بعد ثلاث ليالٍ, وقد هدأ الطلب ، ويئس المشركون من إدراكهما خرجا من الغار ، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر استأجرا رجلاً من بني الديل وكانا قد دفعا راحلتهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ, براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما، يردفه أبو بكر ويعقبه ، فكانوا ثلاثة والدليل.
طريق الهجرة :
فلما خرج بها عبد الله بن أريقط دليلهما سلك بهما أسفل مكة ، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من ( عسفان )، ثم سلك بهما أسفل ( أمج )، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أنأ جاز قديداً أجاز بهما من مكانه ذلك ، فسلك بهما ( الخرَّار ) ثم سلك بهما ثنية مرة ، ثم سلك بهما القفاء ، ثم أجاز بهما مدلجة لقف ، ثم استبطن بهما مدلجة فجاج، ويقال : فجاج فيما قال ابن هشام– ثم سلك بهما مرجح من ذي الغضون قال ابن هشام : ويقال: العضوين، ثم بطن ذي كثر، ثم أخذ بهما على الجداجد ثم على الأجرد ، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعداء من لجة تعهن ، ثم على العبابيد ثم أجاز بهما الفاجة ثم هبط بهما العرج وقد أبطأ عليهما بعض ظهرهما ، فحمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجل من أسلم يقال له : أوس بن حجر على جمل له يقال له : ابن الرداء إلى المدينة، وبعث معه غلاماً له يقال له : سعود بن هنيدة ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية العائر عن يمين ركوبه، ويقال ثنية الغائر – فيما قال ابن هشام حتى هبط بهما بطن رئم ، ثم قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل.
في خيمة أم معبد:
وفي الطريق إلى المدينة مرَّ النبيٌّ بأم معبد، وإليك قصتها لما فيها من معجزة ظاهرة للنبي، ولما فيها من صورة واضحة لكثير من نساء الجاهلية في عفتها وشهامتها ، ومروءتها ، وبلاغتها وفصاحتها، فقد وصفت النبي- صلى الله عليه وسلم- بما يعجز عنه بيان غيرها.
روى الإمامُ البيهقي وغيره عن أخي أم معبد حبيش قال : لما خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومعه أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – وعامربن فهيرة ، وابن أريقط يدلهم على الطريق فمروا بقديد على أم معبد :\” عاتكة بنت خالد الخزاعية \” ، وكانت برزة ، جلدة ، تحتبي بفناء القبة ، ثم تسقي وتطعم من يمر بها ، وكان القوم مرملين مسنين ، فسألوها : هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها فلم يجدوا عندها شيئاً ، وقالت : والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى فنظر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى شاة في كسر الخيمة خلفها الجهد عن الغنم ، فسألها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( هل بها من لبنٍ,؟ ) فقالت هي : أجهد من ذلك فقال : (( أتأذنين لي أن أحلبها؟ )) فقالت : نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت حلباً فاحلبها ، فدعا بالشاة فاعتقلها ، ومسح ضرعها ، فتفاجَّت ودرت ودعا بإناءٍ, يربض الرهط ، فحلب فيه ثجاً وسقى القوم حتى رووا ، وسقى أم معبد حتى رويت ، ثم شرب آخرهم وقال : (( ساقي القوم آخر هم شرباً )) ، ثم حلب فيه مرة أخرى فشربوا عللاً بعد نهل ، ثم حلب فيه آخراً وغادره عندها ، وفي رواية أنه قال لها أن (( ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك )) ثم ركبوا وذهبوا في انتظار الرسول.
ولما بلغ المسلمين بالمدينة مخرج النبي – صلى الله عليه وسلم- من مكة هو وصاحبه الصديق -رضي الله عنه-كانوا يخرجون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة ، فعلوا ذلك مراراً ، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله – صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مبيضين ، يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته : يا معشر العرب ، هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح ، فتلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم – بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف.
وكانت منازل بني عمر وبن عوف في قباء ، وكان ذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ، وقيل لهلال ربيع الأول ، وقيل : لليلتين خلتا منه وقيل لثامن يوم منه ، وقال ابن إسحاق لاثنتي عشرة ليلة خلتا من ربيع الأول ، وعند ابن سعد لثلاث عشرة منه .
فقام أبو بكر للناس يتلقاه ، وجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم- صامتاً ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يعرفه من قبل يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه ، فعرف الناس رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عند ذلك. فأقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف أربعة أيام . الاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، وخرج يوم الجمعة قاصداً المدينة.
استقبال أهل المدينة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم:
إنه ما إن ركب – صلى الله عليه وسلم – راحلته وسارت به من ديار بني سالم متجهة نحو المدينة ، وأهل كل دار من دور الأنصار يمر بها إلا ويستقبله رجالها قائلين هلم إلينا يا رسول الله إلى العدد والعدة وهم ممسكون بخطام ناقته وهو يقول : (( دعوها فإنها مأمورة ))
وخرج أهل المدينة لاستقبال الحبيب – صلى الله عليه وسلم – على بكرة أبيهم ، فامتلأت بهم الطرق ، وظهروا على سطوح المنازل نساءً وأطفالاً ورجالاً وهم يقولون ، الله أكبر جاء رسول الله ، الله أكبر جاء محمد الله أكبر جاء رسول الله ، والنساء والصبيان يضربون بالدفوف وينشدون طاله البدر علينا .
وواصل الحبيبُ سيره في تلك الحشود الحاشدة ، والجموع المتجمعة في هذا اليوم التاريخي العظيم الذي قال فيه أنس بن مالكٍ, : \”لقد رأيت اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -علينا واليوم الذي قبض فيه فلم أر يومين مثلهما قط \” (هذا الحبيب يا محب – الجزائري – ص 163)
وبعد الجمعة دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويعبر عنها بالمدينة إختصاراً وكان يوماً تاريخياً أغر فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس ، والأنصار إن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة º إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول – صلى الله عليه وسلم – عنده.