السدة سكينة عليها السلام سيرتها الذاتية ومكانتها وفضلها:
إن الحديث عن شخصية جليلة كشخصية السيدة سكينة بنت الإمام الحسين عليه السلام يستدعي وقوفاً طويلا أمامها والعمد إلى قراءة كل ما صدر منها، ونقل إلينا من سلوكياتها وأفعالها، وبالتالي سوف تكون المحصلة الطبيعية مدرسة سلوكية وقيمية تربوية هادفة يستفيد منها الأجيال على مدى العصور، لكن مما يؤسف له أننا نفتقد إلى أبسط الأمور حول سيرتها الطاهرة ما يجعل الباحث في حيرة، عن السر الذي أدى إلى أن يتجاهل التأريخ مثل هذه الشخصية بما لها من مكانة مرموقة، وسامية.
إلا أنه كما قيل، ما لا يدرك كله، لا يسقط جله، فقد نقل لنا التأريخ نزراً يسيراً يمكن أن تنفتح منه نافذة على سيرتها المباركة، ونضع ذلك في ناحيتين:
الأولى: سيرتها الذاتية:
فهي ابنة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام أمها الرباب، فتكون شقيقة للرضيع عبد الله عليه السلام شهيد كربلاء، ولعل في هذا ما يبرر العلاقة الوطيدة التي كانت بينهما، والمشار إليها في كتب المقاتل، والسير.
وقد كانت ولادتها في السنة الثانية والأربعين بعد الهجرة النبوية، وقيل في السنة السابعة والأربعين منها، وهذا يعني أنها لم تحض بمعاصرة جدها بطل الإسلام أمير المؤمنين عليه السلام، ولم تعايشه أبان خلافته حتى الظاهرية، بل كانت معاصرة لخلافة عمها الحسن السبط المجتبى عليه السلام. وقد كانت وفاتها في السنة السابعة عشر بعد المائة من الهجرة النبوية، وهذا يعني أن عمرها الشريف يوم وفاتها بناءً على أن ولادتها سنة أثنين وأربعين يكون خمسة وسبعين عاماً، أما لو كان تأريخ ولادتها هو السابع والأربعون فسيكون عمرها سبعون عاماً. وسوف يكون عمرها يوم الطف بناءً على التأريخ الأول لولادتها تسعة عشر عاماً، أما لو بني على التأريخ الثاني، فسوف يكون عمرها أربعة عشر عاماً.
وقد وقع الخلاف بين المؤرخين في اسمها، فذكر أن اسمها آمنة، وقيل أن اسمها أمينة، وقيل أن اسمها أميمة، وربما قيل غير ذلك، إلا أن الصحيح من هذه الأقوال أن اسمها آمنة، وقد أشير في بعض المصادر إلى أن ذلك تسمية لها باسم جدتها آمنة بنت وهب عليها السلام، وتبركاً وتيمناً بها.
ولقبت بأنها سكينة، وقد أختلف في من أطلق عليها هذا الوصف، فذكر أن الواصف لها بذلك هو المولى الإمام الحسين عليه السلام، وقيل أن من وسمها بهذه السمة هي السيدة الرباب عليها السلام. وكما أختلف في المطلق عليها هذا الوصف، أختلف فيه نفسه، فهل هو بفتح السين، فيكون(سَكينة)، أم أنه بضمها فيكون(سُكينة)، والمتداول على الألسن هو الثاني،، وربما يصرّ البعض على أن الصحيح هو الأول، إلا أن المتصور صحة كليهما، وأنه لا يفرق بين توصيفها بفتح السين، أو بضمها. والوجه في ذلك:
أما الأول، وهو ما إذا كانت مفتوحة السين، فسوف يكون المقصود منه الهدوء والوقار والطمأنينة والاستقرار، وقد كانت تتصف بذلك كما أشار له الإمام الحسين عليه السلام في كلمته التي أفتتح بها المقام، حيث قال عليه السلام: وأما سكينة، فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى. فهو عليه السلام بصدد الحديث عن ما كانت عليه عليها السلام من الطمأنينة والهدوء والوقار والاستقرار، لأن الوصول لمثل تلك الحالة التي وصفها عليه السلام بها لا يكون بدون ذلك.
وأما الثاني، أن يكون أصل الكلمة هو سكن، ويقصد منه مكان السكنى، وتصغيره سكين، ومؤنثه سُكينة، وهذا أيضاً محتمل على أساس أنها عليها السلام كانت مسكناً لأبيها الإمام عليه السلام، كما كانت أمها الزهراء(روحي لها الفداء) مسكناً لرسول الله صلى الله عليه واله يأنس به، ويأوي إليه.
