الحالة السياسية في عصر الإمام الجواد عليه السلام
إن معلوماتنا التاريخية عن حياة الإمام الجواد عليه السلام قليلة، والسبب في ذلك يعود إلى المضايقات السياسية التي كان ينتج عنها إخفاء الأخبار المتعلقة بالأئمة عليهم السلام ليكونوا في مأمنٍ يقيهم شر الأعداء.
والسبب الآخر عدم استمرار حياة الإمام عليه السلام طويلاً، حتى يمكن الحصول على أخبار بشأنها.
وفي الوقت ذاته فإن الدولة العباسية كان السر في نجاحها وانطلاقها في بداية الأمر هو ربطها بأهل البيت عليهم السلام، حيث تحكم العباسيون، وتسلطوا على الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وطلب حق آل البيت عليهم السلام تحت شعار الرضا لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن هنا فإنه من الطبيعي أن يكون الخطر الحقيقي الذي يهدد العباسيين وخلافتهم هو من العلويين الذين كانوا أقوى منهم حجةً، وأقرب منهم منزلة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما المأمون العباسي فقد واجه تحديات كبيرة وخطيرة كانت تهدد كيان حكمه وتعصف به، وكان بقاؤه في السلطة يحتاج إلى الكثير من الدهاء والمناورات، لأنه كان يواجه:
1- تحرك الشيعة العنيف ضده، وثورة أبي السرايا التي عمت الكثير من الحواضر الإسلامية.
2- تكتل العائلة العباسية ضده ووقوفها إلى جانب الأمين.
3- وجود المخاطر الخارجية من جانب الدول المتربصة بالدولة الإسلامية (كالدولة البيزنطية).
وأمام هذه التحديات قام المأمون بالأمور التالية:
1- تصفيته لتحرك أخيه الأمين والقوى المتحركة القوية ضده.
2- القيام بلعبة تولية الإمام الرضا عليه السلام لولاية العهد بالإكراه ليصور للأمة أنه مع القيادة الشرعية.
3- محاربة وتصفية ثورات العلويين.
4- التصفية الجسدية للإمام الرضا عليه السلام.
التوجه لبغداد للقضاء على معارضة البيت العباسي.
إشاعة فتنة خلق القرآن لإشغال الناس بها عما يهمهم.
التوجه لمحاربة الدولة البيزنطية ودفع خطرها.
أما الأمة الإسلامية فلا شك أنها كانت تؤيد قيادة أهل البيت عليهم السلام. وكل الوقائع التاريخية والشواهد تؤيد ذلك، ومن أهمها اضطرار السلطة العباسية للدخول فيما دخلت فيه من تولية الإمام الرضا عليه السلام لولاية العهد والإيحاء بتحويل الخلافة من العباسيين إلى أهل البيت عليهم السلام.
ولكن هذا التأييد لقيادة أهل البيت عليهم السلام كان ضمن ثلاثة مستويات، وهي:
عموم الأمة التي أصبحت مؤمنة بقيادة أهل البيت عليهم السلام، دون ارتباطها بهم برباط عميق من الوعي.
المعارضون للدولة الذين يعتمدون الكفاح المسلح لإسقاطها وإقامة الحكم الشرعي.
المؤمنون الذين وعوا القيادة الشرعية وهم أصحاب الإمام الرضا عليه السلام وأنصاره.
هذه هي أهم ملامح الوضع السياسي في مطلع عصر الإمام الجواد عليه السلام.
الإمام الجواد عليه السلام والمأمون
إن دراسة وتحليل موقف الخليفتين العباسيين المأمون والمعتصم الذي تولى الخلافة من بعده، من الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام يشير بوضوح كامل إلى أهمية شخصية الإمام عليه السلام القيادية وموقعه الرفيع في النفوس، وميل الأمة إليه باعتباره الرمز الممثل لإمامة أهل البيت عليهم السلام في تلك المرحلة.
وقد قضى الإمام الجواد عليه السلام خمسة عشر عاماً من عمره المبارك في حكومة المأمون في الفترة الواقعة بين استشهاد الإمام الرضا عليه السلام سنة (203هـ) وموت المأمون سنة (218هـ). وهي معظم مدة إمامته التي دامت سبعة عشر عاماً إذ اغتيل بعد سنتين من حكومة المعتصم في سنة 220هـ.
وكان المأمون يُدرك جيداً أن الإمام الجواد عليه السلام هو الوارث الحقيقي لأبيه وهو القائد الشرعي لأمة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك تعامل في تخطيطه السياسي معه تعاملاً جاداً بصفة أن الإمام عليه السلام كان قطباً مهماً من أقطاب الساحة السياسية الإسلامية وقتذاك؛ فيما يمثله من قائد مطاع من قبل الطليعة الواعية في الأمة وما يمتلكه من مكانة واحترام في نفوس قطاعات واسعة من الأمة.
