لا شكّ أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء، حتى الأمراض وعلاجها، وله في كلّ ذلك حكمة وبصيرة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) البقرة: 29
ورد عن الإمام الصادق عن آبائه (عليهم السلام): (إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: تداووا؛ فما أنزل الله داءً إلّا أنزل معه دواءً إلّا السأم ـ يعني الموت ـ فإنه لا دواء له)
فقد يقال: أليس من الأفضل أن يخلق الله تعالى الإنسان في هذه الدنيا بنحو لا يصيبه بلاء المرض ـ وهو قادر على ذلك ـ، فيكون صحيحاً وسليماً، فلماذا يفتح عليه باب المرض؟ ليعتلْ، ثم يطلب العلاج، وهكذا فإمّا أنْ يشفى من مرضه بعد ألم، أو يبقى معلولاً، أو يموت من مرضه.
ويوجد في علم الطب جواب علمي لهذا التساؤل حيث يقال: أنَّ لكلّ مرض سببه الخاص، فان وجد نزل المرض، فإمّا سبب وراثي، أو عبر الجراثيم، أو التغذية السيئة، ونحو ذك ممّا هو مسطور في كلماتهم.
إلّا أنّ البعد الديني يفرز أجوبة أخرى مع الأخذ بنظر الاعتبار ما قاله علم الطب، فهو نظرٌ لعالم الأسباب والمسبّبات، وبحث في علل الأمراض، وهو صحيح بحسبه، ولكنَّه لا يكشف عن العلل التامة للمرض، وما هي فلسفته وحكمة وجوده، فهذا خارج عن نطاق علم الطب، كما أنَّ العقل لا يمكنه انكار وجود أسباب مجهولة للأمراض، لذا نحتاج أن يُسعفنا الشرع بجوابه
فيقال: أنَّ الشرع يرى وجود أسباب للأمراض غير تلك الأسباب المادية التي شخّصها علم الطب، وهذه الأسباب المجهولة هي فوق حدّ الماديات، لذا لم يتيَّسر لعلم الطب إدراكها، وهي في الحقيقة وجوه الحكمة من تحقّق الأمراض في نظام الوجود، فإن نظام الوجود مُحكمٌ ولا لغو فيه لشيء، بل كلّ ما فيه أوجده الله لحكمةٍ وبصيرةٍ وإنْ خفت علينا
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في الحكمة من المرض: (إنَّ المرض على وجوه شتَّى: مرض بلوى، ومرض عقوبةٍ، ومرض جُعل علةً للفناء…)
حيث بيّن الإمام (عليه السلام) ثلاث حكم رئيسة للأمراض، وهي لم ترد في مقرّرات علم الطب لما ذكرناه آنفا
وفيما يلي بيان مفصّل لوجوه الحكمة في عدم خلو نظام الكون من الأمراض، وكالتالي
1/ تربية الإنسان وتكامله وتنمية ملاكاته الروحية والمعنوية
فإنّها من أهم الحكم المقصودة من وجود الأمراض، كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): (المرض سوط الله في الأرض يؤدّبُ به عباده) ، وهذا يندرج تحت (مرض البلوى)، وهو أحد أقسام الحكمة الرئيسة التي أشار اليها الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه السابق، أي مرض الاختبار، ولا يخفى أهمية فلسفة الاختبار في تربية الانسان وتكامله وتنمية قابلياته الروحية والمعنوية والمادية
وليس المرض وحده اختباراً وامتحاناً لبني البشر، بلْ الصحة والعافية كذلك امتحان لهم: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) الأنفال: 42
وقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الملك: 2
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): أنَّه في مرض أمير المؤمنين (عليه السلام) عاده جماعة فسألوه عن حاله قائلين: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟
فأجاب ـ خلافا للمألوف ـ: (أصبحتُ بشرٍ)
فعجبوا من كلامه، وقالوا: سبحان الله! هذا كلام مثلك؟!