الثانية: فضـــلهــــا
قد يتصور الكثير أن السيد الجليلة سكينة لا تعدو واحدة من البيت العلوي، إلا أن ذلك لا يعني أن يكون لها وجود متميز يكشف عن فضل ومكانة لها، ومن المعلوم أن مثل هذه التصورات يساعد افتقار المصادر التاريخية لشيء من الحديث عنها، فيكون سبباً فيه.
إلا أننا لو تأمنا النـزر اليسير الذي وصلنا من التأريخ عنها، لتحصلنا على شخصية متميزة تملك فضلاً وامتيازاً خاصاً يجعلها في عداد النساء العظيمات اللاتي نلن منـزلة خاصة، وذكرن بصفة معينة، هذا وما يمكن أن يستشرف منه فضلها أمور:
منها: الرواية الواردة عن الإمام الحسين عليه السلام حيث قال: وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله فلا تصلح لرجل1.
والاستغراق الذي يتحدث عنه الإمام الحسين عليه السلام، يشير إلى حالة الفناء التام الذي بلغته السيدة الفاضلة، بحيث فنيت في ذات الله تعالى ومحبته، ومن الطبيعي أن الوصول إلى مرحلة الفناء لا تـتسنى لكل أحد، وليس لكل فرد أن يصل إليه، وإنما يكون ذلك لفئة خاصة من الخلق، وهم الذين بلغوا أعلى مراتب اليقين، فإذا بلغ الإنسان أعلى مراتب اليقين، أمكنه عندها أن يعيش حالة الفناء وإلا فلا، ومن الواضح جداً أن الوصول إلى أعلى مراتب اليقين لا يكون إلا للأوحدي من الناس، وقد يستشكل في القبول بهذه الرواية، ويطالب برفع اليد عنها، لاشتمالها على ما لا يمكن الالتـزام به، وهو ما جاء في ذيلها، فلو لم يقل أنه تحريم لما حلل الله سبحانه، وهو الزواج، لكفى أن يقال بأنه دعوة للرهبانية، كما لا يخفى.
وهذا الإشكال غير وارد، ضرورة أن التعبير الصادر من الإمام عليه السلام، لا يتضمن تحريماً لحلال أحله الله تعالى، ولا يكشف عن دعوة للرهبانية حتى يقال بما قيل، وإنما الإمام عليه السلام بصدد بيان أنه لابد وأن يكون بين الزوجين كفاءة في كافة الأمور والمجالات، فلا تنحصر الكفاءة بينهما في الناحية المادية والاجتماعية، بل لابد وأن يتكافئ أيضاً من الناحية الفكرية، وكأنه يقرر عليه السلام بأن من كانت مشتغلة بربها، ومتعلقة به، فلا ترى شيئاً سواه، تحتاج إلى زوج يكون عوناً لها على ما هي فيه، لا أن تتزوج رجلاً يشغلها عما تعلقت به، وهذا قريب مما جاء في شأن أمير المؤمنين والزهراء عليهما السلام، فقد ورد أنه لو لم يخلق أمير المؤمنين عليه السلام، ما كان للزهراءعليها السلام كفواً، ومن الطبيعي أن الحديث ليس من حيث الكفاءة المادية، والاجتماعية، وإنما من حيث الكفاءة المعنوية والفكرية. والحاصل، ليس في الرواية المذكورة ما يشير من قريب أو بعيد لمنع التزويج، وتحريمه، أو الدعوة للرهبانية كما تصور.
ومنها: علاقتها مع الإمام الحسين عليه السلام، على أساس أنها تمتاز عن بقية أبناء الإمام عليه السلام بشيء، فضلاً عن خاصيتها عن بقية أخواتها، ويظهر ذلك من خلال وداع الإمام الحسين عليه السلام إياها ليلة العاشر، فقد ذكر أرباب السير والمقاتل أنها لم تكن ليلة العاشر في خيمتها، وقد أخذ الإمام عليه السلام في طلبها، حتى وجدها، وجلس إليها وصار يمسح على رأسها، ذلك أنها قد خرجت من خيمتها، ولم تقدر على وداع المولى عليه السلام، ومن الطبيعي أن ذلك يعود لما كانت تربطها به عليه السلام من علاقة خاصة، فلم تكن لتستطيع وداعه، ومفارقته.