استطاع الأوروبيون في يومٍ من الأيام أن يستخدموا علوم المسلمين وفلسفتهم في سبيل تشكيل دعائم حضارة لهم، وكانت هذه الحضارة بالطبع حضارة مادية.
فبدأ الأوروبيون منذ القرن السادس أو السابع عشر الميلادي بوضع أسس حضارتهم الجديدة، واستخدموا في هذا الطريق شتى الأدوات والوسائل من دون رفق وتدبّر من منطلق أنّها كانت تقوم على أسسٍ مادية، فانتهجوا من جانب نهج الاستعمار والسيطرة على الشعوب ونهب ثرواتها، وعمدوا من جانب آخر إلى تعزيز ركائزهم الداخلية عبر العلم والتكنولوجيا واكتساب التجارب، وبالتالي فرضوا هذه الحضارة على البشرية.
وهذا ما قام به الأوروبيون على مدى أربعة أو خمسة قرون. ووضعت هذه الحضارة التي قدّموها للعالم مظاهر جميلة وجذابة من التقنية والسرعة والسهولة وأدوات الحياة في متناول الناس، ولكنها لم تحقق سعادة البشر، ولم تنشر العدالة، بل على العكس من ذلك، فقد ضربت العدالة ضربة قاضية! واستعبدت عدداً من الشعوب، وقادت البعض الآخر إلى الفقر والحرمان، وأهانت شعوباً واحتقرتها، وكذلك فهي تعاني في داخلها من التناقض والتعارض، فأضحت فاسدة أخلاقياً ومفلسة معنوياً وروحياً، وهذا ما يعترف به الغربيون أنفسهم اليوم. فقد قال لي أحد السياسيين الغربيين البارزين: عالمنا عالم يعيش في فراغ وخواء، وهذه حقيقة أشعر بها وأتلمّسها! وهو صادق في قوله، فإن هذه الحضارة كان لها مظاهرها وبهارجها وبريقها الظاهري، لكنّ باطنها خطير ويهدد مصير البشرية. اليوم تلوح تناقضات الحضارة الغربية، في أمريكا بطريقة، وفي أوروبا بطريقة أخرى، وفي البلدان الخاضعة لهيمنتهم في أنحاء العالم بطريقة ثالثة.
اليوم قد حان دورنا، حان دور الإسلام ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ جاء دور المسلمين ليشدّوا همتهم في سبيل بناء حضارة إسلامية جديدة.
كما إن الأوروبيين في ذلك اليوم استفادوا من علوم المسلمين وتجاربهم وفلسفتهم، نحن اليوم أيضاً نستفيد من علوم العالم والأدوات الموجودة عالمياً لإقامة الحضارة الإسلامية، ولكنها حضارة بروح إسلامية وروح معنوية. وهذا هو واجبنا اليوم.
والخطاب هذا موجَّهٌ في الدرجة الأولى لعلماء الدين والمثقفين الصادقين. أنا العبد لله لم يبقَ لديّ من أملٍ بالسياسيين! حيث كان التصوّر فيما مضى أن بوسع قادة العالم الإسلامي المساهمة في هذا الطريق، ولكن هذا الأمل للأسف قد تضاءل. أملنا اليوم بعلماء الدين في جميع أرجاء العالم الإسلامي وبالمثقفين الصادقين الذين لم يجعلوا من الغرب قبلة لهم، فقد عقدنا آمالنا عليهم، ولا يقولوا بأنه أمرٌ متعذّر، بل هو أمرٌ ممكن ومتاح عملياً. فإن العالم الإسلامي يتمتع بإمكانات وطاقات وافرة؛ عدد سكان مناسب، وأراضٍ جيدة، وموقع جغرافي ممتاز، ومصادر وموارد طبيعية هائلة في العالم الإسلامي، والطاقات البشرية المميزة والمستعدة في العالم الإسلامي من الأفراد الذين إذا أعددناهم على تعاليم الإسلام ليكونوا مستقلين، فإن بوسعهم عرض وتقديم إبداعاتهم وتفننهم في مجالات العلم والسياسة والتقنية وفي شتى الميادين الاجتماعية.
—————————————————————————————————————
من كلمة السيد الخامنئي خلال لقاء مسؤولي النظام الإسلامي وضيوف مؤتمر الوحدة الإسلامية في ذكرى ولادة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والإمام الصادق (عليه السلام)_29-12-2015