فقال: قال الله تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء: 35، فالخير: الصحة والغنى؛ والشر: المرض والفقر ابتلاءً واختباراً)
2/ تزكية النفس، ورقة القلب، والطهارة من الذنوب
فترتفع حُجب الغفلة عن النفس من خلال الرجوع الى الله تعالى، وتذكّر نعمه، وتتبصّر النفس الإنسانية وتزكوا وتترفع عن حطام الدنيا، كما عن النبي (صلى الله عليه وآله): (إنَّ العبد ليمرض المرض فيرق قلبه، فيذكر بعض ذنوبه التي سلفت منه، فيقطر من عينه مثل الذباب من الدمع فيُطهّره الله من ذنوبه، فإن بعثه بعثه مطهّراً، وإن قبضه قبضه مطهّراّ)
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إذا ابتلى الله عبدا أسقط عنه من الذنوب بقدر علته)
وعن الإمام السجاد (عليه السلام) قوله لمريض قد برأ: (يُهنّئُك الطَّهور من الذنوب، إنَّ الله قد ذَكَرك فاذكره، وأقالك فاشكره)
3/ تكامل الانسان
حيث يختص الإنسان المؤمن التقي بأن المرض له كمال ترتفع به درجته عند الله تعالى، كما هو المنقول عن النبي (صلى الله عليه وآله): (إنّ الرجل ليكون له الدرجة عند الله، لا يبلغها بعمله حتى يُبتلى ببلاء في جسمه، فيبلغها بذلك)
4/ عقوبة للمفسدين في الأرض والجبابرة والطغاة وكلّ من كفر بالله تعالى، وخرج عن قوانينه التي شرَّعها لعباده، كما عبّر الإمام الصادق (عليه السلام) بأنّه (مرض عقوبة)،
وعن الإمام الرضا (عليه السلام): (المرض للمؤمن تطهير ورحمة، وللكافر تعذيب ولعنة، وأن المرض لا يزال بالمؤمن حتى لا يكون عليه ذنب)
4/ سبب للموت
قد لا يكون للمرض حكمة تربوية ولا فلسفة جزائية غير أنه سبب للموت، وإن في نفس الموت لحكمة عظيمة في نظام الكون: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) : الأنبياء: 35، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنَّ الله لم ينزل داءً إلّا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلّا السام ، قالوا: يا رسول الله، وما السام؟، قال: الموت)
5/ زيادة الثواب
كما ورد: (عجبت للمؤمن وجزعه من السقم، ولو يعلم ما له في السقم من الثواب، لأحبّ ألّا يزال سقيما حتى يَلقى ربَّه عزّ وجلّ)
6/ بل يكتب للمريض ثواب ما كان يعمله في الصحة:
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رفع رأسه إلى السماء فتبسَّم، فقيل له: يا رسول الله رأيناك رفعت رأسك إلى السماء فتبسَّمت؟ قال: نعم عجبت لملكين هبطا من السماء إلى الأرض يلتمسان عبدا مؤمنا صالحا في مصلى كان يصلي فيه ليكتبا له عمله في يومه وليلته فلم يجداه في مصلاه فعرجا إلى السماء فقالا: ربنا عبدك المؤمن فلان التمسناه في مصلاه لنكتب له عمله ليومه وليلته فلم نصبه، فوجدناه في حبالك ، فقال الله عز وجل: (اكتبا لعبدي مثل ما كان يعمله في صحته من الخير في يومه وليلته ما دام في حبالي فإن عليَّ أن أكتب له أجر ما كان يعمله في صحته إذا حبسته عنه.)
وعن أبي جعفر (ع) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): (إن المسلم إذا غلبه ضعف الكبر أمر الله عز وجل الملك أن يكتب له في حاله تلك مثل ما كان يعمل وهو شاب نشيط صحيح ومثل ذلك إذا مرض وكّل الله به ملكا يكتب له في سقمه ما كان يعمل من الخير في صحته حتى يرفعه الله ويقبضه، وكذلك الكافر إذا اشتغل بسقم في جسده كتب الله له ما كان يعمل من الشر في صحته)
وعن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يقول الله عز وجل للملك الموكل بالمؤمن إذا مرض: اكتب له ما كنت تكتب له في صحته فإني أنا الذي صيرته في حبالي)
ومن المهم هنا أن نفهم حقيقة ثابتة، وهي: إنَّ الله تعالى قد سنَّ نظم كونية ثابتة في هذه الدنيا، فصارت من قبيل العلة والمعلول، والسبب والمسبَّب، وأبى إلَّا أن تجري الامور بعللها وأسبابها الطبيعية وفقا لمعطيات هذه السنن والقوانين الثابتة، ومن بين هذه السنن: أن الانسان إذا كفر وطغى وتجبّر وانحرف عن العقل والفطرة السليمة سوف تنقلب الامور من الخير الى الشر ومن الصحة الى السقم ومن الغنى الى الفقر، قال تعالى: (وما أَصابَكُمْ مِنْ مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْديكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثير) الشورى: 30. وقوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون) الروم: 41.
وان ما يصيب الناس من البلايا و الأمراض، إنَّما هو بسبب تصرفاتهم السيئة، ومن هنا نجد القران الكريم يركّز على هذا المعنى: (أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْري مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرين) الأنعام: 6، وقوله تعالى: (وتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدا) الكهف: 59.