها، نراه بهذه الخشونة والصلابة في أُمور المجتمع المبدئيّة…
وهكذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام صُلبين في الأُمور العامّة وليِّنَين في الأُمور الخاصّة. يقول القرآن استمرارًا لتلك الآية: ﴿ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ ﴾3.
إنَّ تعلُّق المسلمين وشغفهم بالنبيّ الكريم كان ناشئًا من كرم أخلاقه الذي لم يكن له مثيل بين المسلمين. وهناك أحاديث، يرويها السُّنَّة والشيعة، أنَّ أمثال هؤلاء الأطفال كانوا أحيانًا يتبوّلون في حضن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فكان ذلك مدعاة لانزعاج آبائهم وأمّهاتهم، فيسرعون لكي يستردّوا أبناءهم، ولكنّ النبيّ كان يمنعهم ويقول ما مضمونه: إنَّهم أطفال، فلا تفعلوا ما يقطع تبوّلهم فيمرضون. وهذا ما أثبته اليوم علم النفس والطبّ الحديث، إذ إنَّ الطفل إذا كان يتبوّل في مكان غير مرغوب فيه فنقل وهو على تلك الحالة إلى مكان آخر، أو صُرخ في وجهه، فإنَّه قد يصاب بأمراض لن تفارقه طوال حياته، لأنَّ الطفل في ذلك الوضع يتعرّض لحالة من الهيجان والضياع، لأنَّه يرى عمله طبيعيًّا، ولكنَّه إذ يواجِه غضب أبويه وانفعالهما تنتابه تلك الحالة النفسيّة من الاضطراب والشعور بالذنب.
فإلى هذا الحدّ كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليّنًا.
ثمّ نقرأ: ﴿ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ ﴾.
وهذا أيضًا من مظاهر ليونة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحسن أخلاقه، فإنَّ المطلوب منه أن يستشير المسلمين في الأمور. عجبًا، أينبغي على النبيّ أن يستشير؟ إنَّ المرء قد يستشير لحاجته إلى طلب المشورة، ولكنّ النبيّ لا تكون به حاجة إلى المشورة من حيث المبدأ، إلّا أنَّه لكي لا يجعل من عدم المشورة سنّة متّبعة فيأتي كلّ حاكم ويطلب من الناس الطاعة العمياء، كان يشاور الناس. كذلك كان يفعل عليّ عليه السلام؛ إنَّهم لم تكن بهم حاجة إلى المشورة، ولكنَّهم لكي يُعلِّموا الآخرين عليها أوّلًا، ولكي يمنحوا أتباعهم الشخصيّة والمكانة ثانيًا، كانوا يشاورونهم. كيف تُرى يكون شعور أتباع لا يستشيرهم قائدهم في أُمورهم، حتّى وإن يكن رأيه الخاصّ صحيحًا مائة بالمائة؟ لا شكّ أنَّهم يرون أنفسهم مجرّد أدوات لا غير. ولكنَّهم إذا وجدوا أنفسهم يُسهمون في تسيير الأُمور، وأنَّ لهم رأيًا يؤخذ به، لازدادوا ثقة بأنفسهم وارتفعت مكانتهم في أعينهم، ولأصبحوا خير أتباع.
﴿ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ﴾، ولكن عليك–أيُّها النبيّ–أن لا تجعلك المشورة ذا قلبين كسائر الناس؛ فإذا شاورت واتّخذت القرار، فيجب أن يكون القرار قاطعًا، فالمشورة قبل القرار، والبتّ بعد القرار، والشروع بالعمل بعد الاتّكال على الله. تقدّم وأنت تستعين بالله.
* الأسوة الحسنة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.