وقد أعلن المأمون تصوره هذا أمام العباسيين عندما قالوا له (حينما أراد تزويج ابنته من الإمام الجواد عليه السلام):
يا أمير المؤمنين أتزوجُ ابنتك وقرة عينك صبياً لم يتفقه في دين الله، ولا يعرف حلاله من حرامه، ولا فرضاً من سنة؟ (ولأبي جعفر عليه السلام إذ ذاك تسع سنين) فلو صبرت له حتى يتأدب ويقرأ القرآن ويعرف الحلال من الحرام. فأجاب المأمون: إنه لأفقه منكم وأعلم بالله ورسوله وسنته وأحكامه، وأقرأ لكتاب الله منكم وأعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وظاهره وباطنه وخاصه وعامه وتنزيله وتأويله منكم3. ولذلك نرى أن تعامل المأمون مع الإمام الجواد عليه السلام كان مخططاً له بعناية وحنكة. وهذا الأمر يفسر الأثر الكبير الذي أخذه زواج الجواد عليه السلام من بنت المأمون وكيف اهتم القواد والحجاب والخاصة والعمال به.
وعلى أساس ذلك فإن تظاهر المأمون بحبه وتقديره للإمام الجواد عليه السلام، والسياسة الحسنة بحسب الظاهر كانت تخفي أهدافاً له، منها:
كسب الجماهير المسلمة المُحبة لأهل البيت عليهم السلام، باعتباره من المحبين والمكرمين لآل الرسول، وهو نظير ما يقوم به السياسيون المعاصرون من رفعهم للشعارات التي تطمح الأمة إلى تحقيقها.
التغطية على جريمة قتله للإمام الرضا عليه السلام، وذلك بإظهار الحب والشفقة والاحترام لولده الجواد عليه السلام. وبهذا التصرف يستطيع المأمون أن يخدع الرأي العام.
أما الموقف الحقيقي للمأمون فقد كان ينطوي على المكر والخداع ومحاولة الانتقاص والإسقاط لهذه الشخصية العظيمة، وذلك من خلال عدة محاولات جرت من قبله، منها:
أ ـ روي في الكافي عن محمد بن الريان قال: “احتال المأمون على أبي جعفر بكل حيلة، فلم يمكنه فيه شيء، فلما اعتل وأراد أن يبني عليه ابنته (أي يزوجه) دفع إلى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون، إلى كل واحدة منهن جاماً فيه جوهر، يستقبلن أبا جعفر عليه السلام إذا قعد في موضع الأخيار، فلم يلتفت إليهن، وكان رجل يقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب، طويل اللحية، فدعاه المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره، فقعد بين يدي أبي جعفر عليه السلام، فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار، وجعل يضرب بعوده ويغني، فلما فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه يميناً ولا شمالاً، ثم رفع إليه رأسه وقال: اتق الله يا ذا العثنون4، قال الراوي: فسقط المضراب من يده والعود، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات،
قال: فسأله المأمون عن حاله، فقال: لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أفيق منها أبداً”5.
يتجلى لنا من هذه الرواية أن المأمون احتال بكل حيلة لإظهار عدم صلاحية الإمام الجواد عليه السلام للإمامة والقيادة أمام الناس وأنه أولى منه بالخلافة والقيادة، لكنه فشل في ذلك مما اضطره لسلوك أسلوب آخر يحتوي به حركة الإمام عن طريق تزويجه عليه السلام ابنته.
جرت أكثر من محاولة من قبل المأمون لإحراج الإمام الجواد عليه السلام بالأسئلة الصعبة وذلك من خلال إقحامه في مناقشات مع قاضي القضاة في ذلك الزمان يحيى بن أكثم على أن يسأله مسائل لا يعرف الجواب عنها، ومن ذلك:
سأل يحيى بن أكثم (بأمر من المأمون) الإمام الجواد عليه السلام في مجلس حضره المأمون وجمع غفير من الناس، فقال: ما تقول في مُحرِم قتل صيداً؟
فقال الإمام عليه السلام: “قتله في حل أو في حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حراً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصراً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم في النهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟”
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع، ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره.
وكانت هذه المناظرة بناءً لطلب العباسيين الذين ـ كما ذكرنا ـ استنكروا على المأمون تزويج الإمام عليه السلام ابنته.
ولما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي، قال المأمون لأبي جعفر عليه السلام: إن رأيت ـ جُعلت فداك ـ أن تذكر الفقه الذي فصلته من وجوه من قتل المحرم لنعلمه ونستفيده، فأجاب الإمام عليه السلام عن ذلك بالتفصيل6.
الإمام الجواد عليه السلام في حكومة المعتصم:
المعتصم العباسي هو أبو إسحاق محمد بن الرشيد. ولد سنة ثمانين ومائة.كان فاسد الأخلاق وأبعد ما يكون من الاعتصام بالله عز وجل، محدود التفكير ميالاً للقسوة في تعامله مع خصومه السياسيين وغيرهم. مال إلى أخواله الأتراك وكون جيشاً خاصاً به وأغدق عليهم الأموال الطائلة. وتعتبر سياسة المعتصم هذه أخطر ما واجهته الدولة العباسية في مسيرتها.
لم تكن المدة التي قضاها الإمام الجواد عليه السلام في خلافة المعتصم طويلة فهي لم تتجاوز السنتين، كان ختامها استشهاد الإمام الجواد عليه السلام على يد هذا الحاكم العباسي المنحرف، وذلك عبر خطوتين:
الأولى: استقدام الإمام عليه السلام إلى بغداد ليكون على مقربةٍ منه.
الثانية: اغتيال الإمام الجواد عليه السلام لما يمثله من خطر حقيقي على النظام الحاكم، ولما يملكه من دور فاعل وقيادي للأمة، لذلك قررت السلطة أن تتخلص منه عليه السلام.